الوقوف بعرفة وما أدراك ما عرفة
.خالد أبو شادي
منقول من كتابه رحلة المشتاق الحج والعمرة
فاعلم أن اليوم فاصل لك بين عهدين ، وتحول جذري في مسار حياتك ، ولذا حصر رسول الله- صلى الله عليه وسلم – الحج فيه فقال : ” الحج عرفة “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 3172 في صحيح الجامع.
واستشعر مثولك أمام الله في ميدان الحشر ، وحيرتك في هذا الموقف بين الرد والقبول ، وطمعك في شفاعة الرسول ، وأجْرِ على نفسك اليوم تأملا ما سيجري عليك غدا حقيقة وواقعا.
وألزم قلبك الضراعة والخشوع والتوبة والخضوع ، وأخرج كل خاطر من خواطر الدنيا من قلبك ، وأقبل على الله بكل ذرة من كيانك ، فمنذ سنين وأنت تحاول الوصول إلى ساحل القبول وما أدركت الشط ، وها هو اليوم أمامك على مرمى البصر ، فإن كتبت جواب توبتك بدموع الأسف غُفِر لك ما قد سلف.
وأشهر فيه إفلاسك واعترف بفقرك ، وأقر بعجزك وجهلك ، واستحضر صحيفة ذنوبك الماضية وقبيح سوابقك المهلكة ، واذكر الساعات الضائعة من عمرك ، واندم على التفريط في زمن الصبا ، فكم أتعبت الحفظة سنين ، وسهرت في المعاصي حينا بعد حين ، وأظهر الفاقة والمسكنة حتى تكون ممن مستحقي للصدقات ، ألم تقرأ قول ربك : ” إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ” [ التوبة : من الآية60]
وتعبيرا عن ذلك : ارفع يديك إلى صدرك متمثِّلا أعلى درجات الذل والعبودية مقلدا نبيك الذي قال عنه ابن عباس – رضي الله عنه – : رأيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدعو بعرفة ويداه إلى صدره كاستطعام المِسكين.
يا الله .. يفعل هذا وقد حُشرت له جزيرة العرب عن بكرة أبيها بقبائلها وأبطالها وشعرائها وبطونها ، تأتمر بإشارة واحدة منه ، لكنه – صلى الله عليه وسلم – كان كلما ملك زاد فقرا ، وكلما علا سجد ذلا ، لعلمه أن الفضل كل الفضل لله رب العالمين ، فليتعلَّم ذلك كل من مسته نفحة كبر أو أصابته نوبة غرور ليتواضع.
وأكثر فيه من الدعاء ، فهو عبادة الوقت وأفضل الأعمال في هذه الساعات ، وأقرب دعاء من القبول على الإطلاق ، فإن ” أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة “. ( حسن ) انظر حديث رقم : 1102 في صحيح الجامع
والدعاء معناه الأمل ، والأمل معناه اليقين ، وفي اليقين الراحة الغامرة والسكينة الرائعة التي لا تساويها كل كنوز الدنيا.
وقد منعك الله من صيام هذا اليوم وحّرمه عليك حتى لا تضعف عن الدعاء ، ، وفي قصر الصلاة وجمعها اليوم دلالة واضحة على ذلك ، وكأن المقصود أن يطول دعائك وتضرعك إلى أقصى ما تستطيع ، فسبحان من أعانك على ما فيه نفعك ثم تنساه!! وأرشدك إلى ما فيه فوزك ثم تغفل عنه!!
قلد نبيك وإلا..
لا تضيع اليوم لحظة واحدة مقتديا في ذلك بنيك – صلى الله عليه وسلم – الذي شغله الذكر والدعاء يوم عرفة عن كل شيء حتى عن طعامه وشرابه ، حتى ظن كثير من الصحابة أنه صائم ، فعن أم الفضل بنت الحارث أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم ، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشرب. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2132 في صحيح أبي داود وهو في البخاري ومسلم.نعم لم يضيع لحظة واحدة ، وكأنه يقول لك : الوقت اليوم لا يقدر بثمن ، فكل لحظة تُنفقها في غير طاعة أعظم خسارة ، ودعاك إلى ذلك بفعله لتكون استجابتك أسرع وطاعتك أقرب ، فعن أسامة بن زيد – رضي الله عنه – : ” كنتُ رديف النبي – صلى الله عليه وسلم – بعرفات فرفع يديه يدعو ، فمالت به ناقته فسقط خطامها ، فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2961 في سنن النسائي وحديث رقم : 20820 في مسند أحمد.
واسمع إلى حديث جابر – رضي الله عنه – وتعلم منه : ” …..، ثم ركب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته إلى الصخرات ، وجعل جبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2494 في صحيح ابن ماجة.
تأمل قوله : ” فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس “… داعيا دون ملل ، راجيا دون كلل ، وظل على تلك الحال حتى بعد غروب شمس عرفة وأثناء سيره لمزدلفة ، وهو وقت ينشغل فيه الناس بالزحام إن لم يكن بالجدال واللغو من الكلام ، لكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُعلمنا غير ذلك حيث أفاض – صلى الله عليه وسلم – وردفه أسامة بن زيد ، فجالت به الناقة وهو رافع يديه لا تجاوزان رأسه فما زال يسير على هينته حتى انتهى إلى جمع (مزدلفة).
العجلة من الشيطان
قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ” أنا دعوة إبراهيم ، وكان آخر من بشَّر بي عيسى بن مريم “. ( صحيح ) انظر حديث رقم : 1463 في صحيح الجامع.ومن العجيب أن بين دعوة إبراهيم : ? رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? [البقرة : 129] وبين إجابتها ببعثة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – ما يزيد على ألفي عام ، فلماذا يتعجل المتعجلون ؟ ولماذا يقنط الداعون ، ولماذا يتذمرون ويقولون : دَعَوْنا دَعَوْنا فلم يُستجب لنا؟ مع أن الإجابة أكيدة فالخير عميم والرب كريم والفضل عظيم وحق الزائر مصون وتعبه غير مضيع.