قوانين السعادة
2- أن تعرف لماذا خلقت؟
القانون الأول الذي نتناوله الليلة هو:
تحقيق الغاية من خلقنا:
لماذا خلقنا؟
هذا السؤال إجابته سهلة يسيرة كلنا يحفظها قال تعالى : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات:56]
إذن الغاية من خلق الجن والإنس هي عبادة الله عز وجل ؛ إفراده سبحانه بالتوحيد، وإفراده سبحانه بالتشريع؛ فهو الآمر الناهي نعبده وحده لا شريك له؛ نطيعه ولا نعصي أمره جل جلاله.
الإشكال هنا أن هناك من لم يعرف الغاية من خلقه ووجوده؛ فعبد غير الله، أو أنكر وجود الله سبحانه وتعالى، أو جعل الدين شأنا ثانويا في حياته، كما هو حال العلمانية في الغرب عموما بجعل الدين طقوسا في أوقات معينة، ثم هجره في مجالات الحياة، وسن القوانين بناء على المصالح والمنافع والاختيارات الشخصية أو السياسية أو الحزبية .
لكن الحقيقة التي يغفل عنها الكثير منا أن الإنسان في حقيقته يتكون من جسد وروح ، والجسد خلقه الله من الطين، وغذاه مما يخرج من ذلك الطين، إما بالنبات أو بالحيوان الذي يتغذى على النبات، أما الروح فهي نفخة من الله تعالى ، وغذاؤها في الصلة بالله .
و تكمن المشكلة في الذي يشبع رغبات الجسد في الطعام، والشهوات، واللهو، وينسى احتياج الروح لخالقها، فمن هنا يحدث عدم التوازن، ومن هنا يأتي الشعور بالقلق والضيق لانعدام التوازن .
والعلاج يكمن في التوازن بين حاجات الجسد وحاجات الروح، وكما أسلفت أن غذاء الروح في عبادة الله فالعبادة غذاء لأرواحنا، و بدونها يظل الإنسان في الأرض حيران قلق مضطرب.
يا خادم الجسم كم تشقى لخدمته * * * أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها * * * فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
إن الإنسان جسد وروح، ومستحيل أن يعيش الإنسان حياة طيبة سعيدة بالبدن دون الروح.
فالله جل وعلا لم يخلق الإنسان ليتلذذ بالدنيا وينسى الله، من لا يعرف الحكمة من خلقه يعيش في اكتئاب .
والغرب قد أعطى البدن كل ما يشتهيه من طعام وشراب وشهوات ونساء وملذات ، وبقيت الروح تصرخ تبحث عن دواء وغذاء فوقف الغرب أمام الروح عاجزاً لا يملك شيئاً.
وإن انتشار عيادات الطب النفسي وحالات الانتحار الجماعي والفردي لمن أعظم الأدلة العملية على ما يعانيه الغرب في الجانب الروحي من قلق وشك وضنك واضطراب.
السعادة في توافق الحركة مع الهدف:
فالإنسان إذا عرف الله عرف نفسه والغاية التي من أجلها خلق، يقول الشيخ راتب النابلسي : عبادةُ الله علّةُ وجود الإنسان والسعادة في توافق الحركة مع الهدف .
