شرح الدعاء ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة …..)
أولا / ما ورد في فضل هذا الدعاء
1- عن أنس – رضي الله عنه – قال: كان أكثر دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم -: (اللهم آتِنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار)؛ متفق عليه.
2- عن عبد السلام بن شداد قال: كنتُ عندَ أنسِ بنِ مالِكٍ، فقالَ لَهُ ثابتٌ: إنَّ إخوانَكَ يحبُّونَ أن تَدعوَ لَهُم. فقالَ: (اللَّهمَّ آتِنا في الدُّنيا حَسَنةً وفي الآخرةِ حَسَنةً وقِنا عذابَ النّارِ، وتحدَّثوا ساعةً، حتّى إذا أرادوا القيامَ، قال: يا أبا حَمزةَ إنَّ إخوانَكَ يُريدونَ القيامَ فادعُ اللَّهَ لَهُم، فقالَ تريدونَ أن أشقِّقَ لَكُمُ الأمورَ، إذا آتاكمُ اللَّهُ في الدُّنيا حَسنةً وفي الآخرةِ حَسنةً ووقاكُم عذابَ النّارِ، فَقد آتاكمُ الخيرَ كُلَّهُ) رواه ابن حبان وقال الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح
3- عن أنس بن مالك أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ، عادَ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ قدْ خَفَتَ فَصارَ مِثْلَ الفَرْخِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ ﷺ: هلْ كُنْتَ تَدْعُو بشيءٍ، أَوْ تَسْأَلُهُ إيّاهُ؟ قالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ ما كُنْتَ مُعاقِبِي به في الآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لي في الدُّنْيا، فَقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: سُبْحانَ اللهِ لا تُطِيقُهُ، أَوْ لا تَسْتَطِيعُهُ، أَفلا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النّارِ قالَ: فَدَعا اللَّهَ له، فَشَفاهُ.
رواه مسلم
خَفَتَ صَوتُه فصارَ مِثلَ الفَرخِ، وهُو وَلدُ الطَّيرِ، يَعني أَضعَفَه المرضُ حتّى صارَ ضعيفًا، مثلَ الفَرخِ؛ لضَعفِه وكَثرةِ نَحافتِه.
4- و سأل قتادةُ أنسَ بنَ مالك رضي الله عنه: أي دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر؟ قال: كان أكثر دعوة يدعو بها يقول: “اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار”؛ رواه مسلم.
5- وقال عطاء: “طاف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فاتَّبعه رجل ليسمع ما يقول، فإذا هو يقول: (ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار) حتى فرغ، فقال له الرجل: أصلحك الله، اتَّبعتُك فلم أسمعك تزيد على كذا وكذا، فقال: أوليس ذلك كلَّ الخير؟!؛ (رواه الطبراني في الدعاء).
6- وقال حبيب بن صهبان: “سمعت عمر بن الخطاب وهو يطوف حول البيت وليس له هِجِّيرَى (أي: دأب وعادة)، إلا هؤلاء الكلمات: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار)؛ (رواه ابن أبي شيبة).
7- وكان ابن مسعود رضي الله عنه يعلِّم الناس أن يدعوا بهذه الدعوة قبيل السلام في الصلاة؛ (رواه ابن أبي شيبة).
8- وقال ابن رجب في لطائف المعارف: “وقد استحب كثير من السلف كثرة الدعاء بهذا في أيام التشريق”. قال عكرمة: “كان يستحب أن يقال في أيام التشريق…”. وعن عطاء قال: “ينبغي لكل من نفر أن يقول حين ينفر متوجهًا إلى أهله: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار” خرجهما عبد بن حميد في تفسيره.
وقال ابن رجب -أيضًا-: “وهذا الدعاء من أجمع الأدعية للخير، وكان النبي يكثر منه، وروي أنه أكثر دعائه، وكان إذا دعا بدعاء جعله معه، فإنه يجمع خير الدنيا والآخرة”.
