شرح أسماء الله الحسنى
(34) الحليم
أولا / المعنى اللغوي:
الحلم: له عدّة معانٍ، منها: الأناة والعقل، ومن شواهده قوله تعالى: {أم تأمرهم أحلامهم بهذا} (الطور:32) بمعنى: عقولهم، وليس الحلم في الحقيقة العقل، لكن فسروه بذلك لكونه من مسببات العقل.
والحِلْمُ بهذا المعنى نقيض السَفَه، لأن السفه خفة وعجلة، وفي الحلم أناة وإمهال.
والسفه في الأصل: قله المعرفة بوضع الأمور مواضعها، وهذا يوجب أنه ضد الحلم، لأن الحلم يقتضي بعض الحكمة.
ومن معانيه: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، لأنّه تأنِّ وسكون عند الغضب أو المكروه مع وجود القدرة والقوّة، ويُقال: هو ترك العجلة والطيش.
وكلّ هذه المعاني تدور حول التأنّي والاحتمال، فكان نوعاً من الصبر إلا أن في الحلم الصفح وأمن المؤاخذة.
ثانيا / المعنى في حق الله تعالى:
الحليم هو الذى لا يسارع بالعقوبة ، بل يتجاوز الزلات ويعفو عن السيئات .
يقول ابن كثير: “يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه وهو يحلم، فيؤخر وينذر ويؤجل ولا يعجل، ويستر آخرين ويغفر”.
ثالثا / وروده في القرآن الكريم والسنة المطهرة:
ورد اسم (الحليم) في كتاب الله إحدى عشرة مرّة، تارةً مقرونة بالمغفرة كقوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم} (البقرة:225)
وتارةً مقرونة بالغنى كقوله تعالى: { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم} (البقرة:262)
ومرّةً بصفة الشكور، قال تعالى: { إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم} (التغابن:17)
وأحياناً بصفة العلم، قال تعالى: { ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم} الحج:59.
وفي السنّة جاء في قول النبي – صلى الله عليه وسلم-: (إن الله عز وجل حليم حيي ستّير، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر) رواه النسائي.
رابعا / تأملات في رحاب الاسم الجليل:
اسم الله الحليم يدلّ على أنه ذو الصفح والأناة، فلا يستفزه غضب، ولا يستخفه جهل جاهل، ولا عصيان عاص.
والصفح لا يُعدّ حلماً حتى يكون ممّن يوصف بالقدرة، فالعاجز عن المعاقبة لا يُسمّى حليماً لأنه مقهورٌ لا يملك دفعاً للأذى، فالقدرة إذاً من مقتضيات معنى الحلم، قال تعالى: { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} النحل:61
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى لا يُعجّل بالعقوبة على المذنبين مهما تعاظمت ذنوبهم أو أصرّوا على عصيانهم واستمرّوا في قبيح فعالهم، ولكن يؤخّرهم ويؤجّلهم ويمهلهم، ويُعطيهم الفرصة تلو الأخرى للتوبة والإنابة.
وحلم الله سبحانه وتعالى، نلاحظه من خلال تأمّل أحوال العاصين كيف يُمدّون بالنعم ويُرزقون بالأرزاق والأقوات على الرغم من جحودهم وزللهم، فليس الأمر مقتصراً على تأخير العقوبة أو الصفح عن الذنب، قال تعالى: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا )20الإسراء
يقول الحليمي: “إنه الذي لا يحبس إنعامه وأفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم، ولكنه يرزق العاصي كما يرزق المطيع، ويبقيه وهو منهمك في معاصيه كما يبقي البر التقي، وقد يقيه الآفات والبلايا وهو غافل لا يذكره فضلاً عن أن يدعوه كما يقيها الناسك الذي يسأله وربما شغلته العبادة عن المسألة.
حلم الله على العصاة من عباده :
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِيْ، يَا ابْنَ آَدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ لَو أَتَيْتَنِيْ بِقِرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيْتَنِيْ لاَ تُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَةً” رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيْثٌ حَسَنٌ
ومعنى الحديث: يا ابن آدم طالما أِنَّكَ تدَعَوني وَترَجَونِيْ مستغفرًا لذنبك فتيقن أني سأغفر لك فأستر أثر ذنبك في الدنيا وأنجيك من العقوبة في الآخرة “عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ” أي على ما كان منك من الذنوب والتقصير.” وَلاَ أُبَالِي” أي لا أهتم بذلك.