وضرب لذلك مثالا للتوضيح :ذهب رجلٌ إلى باريس ، ونام في الفندق ، واستيقظ في صبيحة اليوم الأول ، وسأل : إلى أين أذهب ؟ ما هذا السؤال ؟ نسأله نحن : لماذا أتيت إلى هنا ؟ إن أتيت طالباً فاذهب إلى المعاهد والجامعات ، وإن أتيت تاجراً فاذهب إلى المعامل والمؤسسات ، وإن أتيت سائحاً فاذهب إلى المتاحف والمتنزهات ، متى يصح عملك في مكان ما ؟ إذا عرفت سر وجودك ، وغاية وجودك ، لذلك لا شيء يعلو في حياة الإنسان على معرفة سر وجوده ، وغاية وجوده ، وقد تجد إنسانا في أعلى درجات العقل يطلب العلم ، يبحث عن عمل صالح يرقى به عند الله ، يربي أولاده تربية صحيحة ، يتعامل مع الناس وفق منهج الله ، هذا عرف سر وجوده ، وغاية وجوده
إن طالبًا عنده امتحان في آخر سنة ، مادة أساسية أخيرة ، وأصعب مادة ، والامتحان بعد أيام ، ما الحركة المناسبة له ؟ أن يقبع في البيت ، وأن يقرأ الكتاب المقرر، لو أن أصدقاءه الخلَّص أخذوه إلى مكان جميل مطلٍّ على البحر ، والجبل فيه نبات أخضر ، والطعام نفيس جداً ، وهو يحبهم ، جالس مع أصدقاء يحبهم ، والمكان جميل ، والطعام طيب ، لماذا يشعر بانقباض شديد ؟ لأن هذه الحركة لا تتناسب مع الهدف القريب .
إذاً أنت متى تسعد ؟ تسعد إذا جاءت حركتك متوافقة مع هدفك.
اسأل تاجرا لا بيع ولا شراء عنده ، وهو جالس طول النهار في المحل ، هاتوا شاي ، هاتوا قهوة ، هاتوا مجلة ، هاتوا جريدة ، تجده مسموم البدن ، مع أنه مرتاح ، الراحة لا تتناسب مع هدف المحل التجاري ، أما لما ينسى أن يتغدى من كثرة البيع فهو أسعد إنسان ، ما يجلس دقيقة ، من محل لمحل ، فلما يكون البيع شديدا يكون معه تعب شديد ، ويكون التاجر في أسعد لحظاته ، ولما يكون في راحة تامة واسترخاء ، وضيافة مستمرة ، وأصدقاء وصحف ومجلات ، تجده في أتعس حالاته .متى تسعد ؟ إذا جاءت حركتك موافقة لهدفك
ومتى تشقى ؟ إذا جاءت الحركة ليست موافقة لهدفك .
فعلة وجودنا في الأرض أن نعبده والسعادة في توافق الحركة مع الهدف؛ قال تعالى : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه/: 123:124]، فهذا هو حال الإنسان إذا علم الغاية من وجوده في هذه الدنيا وسعى لتحقيقها تحققت له السعادة.
قصة للدكتور عبد المجيد الزنداني:
قال الدكتور عبد المجيد الزنداني في إحدى محاضراته : جرت مجادلة بيني وبين أحد علماء بريطانيا: البروفسور كرستوفر بالس ، وهو طبيب من مشاهير علماء بريطانيا في الطب ، فقلت له : هل وُجِدَت عينك لحكمة ؟
قال : نعم .
قلت : وهل وُجِدَ أنفك لحكمة ؟
قال : نعم.
وأخذت أعدد أعضاء الجسم .
فقال لي : هذه مواضيع أبحاث علمٍ يسمى علم وظائف الأعضاء لا يتخرج الطبيب من أي كلية في الطب إلا إذا درسه .
فقلت له : هل الحكمة من هذا العضو خاصة بالعضو نفسه ، أم أنها من أجل الكل؟
(أردت أن يعترف أن الحكمة من الأجزاء ليست من أجل الأجزاء نفسها وإنما من أجل الكل).
فقال: أرأيت لو جئت بالجهاز الهضمي وحده من دون الجسم أله قيمة؟
قلت: لا .
قال: كيف تقول: إن الأعضاء والأجهزة أحكمت من أجل نفسها ولم تحكم من أجل الكل؟
قلت له: أنا كنت أسأل وأنت قد أجبتني .
فما الحكمة من هذا الكل؟ (يقصد الإنسان)
فبهت وأطرق برهةً وأدرك أنه وقع في الفخ!!
وقال: هذه فلسفة !
