حادثة الإفك دروس وعبر
في غزوة بنى المصطلق أو غزوة المريسيع سمع النبي -صلى الله عليه وسلم – بأن قبيلة بني المصطلق تعد العدة لغزو المدينة، فما كان منه إلا أن جمع جيشه وانطلق إليهم مسرعا، وكان خروجه -صلى الله عليه وسلم – من المدينة في 2 شعبان سنة 6 هـ فباغتهم عند منطقة تعرف بماء المريسيع، وعندها انتصر المسلمون انتصارًا كبيرًا وغنموا غنائم ضخمة ، وفي طريق الرجوع حدثت حادثة الإفك.
عناصر الخطبة:
أولا/ حادثة الإفك كما ترويها عائشة.
ثانيا/ حادثة الإفك دروس وعبر
أولا/ حادثة الإفك كما ترويها عائشة.
وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما هذه الحادثة كما ترويها عائشة -رضي الله عنها- قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد ما أنزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي ([1])وأنزل فيه .
حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل ، فلمست صدري ، فإذا عقدي من جزع ظفار ([2]) قد انقطع ، فرجعت ، فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه .
وأقبل الرهط([3]) الذين كانوا يرحلوني فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري ([4])الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه ، وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ([5]) ، ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة ([6])من الطعام فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن([7]) ، فبعثوا الجمل وساروا .
ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت
وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش ، فأدلج فأصبح عند منزلي([8]) ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني ، وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب علي ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، ووالله ما يكلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يدها ، فركبتها .
فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين([9]) في نحر الظهيرة ، فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول :«كيف تيكم» ؟([10]) فذاك يريبني ولا أشعر بالشر .
حتى خرجت بعد ما نقهت([11]) ، وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع -وهو متبرزنا – ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا ، فانطلقت أنا وأم مسطح -وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب – فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح .
فقلت لها : بئس ما قلت! أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ قالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟قلت : وماذا؟
فأخبرتني بقول أهل الإفك ؛ فازددت مرضا إلى مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال : «كيف تيكم»؟ قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما ، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فجئت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ما يتحدث الناس؟
فقالت : يا بنية ، هوني عليك ، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها ([12]).
فقلت : سبحان الله ! وقد تحدث الناس بهذا ؟
فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله ، فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود ، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا .
وأما علي بن أبي طالب فقال : لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك .
قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال : «أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة» ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله .([13])
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول ([14])، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو على المنبر -:«يا معشر المسلمين ، من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي .
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك .
فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن اجتهلته الحمية – فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله .
فقام أسيد بن حضير -وهو ابن عم سعد بن معاذ – فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله ، لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين
فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت ، وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي .
فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي .
فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلم ثم جلس ، ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال :
(أما بعد يا عائشة ؛ فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ؛ فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه)
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال!! فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت -وأنا جارية حديثة السن ، لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم ، وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة -والله يعلم أني بريئة – لا تصدقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر -والله يعلم أني بريئة – لتصدقونني ، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} .
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن -والله- ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل في بأمر يتلى ، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها ؛ والله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي ، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه .
فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو يضحك – فكان أول كلمة تكلم بها أن قال : (أبشري يا عائشة ، أما الله فقد برأك) .
فقالت لي أمي : قومي إليه .فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي ، فأنزل الله عز وجل: { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) عشر آيات ، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات براءتي.
فقال أبو بكر -وكان ينفق على مسطح ؛ لقرابته منه وفقره – : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ؛ فأنزل الله عز وجل :{ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى } إلى قوله :{ألا تحبون أن يغفر الله لكم } .
فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : لا أنزعها منه أبدا .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش -زوج النبي صلى الله عليه وسلم – عن أمري :«ما علمت» ؟
فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيرا ، وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك.