يَا ابْنَ آَدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ يعني: من كثرتها وتراكمها بلغت عنان السماء, أي: السحاب العالي، ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ.
يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ لَو جئتني بعد الموت”بِقِرَابِ الأَرْضِ” أي مايقاربها، خطايا, ثم لقيتني مخلصًا لا تشرك بي شيئًا لأَتَيْتُكَ بملء الأرض مغفرة, وهذا من عظيم رحمة الله – جل جلاله – بعباده, وإحسانه لهم ، وإلا فمقتضى العدل أن يعاقبه على الخطايا، لكنه جل وعلا يقول بالعدل ويعطي الفضل.
وفى الأثر أن الله سبحانه يقول:” إني والإنس والجن في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، أرزق ويشكر سواي ، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلىّ صاعد ، أتودد إليهم بالنعم وأنا الغنى عنهم ! ويتبغضون إلىّ بالمعاصي وهم أفقر ما يكونون إلى ، أهل ذكرى أهل مجالستي ، من أراد أن يجالسني فليذكرني ، وأهل طاعتي أهل محبتي ، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا إلى فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب المعايب ، من أتاني منهم تائباً تلقيته من بعيد، ومن أعرض عنى ناديته من قريب ، أقول له : أين تذهب؟ ألك رب سواي ، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد ، والسيئة عندي بمثلها وأعفو ، وأنا أرحم بعبدي من الأم بولدها (1)”
وذكر ابن القيم – رحمه الله – عن بعض العارفين أنه رأى في بعض السكك بابًا قد فُتِح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمُّه خلفه تطرده، حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكرًا، فلم يجد مأوى غير البيت الذي أُخرِج منه، ولا مَن يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزينًا، فوجد الباب مرتجًا مغلقًا، فتوسَّده ووضع خدَّه على عتبة الباب، ونام، فخرجت أمُّه، فلمَّا رأته على تلك الحال، لم تملك أن رمت بنفسها عليه، والتزمته، تقبِّله وتبكي، وتقول: يا ولدي، أين تذهب عنِّي؟ مَن يُؤويك سواي؟! أين تذهب عنِّي؟ مَن يؤويك سواي؟! ألم أقل لك: لا تخالفني، ولا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك، وإرادة الخير لك؟ ثم ضمته إلى صدرها، ودخلت به بيتها، فتأمل قولها: لا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبِلت عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك.
وتأمَّل قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها)، فأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟!
فحلم الله على العبد في إمهاله، ولو شاء الله لعاجَلَه بالعقوبة، كما في الحديث عن أبي ذر عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيما روى عن الله – تبارك وتعالى – أنه قال: “يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلاَّ مَن هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلاَّ مَن أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا مَن كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أوَّلكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلَّ إنسان مسألته ما نقص ذلك ممَّا عندي إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أُدخِل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه “صحيح مسلم.
قال سعيد بن عبدالعزيز: كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثَا على ركبتيه إعظامًا له.
حلم الله وإملائه للظالمين :
وحلم الله ليس مجهول المدى وليس متواصل إلى لانهاية ، بل له موعد محدد لا يتأخر ، ولهذا قال سبحانه: “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر: 49، 50]، وصح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته”، قال: ثم قرأ: “وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ”هود: 102.
نعم يملي للظالم، الإملاء لا بسبب العجز ولا الضعف، حاشاه جل في علاه، وإنما هو من كمال عدله وحلمه وحكمته وعلمه، فليس حلمه -جل وعلا- محفوفًا بالقدرة فقط، بل بالقدرة وبالعلم وبالحكمة البالغة، فقد يحلم فيمهل طويلاً في موطن ما، ويعجل العقوبة في موطن آخر، بل قد يقضي بتأخر العقوبة الكاملة إلى الآخرة دون الدنيا على الكثيرين؛ ولهذا قال سبحانه: “لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ”آل عمران: 196، 197
وقد جاء في الحديث أن تعجيل العقوبة للعصاة في الدنيا خير من تأخيرها لهم، ولهذا أورد ابن حجر حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إذا أراد الله بعبد خيرًا عجّل له عقوبته في الدنيا، وإذا أراد به شرًّا أمسك عن عقوبته، فيرد القيامة بذنوبه”. نسأل الله العافية والسلامة في الدنيا والآخرة.
