في رمضان عام 1988 وتحديدا يوم التاسع عشر من رمضان…
حينها كنت في الخامسة عشر من عمري…
وبينما ألعب مع الصبية في شارعنا إذ مر أحد جيراننا الطيبين، فكلمني من بين الصبية -وكان يتوسم في الخير- وقال:
لماذا لا تعتكف معنا العشر الأواخر حيث سنة النبي صلى الله عليه وسلم وختام رمضان بأفضل الأعمال؟
ضحكت يومها ضحكا شديدا….إذ كيف يمكن لأحدنا في ذلك الوقت أن يترك حلقة من مسلسل ليالي الحلمية في حلقاتها الأخيرة،وقد تطورت الأحداث،وازداد تشويقها، حتى أن أحدنا لم يكن يطرف له جفن وقت رؤيته للمسلسل.
دعا الرجل لي بالهداية،وودعني بالابتسامة وانصرف…
وشاء الله أن تحدث لي أمور في اليوم التالي لا أتذكرها، لكنني أذكر منها أنني خرجت من البيت مغضبا،فحملت فراشي مضطرا إلى المسجد أنوي الاعتكاف…حيث يثاب المرء رغم أنفه!!
وهناك في جامع الفتح…نسيت ليالي الحلمية…واجتماع الصبية للعب العصرية..
فقد أذهلني قيام الليل،ودروس العصر والمساء،واجتماع الأحبة على الطعام يأكلونه وسباقهم إلى الإناء بعده يغسلونه…
أذهلني بكاء التهجد يأتيك عن يمين وشمال من أناس رقاق الأفئدة غزار الدمع.
أذهلتني روح الأخوَّة…في نوبات النظافة،والخدمة،وإيقاظ النائمين في رضا عجيب،وتفان رهيب..
أذهلتني قفشات الظرفاء،وكلمات الحكماء، وإتحافات الأغنياء بل والفقراء من جيران المسجد…رجالا كانوا أم نساء.
رأيت في هذه الأيام العشرة ما لا يُرى إلا في الجنة…
وعشت فيها حياة لا أظن أن بهجتها قد ذهبت من نفسي رغم هذه السنوات الثلاثين..
ولما حان موعد غروب آخر يوم بكيت ما لم أبك مثله من قبل…وطفقت أنظر إلى خارج المسجد كأني أنظر إلى وحش يهم بي أو مكان أتحاشاه بعدما كنت أقضي فيه جل يومي..
وعدت إلى أبويَّ طائرا بجناحين لا سائرا على قدمين..
تغيرت بعدها الحياة..وجودا وغاية.
وعافت نفسي بعدها تفاهات التلفاز… وجلسات اللهو..
فقد أصبحت الهمة أكبر من أن تسفلها ليالي الحلمية أو الفوازير اليومية..
وكنت أعتبر نفسي خريج مدرسة الاعتكاف…الذي يتلقفك عاصيا ثم يلقيك في نهر الحياة تائبا مصلحا…
وكم وجدت مثلي تخرجوا من نفس المدرسة فسلكوا نفس النهج..
فالاعتكاف ليس مجرد مكث في المسجد واجتماع على الصلاة..
إنما هو برنامج إعداد وإمداد…لذلك حاربه هؤلاء الأوغاد..
لأنهم يعلمون أن المساجد معاهد..
وأن المحاريب تصنع المجاهد في محراب الحياة قبل محراب الصلاة..
فمن استطاع منكم أن يقيم هذه الشعيرة في مكانه فليفعل..
فالاعتكاف أكبر من كونه مكثا في المساجد…
إنه صناعة جديدة للراكع والساجد والعابد والمجاهد.
#خالد_حمدي