معنى ما ورد في القصة من ألفاظ غريبة :
ثانيا/ دروس وعبر من حادثة الإفك
وهذه الحادثة مع ما فيها من آلام شديدة، تركت وراءها العديد من الحكم الجليلة، والفوائد الكثيرة، التي ينبغي الاستفادة منها في واقعنا كأفراد ومجتمعات، منها :
1- صدق النبي صلى الله عليه وسلم:
أظهرت هذه الحادثة صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن من عند الله، إذ لو كان القرآن من كلامه صلى الله عليه وسلم ، لكان من السهل عليه صلى الله عليه وسلم أن ينهي هذه المحنة التي آذته وآذت زوجته والمسلمين من يوم وقوعها، لكنه لم يفعل، لأنه لا يملك ذلك.
فماذا كان يمنعه لو أن أمر القرآن بيده أن ينطق بهذه الآيات من بداية هذا الإفك وهذه الإشاعة الكاذبة، ليحمي بها عرضه، ويقطع ألسنة الكاذبين؟، ولكنه ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله، قال الله تعالى: { ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين } (الحاقة47:44).
وهكذا شاء الله أن تكون هذه المحنة دليلا كبيرا على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ونبوته في وقت واحد .
2- ظهر في هذه الحادثة فضل عائشة رضي الله عنها :
فقد برأها الله من الإفك بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، يتعبد المسلمون بتلاوته، قال تعالى: { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم } (النور: 11)، فكم ارتفعت منزلتها رضي الله عنها بذلك، وقد كانت تقول كما روى البخاري : ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ومن ثم فمن اتهمها بعد ذلك بما برأها الله به، فهو مكذب لله، ومن كذب الله فقد كفر ، ويقول تعالى : {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} [النور: 26]
وحيث كان النبي صلى الله عليه وسلم أطيب الطيبين وخيرة الأولين والآخرين ؛ تبين كون الصديقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات بالضرورة، واتضح بطلان ما قيل في حقها من قبل المنافقين والباطنيين من خرافات، لأن الذي برأها من فوق سبع سموات الله تعالى .
قال ابن كثير: أي ما كان ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة، لأنه أطيب من كل طيب البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له شرعا ولا قدرا، ولهذا قال تعالى: {أولئك مبرءون مما يقولون} أي عما يقول أهل الإفك والعدوان.
3- وجوب التثبت من الأقوال قبل نشرها:
حتى لا يقع الإنسان في الكذب والظلم، ويكون سببا في نشر الإشاعات والفواحش، قال تعالى: {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} [النور:15]
ننظر إلى بلاغة الأداء القرآني في التعبير عن السرعة في إفشاء هذا الكلام وإذاعته دون وعي ودون تفكير، فمعلوم أن تلقي الأخبار يكون بالأذن لا بالألسنة، لكن من سرعة تناقل هذا الكلام فكأنهم يتلقونه بألسنتهم، كأن مرحلة السماع بالأذن قد ألغيت، فبمجرد أن سمعوا قالوا.
فلا تقبل الإشاعات إلا بدليل ولا تنقل بين الآخرين {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم} [النور:15]، {بأفواهكم} يعني: مجرد كلام تتناقله الأفواه، دون أن يدققوا فيه؛ لذلك قال بعدها {ما ليس لكم به علم..} [النور:15] وهذا الكلام ليس هينا كما تظنون، إنما هو عظيم عند الله؛ لأنه تناول عرض مؤمن، وللمؤمن حرمته، فما بالك إن كان ذلك في حق رسول الله؟ {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} [النور:16].
هذا ما كان ما يجب أن تقابلوا به هذا الخبر، أن تقولوا لا يجوز لنا ولا يليق بنا أن نتناقل مثل هذا الكلام.
فأولى الخطوات في مواجهة حرب الشائعات تربية النفوس على الخوف من الله، والتثبت في الأمور، فالمسلم لا ينبغي أن يكون أذنا لكل ناعق، بل عليه التحقق والتبين، وطلب البراهين الواقعية، والأدلة الموضوعية، والشواهد العملية، وبذلك يسد الطريق أمام الأدعياء، الذين يعملون خلف الستور، ويلوكون بألسنتهم كل قول وزور.