ولأن الإنسان ، علمه محدود، وصبره محدود، فإنه يعجز عن إدراك حكمة الله ، و يتعجب عجبًا شديدًا كيف يحلم الله القوي القهار المقتدر على عصاة المجرمين والظلمة المستكبرين؟!!
هناك حكمة، هكذا يعتقد المؤمن، نعم الحكمة في إمهالهم يقينية ثابتة لكنها عنا مخفية، والحلم في مثل هذه الأوضاع آية من آيات الله، وابتلاء من ابتلاءات الله، ولذلك يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حديث عبد الله بن القيس: “ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، إنهم يجعلون له ندًّا ويجعلون له ولدًا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم”. أخرجه أحمد.
حتى الصالحون عجبوا من حلم الله تعالى في بعض المواقف على الطغاة، سعيد بن جبير التابعي الجليل تلميذ ابن عباس -رضي الله عنهم-، سعيد بن جبير العالم الصالح الصادق في الحق، كان له موقف مع طاغية ذلك الزمان الحجاج بن يوسف، فقبل أن يقتله الحجاج دار بينه وبين الحجاج حوار، وكان منه أن سأله الحجاج: اختر -يا سعيد- أي قتلة أقتلك؟! قال سعيد: اختر أنت لنفسك، فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة. قال الحجاج: أتريد أن أعفو عنك؟! قال سعيد: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر.
قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج ضحك فأخبر الحجاج بذلك، فردوه إليه. قال الحجاج: ما أضحكك؟! قال سعيد: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك. فأمر بالنطع فبسط، وقال: اقتلوه. قال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين. قال الحجاج: وجهوا به لغير القبلة. قال سعيد: فأينما تولوا فَثَمَّ وجه الله. قال الحجاج: كبوه على وجه. قال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى. فصاح الحجاج وقال: اذبحوه. قال سعيد: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، خذها مني -يا حجاج- حتى ألقاك بها يوم القيامة، اللهم لا تسلطه على أحد بعدي.
وقتل سعيد، ولكن بعد مقتله صار الحجاج يصرخ كل ليلة: “مالي ولسعيد بن جبير!!، كلما أردت النوم أخذ برجلي”، واستجاب الله دعوة سعيد، فبعد خمسة عشر يومًا فقط مات الحجاج ولم يسلط على أحد بعده. رحم الله سعيد بن جبير.
حلم الله تعالى على الجبابرة السفاحين يحار الناس منه لوهلة، ولكن المؤمن سرعان ما يتذكر القرآن ويأوي إلى ربه الرحمن، سبحانه إذ يقول: “وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ”الحج: 48، لقد أصبح حلمه تعالى غرورًا للظلمة وفتنة لهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” إن الله تعالى لا يعجل لعجلة أحدكم “
قال مسعر بن كدام -رحمه الله-: “أناة الله حيّرت قلوب المظلومين، وحلم الله بسط آمال الظالمين!”.
وقال بعض الحكماء: “اذكر عند الظلم عدل الله فيك، وعند القدرة قدرة الله عليك، لا يعجبك رَحْبُ الذراعين سفَّاكُ الدماء -لا يعجبك طول بقائه- فإن له قاتلاً لا يموت”.
وإذا كان يزيد بن حاتم يقول: “ما هبت شيئًا قط غير هيبتي من رجل ظلمته وأعلم أن لا ناصر له إلا الله، فيقول: حسبي الله، الله بيني وبينك، ما هبت شيئًا مثل ذلك”.
ولذلك فإن دعاء المظلوم قد يكون فيه نهاية الحلم، فيقضي الله تعالى أن يستمر حلمه إلى حين دعاء معين من مظلوم مضطر فتحين ساعة الانتقام.