قلت له: قبل قليل كان علماً (علم وظائف الأعضاء)!! لقد هربت ، وكنت أعلم أنك ستهرب ، وأنا أعلم لماذا ستهرب. ولكن قبل ذلك عندي سؤال .. أفي استعمال حذائك حكمة ؟
قال: نعم لها فائدة: فهي تقيني الأذى، فهي تحمي قدمي من الاصطدام بالأجسام الثقيلة ومن الخدش بالأجسام الحادة ، ومن التضرر بالسوائل الضارة ، ومن تقلبات الجو ، ومن اختراق بعض الكائنات وغير ذلك .
فقلت له: ألوجودك حكمة ؟
فبهت مرة ثانية !
فقلت له: والله أني لأعجب يا برفسور من حضارتكم التي تقول لكم: إن الإنسان أحقر من نعله !! فلاستعمال الحذاء حكمة، ولابسها لا حكمة من وجوده!!
أما لماذا لم تعرفوا الحكمة ولماذا هربت فذلك لأن الحكمة من خلقك لا تعرف إلا بتعليم من الخالق ، وأنتم لا تعرفون الخالق ، فكيف ستعرفون حكمة وجودكم؟! لذلك سيبقى الإنسان في نظركم أقل شأناً من الحذاء.
ولا طريق للتخلص من هذا إلا أن تعرف ربك لكي تعرف لماذا خلقك. وقلت له: يا دكتور سأضرب لك مثالاً: لو أن لدينا جهازا إلكترونيا معقدا غاليا ونريد أن نعرف الحكمة منه فليس هناك إلا طريق واحد وهو أن نتصل بالذي صنعه ؛ لأن الحكمة من هذا الجهاز مختفية في نفس الصانع .
فأضاف قائلاً: أو نتصل بمندوبه .
قلت : صدقت. فإذا أردت أن تعرف الحكمة من خلقك فليس لك إلا أن تتصل بمندوبي الذي خلقك، وهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام .
وسيبقى الإنسان أحقر من حذائه ما لم يؤمن بالله ورسوله! لا يعرف الحكمة من وجوده، ولا يعرف ربه ، ولا يعرف لماذا دخل إلى هذه الدنيا ولماذا يخرج منها!
وهذا التخبط والحيرة والتيه الذي يعيشه هؤلاء عبر عنه أحد الشعراء في قصيدة سماها “الطلاسم” والتي تدل على عمق حيرتهم، بقوله:
جئت لا أعلـم مـن أيــن ولكنـي أتيت
ولقد أبصرت قدامــي طريقـا فمشيــت
كيف جئت ؟ كيـف أبصــرت طريقي ؟!
وسأبقـــى سائـراً إن شئت هذا أم أبيت
لســـت أدري !! ….
فهذا هو الإنسان العصري بحث عن السعادة في كل اتجاه وفي كل سبيل ولم يصل إليها لأنه ترك باب السعادة الأول والأوحد وهو تحقيق الغاية من خلق الإنسان.
سمعت من عدة سنوات لا أتذكر في سويسرا أو السويد أنهم لكثرة الأمراض النفسية في هذه الدولة كان هناك مشروع قانون في البرلمان وهو إعطاء كل مواطن ألفين يورو شهريا، وقالوا: إن هذا سيقضي على الشعور بالفقر وضغوط الحياة وما شابه ذلك!!!
وهم ظنوا أن هذا هو الباب الذي سيحقق السعادة ويخفف الضغوط النفسية على المواطنين في هذه الدولة؛ لكنهم لم ينتبهوا إلى أن إشباع لذات الجسد لا يغني أبدا عن إشباع حاجات الروح.
راحة الجسد مؤقتة ( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) يستريح ينهض فيتعب فيستريح فينهض فيتعب هذه طبيعة الدنيا أي لذة للجسد هي قصيرة مؤقتة لحظية وهي لا تعطيك حصانة من الحزن، أما سعادة الروح بطاعتها لله والسير على منهجه ، وتحقيق الغاية من الخلق هي بيت القصيد وهي أساس تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة إن شاء الله.