4- تقديم الظن الحسن:
قال تعالى: ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين) [النور:12]
يوجهنا الحق -تبارك وتعالى- إلى ما ينبغي أن يكون في مثل هذه الفتنة من ثقة المؤمنين بأنفسهم بإيمانهم، وأن يظنوا بأنفسهم خيرا وينأوا بأنفسهم عن مثل هذه الاتهامات التي لا تليق بمجتمع المؤمنين، فكان على أول أذن تسمع هذا الكلام على أول لسان ينطق به أن يرفضه؛ لأن الله تعالى ما كان ليدلس على رسوله وصفوته من خلقه، فيجعل زوجته محل شك واتهام فضلا عن رميها بهذه الجريمة البشعة.
والقرآن لا يحثهم على ظن الخير برسول الله أو زوجته، وإنما ظن الخير بأنفسهم هم؛ لأن هذه المسألة لا تليق بالمؤمنين، فما بالك بزوجة نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟
هذا وقد كان موقف الصحابة رضوان الله عليهم من قصة الإفك موقفا كريما نزيها، وقد رويت عن بعضهم كلمات في تبرئة أم المؤمنين رضي الله عنها تدل على ورعهم وقوة إيمانهم، كما تدل على نزاهة عائشة رضي الله عنها، ومقدار قيمتها في نفوس المؤمنين ، ومن هؤلاء:
– أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: فقد ذكرت عائشة رضي الله عنها قالت: وكانت أم أيوب الأنصارية قالت لأبي أيوب: أما سمعت ما يتحدث الناس به؟، فحدثته بقول أهل الإفك، فقال: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، وفي رواية: أن أم أيوب قالت: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟، قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة؟ قالت: لا والله، ما كنت فاعلة، قال: فعائشة والله خير منك.
- ومنهم سعد بن معاذ رضي الله عنه: فعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {سبحانك هذا بهتان عظيم} قال: يعني ألا قلتم مثل ما قال سعد بن معاذ الأنصاري في أمر عائشة رضي الله عنها {سبحانك هذا بهتان عظيم}.
- ومنهم زينب بنت جحش رضي الله عنها: فإنها أثنت على عائشة رضي الله عنها، ولم تتهمها حين استشارها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من ثناء أسامة بن زيد رضي الله عنه على عائشة، وإصرار الجارية بريرة على تزكيتها، وهي من أخبر الناس بها، علاوة على تزكية زينب رضي الله عنها، هو الذي شجع النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقوم فيستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول.
5- في محنة الإفك بين الله جل وعلا كيف يأتي بالفرج والسرور بعد الشدة والبلاء:
لما تحيرت الصديقة وأبوها وأمها رضوان الله عليهم بماذا يجيبون، أتاهم الله عز وجل بما تقر به أعينهم من الوحي الصادق على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل كالغيث الذي جاء بعد القحط والشدة، كما قال الله تعالى جل وعلا: {لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم}، فإذا كان فيها شدة وألم، ففيها من الدروس والعبر والتربية للأمة ما يفوق هذا الشر بكثير، فكم ارتفعت عائشة رضي الله عنها حين نزل براءتها قرآن يتلى إلى يوم القيامة.
ومعنى كونه خيرا لهم، أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة، وأنه نزلت فيه ثماني عشرة آية ، بما هو تعظيم لشأن النبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له، وتنزيه لأم المؤمنين رضي الله عنها .
6- الحذر من مسلك دعاة الفتنة ومروجي الفاحشة:
قال تعالى :{إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [النور:19].
لأن البعض يظن أن إشاعة الفاحشة فضيحة للمتهم وحده، نعم هي للمتهم، لكن قد تنتهي بحياته، وقد تنتهي ببراءته، لكن المصيبة أنها ستكون أسوة سيئة في المجتمع.
وهذا توجيه من الحق -سبحانه وتعالى- إلى قضية عامة وقاعدة يجب أن تراعى، وهي: حين تسمع خبرا يخدش الحياء أو يتناول الأعراض أو يخدش حكما من أحكام الله، فإياك أن تشيعه في الناس؛ لأن الإشاعة إيجاد أسوة سلوكية عند السامع لمن يريد أن يفعل، فيقول في نفسه: فلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، ويتجرأ هو أيضا على مثل هذا الفعل، لذلك توعد الله تعالى من يشيع الفاحشة وينشرها ويذيعها بين الناس {لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة..} [النور:19].
