بين عامين وقفة صادقة مع النفس
بعد أيام قليلة ينتهي عام، ونستقبل عاماً، يمضى عام كامل من أعمارنا وكأنه ساعة من نهار، فالأيام تمر والأشهر تجري وراءها تسحب معها السنين، وتجر خلفها الأعمار، وتنقضي الآجال، وبعدها يقف الجميع بين يدي الملك الجليل، للسؤال عن الكثير والقليل، مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8].
وكان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يقف الواحد مع نفسه ليحاسبها محاسبة الشريك الشحيح لشريكه فهذا هو توبة بن الصمة رحمه الله جلس يوماً مع نفسه جلسة صدق، وعدَّ سنوات عمره التي مضت، فوجد أنه قد قارب الستين، وأن أيام عمره زادت على واحد وعشرين ألف يوم، فصرخ وقال: يا ويلاه يا ويلاه، ألقى ربي بواحد وعشرين ألف ذنب! كيف وفي كل يوم عشرات المعاصي والذنوب؟!.
فأحببت أن نتوقف في هذا اللقاء وقفة صادقة مع النفس.
حال الناس في نهاية العام :
والناس في نهاية العام تختلف رغباتهم ويتغاير شعورهم ؛ فمنهم من يفرح، ومنهم من يحزن، ومنهم من يكون بين ذلك سبيلاً، فهناك من يفرح بانقضاء العام، لأن ماله أو ممتلكاته زادت ، وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية في عمله ،أو حصوله على شهادة أو درجة علمية ، إلى غير ذلك من المقاصد التي تفتقر إلى المقصد الأسمى وهو المقصد الأخروي، فالفرح بقطع الأيام والأعوام دون اعتبار وحساب لما كان فيها ويكون بعدها هو من الغفلة ؛ فالعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده.
وصدق القائل :
إنَّا لَنَفرح بالأيام نقطعُهــــا *** وكُلُّ يومٍ مضـى يُدْنِي مِن الأجَلِ
فاعمَلْ لِنَفْسِكَ قبل الموت مُجتهداً *** فإنما الربحُ والخسرانُ في العمَـلِ
نعم كل يوم يمر بنا يباعد عن الدنيا ويقرب إلى الآخرة، يباعد من دار العمل ويقرب من دار الجزاء، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: ارتحَلَت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل. أخرجه البخاري.
نسيرُ إلى الآجالِ في كُلِّ لَحظةٍ *** وأَعمارُنا تُطوَى وهُنَّ مَراحلُ
ترحَّلْ مِن الدنيا بزادٍ مِن التُّقَى *** فعُمْرُكَ أيـامٌ وهُنَّ قلائــلُ
وما هذه الأيامُ إلا مراحــلُ *** يحثُّ بها حادٍ إلى الموتِ قاصدُ
وأعْجَبُ شيءٍ لو تأمَّلْتَ أنَّها *** منازلُ تُطوَى والمسافرُ قاعدُ
وقفة عظة وعبرة :
إخواني في نهاية هذا العام الذي أوشك على الانتهاء وددت لو توقفنا وقفة عظة وعبرة ؛ فكم من حبيب فيه فارقنا! وكم من اختبار وبلاء فيه واجهنا! وكم من سيئات فيه اجترحنا! وكم من عزيز أمسى فيه ذليلاً! وكم من غني أضحى فيه فقيراً! وكم من حوادثَ عِظامٍ مرت بنا! ولكن أين المعتبرون المبصرون؟
و تعاقب الشهور والأعوام على العبد، قد يكون نعمة له أو نقمة عليه، فطول العمر ليس نعمة بحد ذاته، فإذا طال عمر العبد ولم يعمره بالخير فإنما هو يستكثر من حجج الله تعالى عليه.
أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن أبي بكرة –رضي الله تعالى عنه- أنه قال: قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: “خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله“
قال قتادة رحمه الله: اعلموا أن طول العمر حجة ، فنعوذ بالله أن نغتر بطول أعمارنا.
ولما سئل التابعي الجليل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟ قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق (الهارب )على سيده.
في كل يوم يمضي تزيد أعمارنا وتنقص آجالنا :
فالليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقربان من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره! فاستقبل عامه الجديد بمحاسبة نفسه على ما مضى، وتاب إلى الله -عَزَّ وجل-، وعزم على ألا يضيع ساعات عمره إلا في خير؛ لأنه يذكر دائماً قول نبيه -صلى الله عليه وسلم-: “خيركم من طال عمره وحسن عمله“، وهو يلهج دائما بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: “اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر“.
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يعظ رجلاً ويقول له: “اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك ” أخرجه الحاكم.
فالعمر يمر علينا بل يجري بنا ، ونحن في هذه الدنيا كراكبي القطار إن ناموا ، أو استيقظوا ، أو أكلوا ، أو شربوا ، أو لعبوا ، أو تعبوا …..فالقطار يجري وبسرعة ….وهكذا العمر يمضي أطعت …عصيت … صدقت …كذبت …العمر يجري لا يتوقف .