الثقة في وعد الله للمؤمنين بالنصر والتمكين :
لكن من يظن أن الله يرفع الباطل على الحق وأن الحق يزول ويذهب وأن الباطل يستمر هذا ما قدر الله حق قدره، فإن الله جل وعلا لا يليق بحكمته أن يرفع الباطل على الحق رفعا مستمرا وإن حصل شيء على أهل الحق من الهزيمة أو من النكبة فإن هذا شيء مؤقت، فإذا تابوا ورجعوا إلى الله أعاد الله لهم العزة والكرامة، فالباطل لا يعلو على الحق دائما، والذي يظن ذلك ما قدر الله حق قدره لأنه اتهم الله بالعجز أن ينصر الحق وأن ينصر أولياءه، لكن قد يصل شيء على أهل الحق من النقص والهزيمة والفتنة إذا حصل منهم خلل، فإذا أصلحوا خللهم عادت إليهم عزتهم وعادت إليهم مكانتهم، والباطل يزول ويضمحل وإذا ارتفع فهو مثل الدخان يعلو ثم ما يلبث أن يذهب وينقشع لكن الحق يبقى دائما وأبدا(وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )القصص: من الآية 83،
ولما تخلف المنافقون على الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءوا يعتذرون إليه(شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً . بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَد) [الفتح: من الآيات 11 ، 12]، فالذي يظن أن الله ينصر الباطل على الحق وأن الحق زائل والباطل باق فهذا ظن بالله ظن السوء ولم يقدر الله حق قدره.
ما الحكمة من تأخير العذاب والإهلاك لمن كفر بالله تعالى ؟
ذكر الله تعالى في كتابه حِكَماً كثيرة لذلك ، ومنها:
1. أنه تعالى غفور رحيم ، وإنما يؤخر إهلاكهم لأجل أن يتوبوا ويُسلموا.
قال الله تعالى : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ) الكهف/58.
والمعنى : وربك الساتر يا محمد على ذنوب عباده بعفوه عنهم إذا تابوا منها، وهو ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذ هؤلاء المعرضين عن آياته بِمَا كَسَبُوا من الذنوب والآثام لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ، لشناعة ما يرتكبونه ، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة ، فهو يمهل ولا يهمل ولرحمته بخلقه غير فاعل ذلك بهم إلى ميقاتهم وآجالهم.
2. أن من صفاته تعالى الحلم ، ومن أسمائه الحسنى الحليم ، فهو لا يعجل بالعقوبة ، بل يمهل لخلقه من غير إهمال ، ولن تفوته عقوبتهم لو أراد ، كما هو الحال في البشر، لأن العجلة من شأن من يخاف فوات الفرصة ، ورب السموات والأرض لا يفوته شيء أراده.
3. أن عذاب الكفار حاصل ولا شك في الآخرة ، وأن التأخير فيه إنما لأنه لم يحن وقته الذي قدَّره الله تعالى عليهم ، وهو يوم القيامة؛ قال الله تعالى : ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) هود/110.
وقال تعالى : ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) طه/129.والآية فيها تقديم وتأخير، تقديره : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجلٌ مسمّى لكان لزاماً ، والكلمة : الحُكم بتأخير العذاب عنهم ، أي : ولولا حكمٌ سبق بتأخير العذاب عنهم وأجلٌ مسمى ، وهو القيامة.(لَكَانَ لِزَاماً ) أي : لكان العذاب لازماً لهم ، كما لزم القرون الماضية الكافرة.
4. وأما من كفر نعمة ربه , ولم يتعرض لرحمته ، وأصر على كفره وعناده ، فإن في تأخير العذاب عنه زيادة في إثمه ، حتى يوافي ربه العزيز المنتقم ، وقد ازداد إثمه ، وأحاط به جرمه ، وانقطع عذره ، وذهبت حجته:قال الله تعالى : ( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَام ٍ) ابراهيم/47 وقال تعالى : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) آل عمران/178.
والمعنى : إنما نؤخر آجالهم فنطيلها ليزدادوا إثماً ، يقول : يكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم وتكثر.
وقال تعالى : ( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ) مريم/85.
فلا تعجل على هؤلاء الكافرين بطلب العذاب لهم والهلاك يا محمد، فإنما نؤخر إهلاكهم ليزدادوا إثماً ، ونحن نعدّ أعمالهم كلها ونحصيها حتى أنفاسهم لنجازيهم على جميعها ، ولم نترك تعجيل هلاكهم لخير أردناه بهم ، فيا له من وعيد وتخويف ، و يا له من بأس وانتقام ، حين يعد الجبار الجليل ، للمجرم الآبق ما يستحقه على جرمه ، حين لا مفر له ولا مهرب.
عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)”.رواه البخاري ومسلم
فما أحلم الله على العصاة من عباده!! وما أجهل البشر بأسماء الله وصفاته، وعن رحمته وحلمه، فالله يريد للناس الرحمة والإمهال، ولكن الأجلاف والجهال منهم يرفضون تلك الرحمة وذلك الإمهال، حتى يسألون الله أن يعجل لهم العذاب والنقمة، كما قال سبحانه عن كفار مكة: “وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ”الأنفال: 32
كان الصواب أن يقولوا: إن كان هذا الذي جاء به محمد هو الحق فاهدنا له، بدل أن يقولوا: أنزل علينا حجارة، نسأل الله العافية.
فلولا حلم الله عن الجناة، ومغفرته للعصاة، لما استقرت البحار والسموات والأرض لغضبهما وحنَقهما على العصاة، لما يحصل من شدة الكفر وعظيم الجرائم، ومن ذلك قال تعالى: “وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا”مريم: 88 – 91
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، وعلى عفوك بعد قدرتك.
خامسا / ثمار الإيمان بالاسم الجليل:
1. ظهور كمال الله سبحانه وتعالى، لأن إمهاله لعباده مقرونٌ بكمال قدرته وكمال علمه وكمال غناه عن خلقه، ولم يكن عن ضعف وعجز،: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا} (فاطر:44)، ولم يكن عن جهلٍ بأعمال عباده: {والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما} (الأحزاب:51)، وليس عن حاجةٍ لعباده مقتضيةٍ لإرجاء المؤاخذة بالذنب: {والله غني حليم} البقرة:262
2. تبيَّنُ مدى النعمة التي أنعم الله بها على عباده العصاة، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة رغم استحقاقهم لها، مهما بلغت ذنوبهم من الفظاعة والشناعة والإجرام في حقّ خالقهم، ولكن يؤخّرهم المرّة تلو الأخرى
يقول الشيخ سلمان العودة : لو تأملت في هذه اللحظة وتخيلت الدنيا كلها وامتداد البشر فيها في الشرق والغرب !! وتصورت كم معصية تقع الأن في الدقيقة والثانية من غش وظلم وكذب وشرك وسرقه وفواحش؛ لأدركت جانبا من حلم الله تعالى وصبره على عباده.
3. الرجاء، فحلم الله تعالى يعطي فرصة ثمينة للتوبة -جعلني الله وإياكم من التوابين المتطهرين-، فعند إرادة المعصية لا تكتب في صحيفة العبد إلا بعد تحققها، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول الله: “إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثلها إلى سبعمائة ضعف”.
بل إن الله تعالى لا يعاجل العاصي لا بالعقوبة ولا بكتابة السيئة حتى بعد ارتكابه للذنب مباشرة، فقد جاء في الجامع الصغير من حديث أبي أمامة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة”. فسبحان ربي ما أحلمه، وما أرحمه.
4- ألا يغتر العبد بحلم الله عليه ، فلعله يكون استدراجا ،فهذا الحلم المصحوب بالرحمة والرأفة والكرم، يبعث الحياء من الله في القلوب الحية، كما يبعث على الخوف والحذر؛ لأن الله تعالى حذّر من قدرته على صرف القلوب بالكلية، لو شاء أن يصرفها لما قال: “قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ”الأنعام: 46.
وما أجمل قول الشاعر:
مَا أَحلمَ اللَّهَ عَنِّي حَيْثُ أَمْهَلَني **** وقَدْ تَمَادَيتُ في ذَنْبِي ويَسْتُرُنِي
5– ظهور صبره سبحانه وتعالى على عباده، وتبيّن مدى العلاقة بين صفتي الحلم والصبر، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ليس أحد أصبر على أذىً سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدا، وإنه ليعافيهم ويرزقهم )متفق عليه
وفي الحديث القدسي: (يقول الله عز وجل: يشتمني ابن آدم، وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني، وما ينبغي له أن يكذبني، أما شتمه إياي قوله: إن لي ولدا، وأما تكذيبه إياي، قوله: لن يعيدني كما بدأني) رواه البخاري.
يقول الإمام ابن القيّم تعليقاً على الحديث السابق: “وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب ويعافيه، ويدفع عنه ويدعوه إلى جنته، ويقبل توبته إذا تاب إليه، ويبدّله بسيئاته حسنات، ويلطف به في جميع أحواله، ويؤهّله لإرسال رسله ويأمرهم بأن يلينوا له القول ويرفقوا به.
6- دعاء الله تعالى باسمه الحليـــم:عن ابن عباس قال: كان النبي يدعو عند الكرب يقول “لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربِّ السموات والأرض وربِّ العرش العظيم ” متفق عليه
7- التحلي بخلق الحلم : وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشجّ ابن القيس”إنك فيك لخصلتان يحبهما الله ورسوله : الحلم والأناة”
اذاً فمن شرف هذا الخُلُق : أنّ من اتصف به يحبه الله ورسوله وهو دليل على كمال العقل وسعة الصدر وامتلاك النفسلأن الأصل في الانسان ان يتشفّى لنفسه ويعاجل بالعقوبة لمن آذاه لكن الحليم لا يلتفت الى سفاسف الأمور وانما يطلع الى معاليها ، فيبتعد المؤمن بحلمه عن الغضب والطيش والسب .
ومن أعظم الأمثلة التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته والتي تدل على سماحة خلقه وشدة حلمه وعفوه ما روته أم المؤمنين عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: (لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا بقرن الثعالب. فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني. فقال: إن الله عزَّ وجلَّ قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسَلَّم عَليَّ. ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربُّكَ إليك لتأمرني بأمرك. فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال له رسول الله: بل أرجو أن يُخرجَ اللهُ من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا).
هذا الحديث يبيّن بوضوح سماحة الأخلاق والعفو والحلم الذي جبل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي ملك الجبال في ساعة ضيق وحرج من القوم ويأتي إليه لكي ينتصر له وأي نصر؟ إنه هلاك القوم. لكن نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم بعيدة وبعيدة، فهو لا ينظر إلى الساعة التي هو فيها فقط، ولكنه ينظر إلى المستقبل البعيد، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله، فعلاً أصابت نظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج من أصلابهم آلاف الرجال الأفذاذ الذين عبدوا الله على أكمل وجه.
لقد كانت نظرة النبي – صلى الله عليه وسلم – بعيدة تجاوز فيها آلامه النفسية والجسدية واستشرف الأفق الرحب للدعوة الإسلامية، لأن هداية الناس إلى الإسلام هي الغاية التي يسعى إليها ولأن تعبيد الناس لخالقهم هو الهدف الأسمى، ومن ثم فإن سماحة خلقه صلى الله عليه وسلم وحلمه كان لها الأثر العظيم في دعوته.
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع على المشركين، فقال: (إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة).
وما أجمل قول الشاعر :
أُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ جَهْدِي = وَأَكْرَهُ أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا
وَأَصْفَحُ عَنْ سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا= وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السِّبَابَا
وَمَنْ هَابَ الرِّجَالَ تَهَيَّبُوهُ = وَمَنْ حَقَرَ الرِّجَالَ فَلَنْ يُهَابَا
وينبغي على المسلم أن يقابل الإساءة بالإحسان والجهالة بالحلم فذاك يرفع قدره عند الله ، ولا يلتفت لكل من جهل عليه.
وسب رجل الشعبي فقال:إن كنت صادقاً فغفر الله لي وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.
ورحم الله من قال:
يخاطبني السفيه بكل قبحٍ و آبى أن أكون له مجيباً
يزيد سفاهةً و أزيد حلماً كعودٍ زاده الإحراق طيباً
(1)الأثر أخرجه الطبراني وابن عساكر والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الدرداء –رضي الله عنه- ، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة ، وقد ذكره بنصِّه غير واحد من أهل العلم، كالإمام ابن تيميَّة ذكره في ” مجموع الفتاوى ” (14/319) حيث قال : ” وقد جاء فى بعض الأحاديث : ( يقول الله تعالى : أهل ذكري أهل مجالستي ، وأهل شكري أهل زيادتي ، وأهل طاعتي أهل كرامتي ، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، أي محبهم ، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأكفر عنهم المعائب)
وذكره ابن القيم رحمه الله في ” مدارج السالكين ” في منزلة التوبة (1/194) من غير عزو لكتاب.
، وأخرج نحوه مختصراً ابنُ أبي الدنيا -في كتاب الشكر- عن مالك بن دينار رحمه الله قال: (قرأتُ في بعض الكتب أنَّ الله يقول: وذكر نحوه ، وروي من طرق أخرى، وكلها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه يستأنس بها، ولا يزالُ أهل العلم ينقلونها في كتبهم كأثر من الآثار التي يستأنس بها .
