تصحيح مفهوم العمل الصالح. محمد الغزالي

تاريخ الإضافة 28 نوفمبر, 2021 الزيارات : 759

تصحيح مفهوم العمل الصالح. محمد الغزالي

من كتاب: (مشكلات في طريق الحياة الإسلامية)

عندما ننظر إلى العبادات السماوية نجد أداءها في اليوم والليلة لا يستغرق نصف ساعة، وتجد تعاليمها تستغرق صفحة أو صفحتين، ويبقى الزمان بعد ذلك واسعًا والمجال رحبًا لفهم الحياة واكتشاف طاقاتها، وتسخيرها كلاًّ و جزءًا لخدمة الدين.

كل جهد يبذل لفهم الحياة واكتشاف طاقاتها وتسخيرها لخدمة الدين

يُسمَّى شرعًا: عملاً صالحًا، وجهادًا مبرورًا

وكل جهد يبذل في ذلك يُسمَّى شرعًا: عملاً صالحًا، وجهادًا مبرورًا، وضميمة إلى الإيمان تؤهل المرء لرضوان الله..{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (الأنبياء: 94).

ومن المستحيل إقامة مجتمع ناجح الرسالة إذا كان أصحابه جهالاً بالدنيا عجزة فى الحياة. والصالحات المطلوبة تصنعها فأس الفلاح، وإبرة الخياط، وقلم الكاتب، ومشرط الطبيب، وقارورة الصيدلى، ويصنعها الغواص فى بحره، والطيار فى جوه، والباحث فى معمله، والمحاسب فى دفتره، يصنعها المسلم صاحب الرسالة وهو يباشر كل شيء، ويجعل منه أداة لنصرة ربه وإعلاء كلمته!!

وإنه لفشل دفعنا ثمنه باهظًا عندما خبنا فى ميادين الحياة، وحسبنا أن مثوبة الله فى كلمات تقال ومظاهر تقام.

تخيل رجلا وصل إلى الحكم وقال لأتباعه: أمامكم أجهزة الدولة أديروها لإثبات وجودكم وتحقيق أهدافكم.. فإذا هم يتركون الأجهزة عاطلة، ويجتمعون بين الحين والحين للهتاف باسمه! إنه لو طردهم من ساحته ما بغى عليهم، ولو أمر الحراس بضربهم ما ظلمهم، إنهم مخربون لا مخلصون!

ومن قديم رأى نفر من العابدين أن يحصروا عبادتهم فى الصلوات والأذكار، يبدئون ويعيدون ويظنون أن الأمم تقام بالهمهمة والبطالة، فمن ينصر الله ورسوله؟ إذا كان أولئك جهالاً بالحديد وأفرانه ومصانعه؟ والله يقول فى كتابه: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} (الحديد: 25).

إن هناك سبعين صناعة مدنية وعسكرية تتعلق بالنفط واستخراجه والانتفاع بمشتقاته، لا نعرف منها شيئًا، فهل تُخدَم عقيدة التوحيد وما ينبنى عليها بهذا العجز المهين..إنه لو قيل لكل شيء فى البلاد الإسلامية: عُدْ من حيث جئت، لخشيتُ أن يمشى الناس حفاة عراة، لا يجدون- من صنع أيديهم- ما يكتسون، ولا ما ينتعلون، ولا ما يركبون، ولا ما يضيء لهم البيوت. بل لخشيت أن يجوعوا لأن بلادهم لا تستطيع الاكتفاء الذاتى من الحبوب!!

إنه لفشل دفعنا ثمنه باهظًا عندما خبنا فى ميادين الحياة، وحسبنا أن مثوبة الله فى كلمات تقال ومظاهر تقام.

إن الله لا يقبل تدينًا يشينه هذا الشلل المستغرب، ولا أدرى كيف نزعم الإيمان والجهاد ونحن نعانى من هذه الطفولة التى تجعل غيرنا يطعمنا ويداوينا؟! ويمدنا بالسلاح إذا شاء.

إنها طفولة تستدعى الكافل المهيمن، والحديث عن إنجاح رسالة ما- ونحن فى طوقها-حديث يثير الهزء، فما للأطفال وتكاليف الأبطال؟!