قصة شاب أسلم بمونتريال:
أختم لكم بقصة حدثت معي شخصيا وهي قصة واقعية لما كنت في مسجد الروضة بمونتريال، مسجد الروضة بجانبه مستشفى لعلاج الأمراض النفسية والعقلية المريض لما يصل لمرحلة من مراحل الشفاء أو التماثل للشفاء يسمحون له أن يخرج من المستشفى لعدة ساعات ساعتين أو ثلاثة كل يوم، يتمشي ويتعامل مع الناس ليبدأ يخرج ويعيش حياته الطبيعية.
شاب كندي كان في فترة النقاهة يتمشى، وبقدر الله كان يمشي بجوار مسجد الروضة، وقدر الله عز وجل أن يمر في وقت أذان صلاة العصر فجذبه الصوت ففتح الباب ودخل المسجد وهو لا يعرف ما هذا لكنه شعر أن هناك شيئا يجذبه لسماع صوت المؤذن للصلاة، وبعد قليل بعد الأذان مباشرة أقيمت الصلاة وانتظم الناس صفوفا كما نحن معتادين كمسلمين، فانضم الرجل إلى هذه الصفوف وبدأ يقلد الناس في صلاتهم قاموا قام معهم… ركعوا ركع معهم…. سجدوا سجد معهم ….
وهكذا اليوم الثاني جاء في نفس الوقت و أعجبته الفكرة فانضم إلينا، في اليوم الثالث شاء الله تعالى أننا غيرنا ميعاد إقامة الصلاة كما هو معروف أن المواقيت تغير كل أسبوع فكان أقل ربع ساعة من الوقت السابق، فلما وصل للمسجد وصل وقد انتهينا من الصلاة فما كان منه إلا أنه خرّ في وسط المسجد ساجدا لله سبحانه وتعالى وطال سجوده حتى لفت أنظار الناس، وجاءني بعض الشباب أخ مغربي قائلا: في شاب عليه ملامح أنه كندي له مدة طويلة تقريبا ربع ساعة ساجد!!
قلت له: اتركه قليلا لننظر … وبعد قليل رفع رأسه فتكلم الأخ معه بالفرنسية ، هل أنت بخير؟ فحكى له القصة كما ذكرتها لكم الآن، لكنه قال: إنه أعجبته هذه التمارين الرياضية التي نقوم نحن بها وأنه لما عاد إلى المستشفى تذكر أن أكثر تمرين شعر معه بالراحة النفسية والهدوء هو تمرين وضع الرأس على الأرض!!!
والله يا إخواني هكذا كان يقول تمرين وضع الرأس على الأرض وأنه كان كلما أحس بضغط نفسي قام فوضع رأسه على الأرض فاستراح.
ولذلك لما جاء إلينا في اليوم الثالث وقد صلينا مبكرا لم يتذكر من الصلاة إلا هذا التمرين -على حد عبارته- الذي أراحه فسجد طويلا وكأنه يريح الروح من عنائها وتعبها.
وجلست معه أنا والإخوة جلسة مطولة شرحنا له أن هذه ليست تمارين رياضية ونحن مسلمين وهذا ديننا وهذه الصلاة هي العبادة التي نتعبد لله بها.
وبدأ يسأل ونحن نجيبه على بعض المفاهيم في الإسلام، وطلبت منه أن يأتي إلى المسجد أكثر من مرة فوافق، وكنا وقتها وقت الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان؛ فالإخوان عرضوا عليه أن يأتي وقت المغرب ويأكل معهم طعام عربي مجانا، فجاء وعاش ليال طيبة وعامله الأخوة كواحد منهم حتى أحبهم وأحبوه، وبعد العيد كنت واقفا في القبلة أقول للمصلين: استقيموا واستووا، فوجدت هذا الشاب يلبس عباءة مغربية وطاقية ويقف في الصف الثاني مبتسما ، فتبسمت له وتهللت .
وبعد الصلاة ناديت على الأخ الذي كان قد تكلم معه من قبل وقلت له أليس هذا فلان قال نعم قلت : ما الذي حدث؟ قال: لما كنت في إجازة العيد جاء وقال أنا أريد أن أدخل الإسلام!!! ماذا أفعل؟ قلنا له: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فأسلم.
نسال الله أن يثبتنا وإياه على الحق اللهم آمين يا رب العالمين .