المسألة التي أعادت أبا يوسف لحلقة شيخه أبي حنيفة
اتخذ أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة مجلسا مستقلا عن حلقة شيخه .
ونظر أبو حنيفة فإذا بتلميذه الذي أمله للناس من بعده يتعجل ذلك اليوم وها هو ذا يجلس قريبا منه في مسجد الكوفة متصدرا حلقة من الحلقات.
ولم يحسده أبو حنيفة على ذلك، ولم تدخل نفسه الغيرة من تلميذه، ولكن داخلها شيء آخر، هو خشيته على هذا التلميذ من الفشل، لأنه ما زال أمامه وقت للتخرج .. إن التطلع للرياسة قبل الأوان استعجال للثمرة قبل نضجها، ولقد خاض أبو حنيفة نفسه هذه التجربة قديما حين حدثته نفسه ذات يوم أن يستقل عن شيخه حماد، ومنعه الحياء من ذلك، ثم أنابه شيخه عنه في أثناء سفر مفاجئ له، فلما عاد شيخه عرض عليه المسائل التي سئل فيها وكيف أجاب عنها، فإذا به يوافقه في كثير منها ويخالفه في بعضها، فأدرك
أنه أحسن صنعا حين لم يستقل بنفسه.
تذكر أبو حنيفة ذلك فأشفق على تلميذه وعزم على أن يرده إلى الحلقة حبا له وإشفاقا عليه، لا حسدا له وغيرة منه.
ولكن كيف يرده؟ لابد من إعمال الحيلة، ولن يعدمها أبو حنيفة وهو صاحب الذكاء المشهور.
استدعى أحد المتحلقين حوله، وألقى إليه سؤالا وطلب منه أن يوجهه إلى أبي يوسف، قال له: قل ليعقوب: ما رأيك في رجل دفع إلى قصار (خياط)ثوبا ليقصره له بدرهم، فعاد إليه بعد أيام يطلب الثوب فجحده، ثم إن صاحب الثوب عاد بعد أيام يطلب الثوب مرة أخرى فرده عليه مقصورا، فهل له من أجر؟ إن قال لك: له أجر فقل له: أخطأت، وإن قال: ليس له أجر فقل له: أخطأت .. وتوجه الفتى إلى أبي يوسف وألقى عليه السؤال.
فقال أبو يوسف: له أجر.
فقال له: أخطأت.
فقال أبو يوسف: ليس له أجر.
فقال له الفتى: أخطأت.
وعاد الفتى إلى حلقة أبي حنيفة بعد أن أنهى مهمته، وأنهى إلى أستاذه جواب أبي يوسف، ونظر أبو يوسف فعلم أنه حار في مسألة كان المفروض ألا يحار فيها .. وهي مسألة يسيرة هينة، فكيف لو ألقى عليه من عويص المسائل، فطوى مجلسه المستقل، وعاد إلى مجلس أبي حنيفة .
قال له أبو حنيفة: أظن ما جاء بك إلا مسألة القصار؟
قال أبو يوسف: نعم. إني تائب فعلمني.
قال أبو حنيفة: إن كان قصره بعدما غصبه فلا أجرة له، لأنه قصره لنفسه، وإن كان قصره قبل أن يغصبه فله الأجرة لأنه قصره لصاحبه.
يا أبا يوسف، من ظن أنه يستطيع أن يستغني عن العلم فليبك على نفسه، ومن ظن أنه علم فقد جهل