قال تعالى: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [البقرة: 200 – 202]
الناس في الدعاء على صنفين:
الصنف الأول: أهل الهمم الضعيفة، والحظوظ الدنيوية، ونسوا الدار الآخرة، فاقتصرت دعواتهم على دنياهم، فقال -سبحانه- عنهم: (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ) [البقرة:200]
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: ذم من لم يسأله إلا في أمر دنياه، وهو معرض عن أخراه. فقال: (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ)، أي: من نصيب ولا حظ، وتضمن هذا الذم التنفير عن التشبه بمن هو كذلك. قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا، فأنزل الله فيهم، (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ). انتهى كلامه رحمه الله.
وهكذا بعض الناس، يدعون بسعة الأرزاق، وطلب الولد، وجميل العطاء، ووفرة المال، وينسى الآخرة، فهمته مقصورة، ودعوته محصورة، الدنيا أكبر همه، ومطعمه وملبسه ومركبه أكبر ذكره، و”من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له”.
أما الصنف الثاني: فهو الذي يدعو الله لمصلحة الدارين، وجمع بين النوعين، وسأل وطلب الصنفين، فنال الحسنتين؛ فهذا له كسبه وعمله، وإجابة دعوته، وحظه ونصيبه، فثنى الله بذكرهم، وأثنى عليهم، ونوّه بهم، فقال: (وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار) [البقرة:201].
فالله ذكر دعوة أصحاب الهمم العالية، والدعوات الجامعة الغالية، والتي سنتعرض لمعناها فيما يلي من سطور.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾
آتنا : أعطنا.
في الدنيا: سميت دنيا لدنوها من الزوال، وسرعة زوالها وحقارتها وغرورها، فهي لن تبقى على حال.
حَسَنَةً: تشمل جميع حسنات الدنيا، ومصالح الحياة، وكل مطلوب دنيوي من عافية، ودارواسعة، وزوجة صالحة، ومركبة حسنة ( دابة أوسيارة ) ، وذكر جميل، وخلق نبيل، والعلم النافع، والعمل الصالح، وسعة الأرزاق، والصحة والكفاف، والتوفيق والتيسير، والولد البار، والحياة الطيبة، والعيشة الهنية، والراحة النفسية، والسعادة الأبدية.
وقال علي بن أبي طالب قال: ” هي المرأة الصالحة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:( الدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا غبت عنها حفظتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا أقسمت عليها برَّتك )
وقال قتادة: ” حسنة الدنيا هي العافية والكفاف “.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)
فمعنى (ربنا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً): يشمل ذلك كله، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي.
وقال القاسم بن عبد الرحمن: من أعطي قلبا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وجسدًا صابرًا، فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار.
دل هذا الدعاء على أنه لا حرج على الإنسان أن يدعو بالحسنة في الدنيا، وإنما الممنوع أن يؤثر الدنيا على الآخرة، وأما أن يطلب الخير في الدنيا والآخرة فلا بأس، والدنيا إذا كانت بيد الإنسان لا تضره، إنما تضره إذا كانت في قلبه، فإنه تشغله عن الدار الآخرة، أما إذا كانت بيده لا بقلبه فإنها خير، بل قد تكون عونا له على طاعة الله عز وجل.
﴿ وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾
وحسنة الآخرة هي: السلامة من العقوبات في القبر والموقف والنار، وحصول رضا الله، والفوز بالنعيم المُقيم، والقرب من الرب الرحيم، وأعلى ذلك دخول الجنة، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة،
وقال القرطبي: ” والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين: نعيم الدنيا، والآخرة، قال: وهذا هو الصحيح، فإن اللفظ يقتضي هذا كله، فإن حسنة نكرة في سياق الدعاء، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل، وحسنة الآخرة: الجنة بإجماع.”
﴿ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
هذا تخصيص بعد تعميم، لأننا إذا فسرنا الحسنة في الآخرة بالجنة فإن من كان من أهل النار سيقيه الله عذاب النار، وقال بعض أهل العلم: إن المراد أنك تسأل الله تعالى تيسير أسباب الوقاية من النار، باجتناب المحارم، وأداء الواجبات، فكأنك تقول يارب أعني على أسباب الوقاية من النار بطاعتك واجتناب معاصيك.
وفي الوقت نفسه دعاء في تأكيد الدخول للجنة، لتكون الرغبة في معنى النجاة، والوقاية من النار.
قال ابن كثير: “وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام”.