فيا مَن بقي من عمره القليل، ولا يدري متى يقع الرحيل، يا من ستفوت أيامه، أدْرِكْها، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلكها!!
فعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها” رواه مسلم.
أي: كل الناس يبدأ يومه من الغدوة بالعمل، فمنهم من يتجه إلي الخير، ، ومنهم من يتجه إلي الشر، فالمسلم الطائع يغدو وهو بائع نفسه لله، باعها بيعا يعتقها فيه؛ ولهذا قال: ( فبائع نفسه فمعتقها) فبائع نفسه فيما يعتقها وينجيها من النار، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.
(أو موبقها) معني ( أوبقها) أهلكها ، بائع نفسه فموبقها ، فيبدأ يومه بمعصية الله.
ويقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه: ما ندمتُ على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي.
وقال الحسن البصري ما من يوم ينشق فجره، إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة
ويقول أيضا : يا ابن آدم، إنما أنت أيام مجموعة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما)!
محاسبة النفس :
قال عمر بن الخطاب : “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر على الله “
فهل خلوت بنفسك يوماً فحاسبتها عما بدر منها من الأقوال والأفعال؟
وهل حاولت يوماً أن تعد سيئاتك كما تعد حسناتك؟
بل هل تأملت يوماً طاعاتك التي تفتخر بذكرها؟! فإن وجدت أن كثيراً منها مشوباً بالرياء والسمعة وحظوظ النفس فكيف تصبر على هذه الحال، وطريقك محفوف بالمكاره والأخطار؟!
وكيف القدوم على الله وأنت محمل بالأثقال والأوزار؟
كيفَ أحاسبُ نفسي ؟
أولاً : البدءُ بالفرائض ، فإذا رأى فيها نقصٌ تداركهُ .
ثانياً : النظرُ في المناهي ، فإذا عرَف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحية .
ثالثاً : محاسبةُ النفس على الغفلةِ ، ويَتَدَاركُ ذلِك بالذكرِ والإقبالِ على ربِ السماوات ورب الأرض رب العرش العظيم .
رابعاً : محاسبةُ النفس على حركاتِ الجوارح ، وكلامِ اللسان ، ومشيِ الرجلين ، وبطشِ اليدين ، ونظرِ العينين ، وسماعِ الأذنين ، ماذا أردتُ بهذا ؟ ولمن فعلته ؟ وعلى أي وجه فعلته ؟
قال أنس رضي الله عنه : سمعتُ عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه ، وقد دخلَ حائطاً ، وبيني وبينه جدار ، يقول : عمرُ بن الخطاب أميرُ المؤمنين !! بخٍ بخ ، واللهِ لتتقينَ الله يا ابن الخطاب أو ليُعذبنَّك ! .
فقف أيها الحبيب مع نفسك وقفة صدق وقل لها: يا نفس! ليس لي بضاعة إلا العمر، فإن ضاعت بضاعتي ضاع رأس مالي، توهمي يا نفس أنك قد مُتّي وطلبتي من الله الرجعة، وها أنت قد عدتي إلى الدنيا فاعملي قبل أن تتمني الرجعة يوماً فلا يستجاب لك ( رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ) المؤمنون:99-100، فيكون الجواب ( كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )المؤمنون:100.
يا نفس! إن كنت تجترئين على معصية الله وأنتِ تظنين بأن الله لا يراك فما أعظم كفرك بالله جل وعلا! وإن كنت تعلمين بأن الله يراك وأنت مصّرة على معصيته فما أشد جرأتك على الله، وما أعظم وقاحتك مع الله عز وجل.
يا نفس! إلى متى تعصين وعلى الله تجترئين؟! ومتى ستعيشين بالإسلام وللإسلام؟! يا نفس! متى ستحافظين على قراءة القرآن، وعلى هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى تحقيق التوحيد لله، وعلى بر الوالدين، وعلى الإحسان للجيران؟! ومتى ستبذلين المال للفقراء؟! ومتى ستحسنين العمل؟! متى متى متى .؟!
يا نفس قـد أزف الرحـيل وأظلك الخطب الجليل
فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطـويل
فلتنـزلن بمنـزل ينـ ـسى الخليل به الخليل
وليركبن عليك فيه من الثرى حمل ثقيل
قرن الفناء بنا جميعـاً فما يبقى العزيز ولا الذليل
فإلى عام جديد سعيد، نقترب فيه من ربنا، ونقترب فيه من إخواننا، ونقترب فيه من أهلنا وذوينا.
اللهم اغفر لنا الذنوب، واستر لنا العيوب، وفرج عنا الكروب، وتقبل منا صالح الأعمال، برحمتك يا أرحم الراحمين.