وقال الشيخ المنجد بعد أن بين ضعف الحديث : ومع ذلك فمعنى الحديث صحيح مقبول ، وليس فيه ما ينكر ، إلا أنه لا تجوز نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم
وأفتى الشيخ ابن باز رحمه الله بجواز روايته وقام بشرحه فقال: هذا الحديث ليس بصحيح، وإنما هو من أخبار بني إسرائيل التي قال فيها النبي ﷺ حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ولكن معناه صحيح، فإن أكثر الخلق كفروا نعم الله ولم يعبدوه وحده، بل عبدوا الشياطين، وعبدوا الهوى، وعبدوا الأصنام والقبور وغير ذلك، فالمعنى صحيح يقول جل وعلا فيما يروى في هذا الأثر القدسي: “إني والجن والإنس في نبأ عظيم” صحيح خبرًا عظيم نبأً عظيم، «أخلق ويعبد غيري»، هو خلاق جل وعلا لجميع الخلق، الله خالق كل شيء، وهو سبحانه وحده الخلاق العليم، وهو القائل سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. وأرزق ويشكر سواي، يعني: يشكر في الغالب غير الله يشكر زيد وعمرو وينسى الله هذا حال الأكثرين.
وتمام الأثر: خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم ويتبغضون إلي بالمعاصي وهذا واقع من أكثر الخلق، فالواجب على المكلف الواجب عليه أن يعبد الله وحده ويشكره على نعمه بطاعته، يشكره ويثني عليه سبحانه.
وأعظم الشكر طاعة الأوامر وترك النواهي مع الثناء على الله جل وعلا، وهو القائل : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي[البقرة:152] وهو القائل جل وعلا: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].
فالواجب على جميع العباد من الجن والإنس من الرجال والنساء أن يعبدوا الله وحده، بدعائهم وخوفهم ورجائهم وصلاتهم وصومهم وغير هذا من العبادات كلها لله وحده، وأن يشكروه على إنعامه من الصحة والمال والزوجة والذرية وغير ذلك، وهكذا المرأة تشكر الله على زوجها على ذريتها على صحتها على ما أعطاها من الأرزاق، هكذا على جميع الجن والإنس عليهم الشكر لله والطاعة لله وعبادته خلقوا لهذا الأمر، الله ما خلقهم عبثًا ولا سدى خلقهم ليعبدوه وأمرهم بهذا قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، وقال عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[الإسراء:23] يعني: أمر.
فالواجب على الجميع أن يعبدوا الله وحده بالصلاة والصوم والدعاء والاستغاثة به سبحانه، والحلف به جل وعلا وغير هذا من العبادات كلها لله وحده ، كما قال سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ[البينة:5]، فعلى العبد رجلًا كان أو أنثى على جميع العباد الرجال والنساء العرب والعجم الجن والإنس الملوك وغيرهم عليهم جميعًا أن يعبدوا الله وأن يتقوه ويطيعوا أوامره بصلاتهم وصومهم وغير ذلك وينتهوا عن نواهيه فلا يعصوه جل وعلا وعليهم أن يشكروا نعمه فيصلوها بطاعته.
ومن شكرها طاعتهم لله، وترك معصيته، هذا من شكر النعم، نعمة الصحة نعمة الأمن نعمة المال نعمة الذرية نعمة التجارة إلى غير هذا، هذا الواجب على جميع الثقلين أن يعبدوا الله وحده بصلاتهم وصومهم ودعائهم وغير ذلك، وأن يتبرءوا من عبادة ما سواه، وأن يشكروه في جميع إنعامه، يشكروه على جميع نعمه بطاعة الأوامر وترك النواهي، والثناء على الله، يحمده سبحانه ويثني عليه بأنه الكريم بأنه الجواد بأنه المحسن ويطيع أوامره، وينتهي عن نواهيه، ويقف عند حدوده، ويسارع إلى مراضيه، ويبتعد عن معاصيه هكذا المؤمن وهكذا المؤمنة، وهذا هو الواجب على الجميع، وهذا هو الشكر الذي أمر الله به، وفق الله الجميع.
والرابط هنا: http://www.binbaz.org.sa/mat/10551