7- الحث على العفو والصفح عمن أساء إليك :
ظهر ذلك في موقف أبي بكر رضي الله عنه ، الذي كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره ، فلما أنزل الله براءة عائشة رضي الله عنها قال أبو بكر : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال في عائشة ، فأنزل الله تعالى: { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم } (النور:22)
فقال أبو بكر : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فأرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه.
8- الفتن والابتلاءات تظهر المنافقين:
بعد هذه المحنة ظهر المنافقون، فالمنافقون مندسون في الصف، والمؤمنون يعرفون أعداءهم الظاهرين من أهل الكفر، لكنهم لا يعرفون المنافقين الذين يندسون في الصفوف، فتأتي المحن، وتأتي الفتن؛ لتظهر ما تكنه الصدور من نفاق، ولتظهر ما تكنه القلوب من حقد على الإسلام وأهله، فظهر النفاق.
9- تشريع حد القذف :
فعندما وقعت حادثة الإفك أراد الله – عز وجل – أن يشرع بعض الأحكام التي تساهم في المحافظة على أعراض المؤمنين ؛ ومن ثم حرم الإسلام القذف، وأوجب على من اتهم عفيفا أو عفيفة، بالزنا وهم منه براء حد القذف، وهو الجلد ثمانين جلدة وعدم قبول شهادته إلا بعد توبته توبة صادقة نصوحا.
وفي ذلك صيانة وحفظ للمجتمع من أن تشيع فيه ألفاظ الفاحشة، لأن كثرة الحديث عن الفاحشة وتردادها في الألسن يهون أمرها لدى سامعيها، ويجرئ ضعفاء النفوس على ارتكابها، أو رمي الناس بها، وفي ذلك تربية للمجتمع الإسلامي الأول ليكون نموذجا للمجتمعات بعد ذلك.
([1]) الهودج : محمل له قبة تستر به النساء ، يكون بالثياب ونحو ذلك .
([2]) جزع : خرز ، وظفار مدينة باليمن .
([3]) والرهط من ثلاثة إلى عشرة .
([4]) رحلوه على بعيري : وضعوه .
([5]) لم يهبلن : لم يكثر اللحم في أبدانهن ، يعني أن النساء كانت أجسامهن خفيفة ورشيقة، أي أنهن لم يكن ممتلئات.
([7]) حديثة السن : صغيرة ، وكان عمرها نحوا من خمسة عشر عاما .
([8]) عرس من وراء الجيش:أي بقي في المؤخرة للحماية والاحتياط لأي أمر طارئ، وأدلج فأصبح عند منزلي: أي سار بظلام الليل حتى وصل في الصباح إلى مكان نزولي.
([9]) وموغرين : نازلين في وقت الوغرة ، وهي شدة الحر لما تكون الشمس في كبد السماء
([10]) “كيف تيكم: “تك” ضمير مخاطب للمؤنث مثل ذاكم للمذكر.، وهو يشير إلى الحالة أو الوضع، كيف حالكم ؟ فإذا قيلت “كيف تيكم”، فإنها تعني “كيف حالكم؟” أو “كيف أنتم؟”. ورأت عائشة رضي الله عنها سؤال النبي صلى الله عليه وسلم “كيف تيكم؟” نوعًا من الجفاء بسبب أنها كانت معتادة على أسلوبه الرقيق واللطيف في التعامل معها خاصة عند مرضها .
([11]) نقهت : قمت من مرضي وما رجعت إلي تمام صحتي .
([12]) قول أم عائشة رضي الله عنهما (ضرائر) : قيل للزوجات ذلك لأن الضرر يحصل لكل واحدة من الأخرى بالغيرة .
([13]) قول بريرة : والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله، فالداجن : كل حيوان يألف البيوت ، والمراد : إذا كان هذا حالها لا تمنع طعامها من الحيوان فهذا اقرب لأن تكون غافلة مؤمنة لا تخطر الفاحشة على بالها.