ولقد راقبت الكثير من الشبان الذين يستحبون خدمة دينهم، وأفزعنى أن الخلط الموروث يهيمن عليهم؛ إنهم لا يحسبون عرق الجبين فى البحث عن البترول، أو تلوث الجبهة وراء آلة دوارة، لا يحسبون ذلك جهادًا، إن الجهاد فى وهمهم تلاوات وأوراد، وتكرار ما تيسر من ذلك ما دام فى الوقت متسع.

وقد رأيت صيدليًّا مشغولاً ببحث قضية “صلاة تحية المسجد” فى أثناء خطبة الجمعة، ومهتمًّا بترجيح مذهب على مذهب، فقلت له: لماذا لا تنصر الإسلام فى ميدانك، وتدع هذا الموضوع لأهله؟

إن الإسلام فى ميدان الدواء مهزوم! ولو أراد أعداء الإسلام أن يسمموا أمته فى هذا الميدان لفعلوا، ولعجزتم عن مقاومته!

أفما كان الأولى بك وبإخوانك أن تصنعوا شيئًا لدينكم فى ميدان خلا منه، بدل الدخول فى موازنة بين الشافعى ومالك؟

وسألنى طالب بأحد أقسام الكيمياء عن موضوع شائك فى علم الكلام! فقلت فى نفسى: إن جائزة “نوبل” لهذا العام قُسّمت بين نفر من علماء الكيمياء ليس فيهم عربى واحد، وحاجة المسلمين إلى الاستبحار فى علوم الكيمياء ماسة، وقد أوردت فى بعض كتبى كيف أباد الروس قرية أفغانية عندما شنوا عليها حربًا كيمياوية، وذهب الضحايا فى صمت، وتسامع جمهور المسلمين بالنبأ وهو لا يدرى شيئًا عما كان أو يكون.

قلت للطالب السائل: إن ما تسأل عنه درسناه قديمًا ، وحكايته كيت وكيت، وخير لك أن تنصرف عن هذا الأمر وأن تقبل بقوة على ما تخصصت فيه، إننا فقراء إلى النابغين فى المادة التى تتعلمها، وأغنياء عن المشتغلين بالفلسفات الكلامية..

واستتليت ضاحكًا: كانت الكيمياء قديمًا تهتم بتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وتحدث الشعراء عن كيمياء الحظوظ التى ترفع السفلة إلى مناصب العلا!

وسألنى الطالب وهو يضحك أيضًا عن كيمياء الحظوظ هذه؟ فذكرت له بيتى ابن الرومى:

إن للحظ كيمياء إذا ما *** مسَّ كلبًا أحاله إنسانًا

يرفع الله ما يشاء متى شــــــــ *** ــــــــاء كما شاء كائنًا ما كانا!

والحظوظ قد تلعب دورًا فى الحياة، ولكنه ثانوى محدود؛ أما ارتفاع الأمم وانخفاضها فيرجع إلى قوانين صارمة وأقدار جادة، والمسلمون لم يُظلَموا عندما هُزموا فى سباق الحياة! إنهم شوهوا معنى التدين فانهزموا بجدارة.

وعدت أقول للطالب: تعمق فى علوم الكيمياء؛ فهذا أجدى على الإسلام من انكبابك على بعض قراءات دينية تخصصية ليست مطلوبة منك، وحسبك من فقه الدين ما ينطبع فى فؤادك وأنت تقرأ القرآن الكريم، ثم سر وراء نبيك البطل صلى الله عليه وسلم وتعلم منه كيف غيّر الدنيا باسم الله.

وانصرفت عن الطالب الحائر وما أدرى هل اقتنع أم لا؟!

إنه مع كثير من الشباب يظنون التقوى: بذل وقت أكبر فى القراءات الدينية، والأخذ بقدر يسير من شئون الدنيا وعلوم الحياة؛ ولعمرى إن الإسلام لا يكسب خيرًا من هذا المسلك، ولا تنتصر عقائده إذا كان أهله فى بلاهة الهنود الحمر، وكان أعداؤه يملكون مكوك الفضاء!!

املك ناصية الحياة بعلم واقتدار، تقدر على نصرة الحق الذى تعتنق، أمَّا قبل ذلك فهيهات؛ ولسوف يسبقك الدهاة والشطار.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 1 فبراير, 2024 عدد الزوار : 280 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم