تفسير سورة الكهف
6- ﴿قصة صاحب الجنتين﴾
تفسير الآيات [ 32-44]
تفسير قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا* كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا* وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا* وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا* وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا* قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا* لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا* وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا* فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا* أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا* وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا* وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا* هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾ [الكهف: 32-44]
تفسير قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا﴾ [الكهف: 32]
(واضرب لهم) واضرب أيها النبي مثلا للمؤْمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي مع مكابدتهم ألم الحرمان والفقر، وللكافرين الذين استنكفوا عن مجالسة الفقراء من المؤْمنين ؛ وجحدوا فضل معطِيهم مع تقلبهم في نعيمه ، لتبين بهذا المثل للفريقين ولكل من يتعزز بالدنيا ويغترّ بها – لتبيّن – حالًا فيها عبرة للمعتبرين، وتبصرة للمستبصرين.
فالمعنى: اضرب لهم يا محمد مثلاً للكافر إذا استغنى، والفقير إذا رضى بالإيمان.
هل هذا المثل حقيقة، أو مجرد ضرب مثل؟
كل ذلك محتمل، وهل هو في عهد النبوة، أم في عهد بني إسرائيل؟ هذا هو الأظهر، وأياً كان الأمر هذا مثال ضربه الله جل وعلا.[1]
” وَحَفَفْنَاهُمَا بنخل” أحطناهما،” وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا “ والمعنى : أن النخل محيط بالجنتين من جميع جهاتهما لتصون الأعناب وتحفظها، وأن الزرع وسطها، لتكونا جامعتين للفواكه والأقوات على هذه الصورة الرائعة والوضع الأنيق.
تفسير قوله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا﴾ [الكهف: 33]
“ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا “أي: أعطت الثمرة المطلوبة منها، والأكل: هو ما يؤكل.
“وَلَمْ تَظْلِمْ ” أي: ولم تنقص منه شيئاً، ولا يوجد تظلم في القرآن بمعنى: تنقص إلا في هذه الآية.
والمعنى : أَن كل واحدة من الجنتين أَعطت ثمرها تامًّا كاملًا طيبًا، ولم تنقص منه شيئًا، فليست كسائر البساتين، فإنها غالبا يكثر ثمرها في عام ويقل في آخر بسبب ما يحدث فيه من تقلبات جوية، وآفات ، وربما لا تثمر أصلًا في بعض الأعوام نتيجة لما ينزل بها من نوازل.
(وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا): وأَجرينا بين الجنتين نهرًا غزيرَ الماء، تيسيرًا لسقيهما، وزيادة في جمالهما وطيب هوائهما.
تفسير قوله تعالى: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف: 34]
(وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ): كان له مال آخر غير الشجر؛ لأن الثمر في لغة العرب يطلق: على كل ما تمولته، من الذهب والفضة، والحلي، وسائر ما تمتلكه يقال له: ثمر؛ كما فسره ابن عباس ، وعلى هذا فالثمر لفظ عام، يطلق على ثمار الاشجار، وعلى جميع أنواع المال المثمر.
المعنى: وكان لصاحب الجنتين ثمر من أحمال أشجار أُخرى، وكذا من أنواع المال المثمر من ذهب وفضة وحيوان وغير ذلك ، وهذا الكافر بدل أن يشكر نعم الله عليه ؛ دفعه غروره وتعلقه بمباهج الحياة الدنيا إلى أَن يقول لصاحبه المؤْمن: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا): أي أنا أَوْفر منك مالًا تعدَّدت مصادره، وتنوعت موارده، وأعز حشما وأَعوانا. [2]
تفسير قوله تعالى:﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا* وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾ [الكهف: 35-36]
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ):أي أَنه تابع اعتزازه وغروره، وتمادى في إعراضه وكفره، ودخل جنته وهو ظالم لنفسه حيث عرضها للهلاك، وعرض النعمة للزوال ؛ لوضعه الشيء في غير موضعه .[3]
فكان اللائق به أن يعرف للنعمة حقها من شكر المنعم بها، والتواضع لمجريها جل شأنه ، لا ما وقع منه من إنكارٍ وكفر، حكاه الله عنه بقوله سبحانه: (قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا): وهذا استئناف أجيب به عن سؤَال مقدر نشأ من ذكر دخول جنته وهو ظالم لنفسه، كأنه قيل: فماذا قال حينئذ، فقيل: (قال مَا أَظنُّ أن تبيد هذِهِ أبدا): أي ما أعتقد أن تهلك هذه الجنة مدى الحياة، وإنما قال ذلك لطول أمله في الحياة، وغفلته عن نعمة الله.
والعدول عن التَّثْنية إلى الإفراد في قوله سبحانه: (وَدَخَل جَنتَهُ) لاتصال إحداهما بالأُخرى كأنهما جنة واحدة، أو لأن الدخول لا يمكن أن يكون في الجنتين معا في وقت واحد وإِنما يكون في واحدة فواحدة.
(وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا): أي أنه تمادى في كفره بإنكاره البعث اعتقادًا منه، وردا على صاحبه لما وعظه وخوّفه قيام الساعة، حيث قال:
(وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) أي لا أَحسبها كائنة وقائمة فيما سيأتي.
(وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا): أَي أَنه إِن رد إِلى ربه مبعوثًا -على سبيل الفرض والتقدير- كما زعم صاحبه ليجدنَّ في الآخرة خيرًا من جنته في الدنيا مرجعًا ومصيرًا تمنيًا على الله وادعاءً لكرامته عليه، ومكانته عنده، واعتقادًا بأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه، يقول هذا ولم يدر بخلده أَنه إمهال واستدراج ، حتى إذا أَخذه لم يفلته .[4]
تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا٣٧ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا٣٨﴾ [الكهف: 37-38]
فأجابه صاحبه المؤمن منكرًا عليه ما وقع فيه من جحود وكفر، فقال له: كيف تكفر بالذي خلقك من تراب في ضمن خلق أصلك آدم عليه السلام، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا): أي جعلك رجلًا في أَحسن تقويم حيث أنشأك معتدل القامة سوِيَّ الخَلْق منذ طفولتك حتى أَصبحت رجلًا، تلى أَمورك وتصرف شئونك.
(لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا): أصله لكن أنا هو الله ربي، فحذفت همزة أنا، وأدغمت نون (لَكِنَّ) في نون (أَنَا) بعد حذف همزتها.
والمعنى: أَنا لا أَقول بمقالتك الدالة على الكفر من إنكار البعث وغيره، لكن أنا أقول هو الله ربي؛ فأنا مؤمن مُوحِّد، أَعترف له سبحانه بالربوبية والوحدانية.
تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا﴾ [الكهف: 39]
أَي هلا قلت حين دخلت جنتك ونظرت إلى كمال تنسيقها ومختلف ثمارها:(مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) فحمدت الله على ما أنعم به عليك، حيث أعطاك من المال والولد والرجال ما لم يعط غيرك، اعترافا منك بقوته، وإِقرارا بعجزك، وإِيمانا بأنه لو شاء لسلبك هذا العطاء الذي جعلته موضع فخرك واعتزازك، لأَن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. [5]
تفسير قوله تعالى: ﴿فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا* أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾ [الكهف: 40-41]
(فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ):أَي إن ترني أَمامك أَقل منك مالا وأولادًا وأعوانًا، فأَملى في فضل الله يجعلني أتوقع أَن يبدل ما بي وبك من الفقر والغنى فيرزقني لإيماني جنة خيرا من جنتك التي كانت سببًا في طغيانك وكفرك بربك.
(وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ)(حسباناً) هذه نعت لمحذوف، والمحذوف هو: هلاك، فيكون المعنى: فيرسل عليها هلاكاً حسباناً من السماء، والحسبان هو: الشيء المقدر، قيل: صاعقة وهو الأظهر، لكن الله قال: حسباناً؛ لأنه الشيء المقدر، ولو أن هاتين الجنتين أهلكتا بزلزال عام، أو بجائحة عامة لما كان في ذلك انتصار للعبد الصالح، لكن الله قال: (حسباناً) أي: شيئاً مقدراً على قدر الجنتين حتى يعرف أنها مراده ومقصوده بالهلاك؛ حتى لا يقول : إنها آية كونية عامة أصابتني كما أصابت غيري.. كلا إنها صاعقة مخصوصة محسوبة لهذه الجنة دون غيرها.
(فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا): أي أرضًا لا نبات فيها ولا تثبت عليها قدم، لما فيها من الوحل أو من الرمال التي تزل فيها الأقدام، بمعنى أنها تصبح مسلوبة المنافع حتى منفعة المشي عليها.
(أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا): أَو يُصبح ماؤُها غائرًا أَو ذاهبًا فيها بحيث لا يمكنه استخراجه من جوفها .
” فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا” : أي لا تقدر أن ترد الماء الغائر بأية حيلة من الحيل، ولا تقدر على تفجيره بمختلف الوسائل ، والتعبير بغَوْرًا بدل غائرًا للمبالغة في ذهاب مائها ، كرجل عدْل بدل عادل، للمبالغة في عدله .
وإلى هنا انتهت مناظرة المؤمن لصاحبه الكافر وإِنذاره ، ويحكي الله عاقبة كفره وغروره، فيقول سبحانه:
تفسير قوله تعالى : ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: 42]
هكذا انتقل الرجاء إلى التنفيذ، وكأن الله تعالى استجاب للرجل المؤمن ولم يكذب توقعه .
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ): بإهلاك جنته وما فيها من نخيل وأعناب وزروع ، مأخوذ من الإحاطة والاستدارة حول الشيء من جميع جهاته، تمكنًا منه وغلبة عليه، ثم استعمل في كل إهلاك.
(فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ) أي : يضرب كفاً بكف، كما يفعل الإنسان حينما يفاجئه أمر لا يتوقعه، فيقف مبهوتاً لا يدري ما يقول، فيضرب كفاً بكف لا يتكلم إلا بعد أن يفيق من هول هذه المفاجأة ودهشتها، ويقلب كفيه ندماً على ما أنفق فيها.
(وهي خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا): العروش: جمع عرش وهو ما يبنى ليوضع عليه شيء، فإذا سقط سقط ما عليه، يعني: أن كرومها المعروشة سقطت عن الأرض، وسقطت ومن فوقها كروم العنب بحيث قاربت أن تصير -صعيداً زلقاً- تراباً أملس
والمعنى : أنه أصابته الحسرة والندم حين رأَى أشجار الكروم ساقطة على أعمدتها التي تصنع لحملها حفاظًا عليها وذلك لسقوط تلك الأعمدة لما أصاب الجنة من عذاب السماء الذي جعلها صعيدا زلقا.
وذِكْرُ هلاك الكروم مُغْن عن ذكر هلاك النخيل والزروع لأنها حيث هلكت وهي على عروش تسندها وتقويها. فهلاك غيرها بالطريق الأولى.
(وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا): أي يا ليتنى عرفت نعم الله عليّ وعرفت أنها كانت بقدرته فلم أُشرك به، وكأنه تذكر موعظة أَخيه له لمَّا أبصر ما نزل بجنتيه، وعلم أن هلاكهما من قبل الشرك وبسببه، لذلك تمنى لو لم يكن مشركا فلم يصبه ما أَصابه.
وقيل هذا القول منه توبةٌ عن الشرك، وندمٌ على ما وقع منه، فيكون استحداثا للإيمان. لأن ندمه على الشرك فيما مضى يشعر بأنه آمن في الحال، فكأنه قال آمنت الآن وليت ذلك كان أولًا.
قال تعالى:﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا* هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾ [الكهف: 43-44]
( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا): ولم يكن لهذا الكافر ولد ولا عشيرة ممن افتخر بهم واستعز، يقدرون على نصرته بدفع الإهلاك عن جنته أو ردِّ ما هلك، أَو الإتيان بمثله من دون الله، لأنه سبحانه هو الفعال لذلك كله، وهو الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وما كان ممتنعا عن انتقام الله بما زعم لنفسه من قوة وجاه.
(هُنَالِكَ ) هذه الكلمة تُستخدم في اللغة العربية كظرف زمان أو مكان ، وتعني “في ذلك الموضع” أو “في ذلك الوقت، في سياق هذه الآية، على أنها تشير إلى الوقت الذي حدث فيه الهلاك أو العقوبة، أي لحظة إدراك الكافر لزوال نعمته وعجزه عن الدفاع عنها نزلتْ الصاعقة من السماء فأتتْ على الجنة، وجعلتها خاوية على عروشها.
الْوَلَايَةُ): الولاية بفتح الواو وكسرها: النصرة والغلبة ، قرأ الأعمش وحمزة والكسائي الولاية بكسر الواو والباقون بفتحها وهما بمعنى واحد بمعنى النصرة والغلبة.
وقيل الولاية بالفتح من الموالاة كقوله تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) من الآية 257 البقرة، وبالكسر بمعنى السلطان والقوة، وقال أبو عبيدة إنها بفتح الواو للخالق وبكسرها للمخلوق.
وهذه الجملة تأكيد وتقرير للآية السابقة والمعنى في هذا الموطن وتلك الحال التي حلَّت بجنته. لن يجد مُنْقِذا له يدفع عنه ما نزل به؛ لأن النصرة والغلبة لله الحق؛ فلا يقدر عليها أحد غيره.
“هو خير ثوابًا“: أي أن الله تعالى هو خير من يثيب عباده، فثوابه أفضل وأعظم من أي ثواب آخر
“وخير عقبًا“ أي أن عاقبة من يطيع الله هي الأفضل، سواء في الدنيا أو في الآخرة.
وهكذا ضرب الله تعالى لنا مثلاً، وأوضح لنا عاقبة الغني الكافر، والفقير المؤمن، وبين لنا أن الإنسان يجب ألا تخدعه النعمة ولا يغره النعيم ؛ لأنه موهوب من الله، فاجعل شكر الواهب المنعم سبحانه دائماً على لسانك، وانسب الفضل له وحده سبحانه، وإلا كنت مثل هذا الجاحد الذي استعلى واغتر بنعمة الله فكانت عاقبته كما رأيت.
أهم ما يستفاد من الآيات:
- التحذير من الاغترار بنعم الدنيا والانخداع بزخارفها وزينتها.
- بيان حال الكافر المتكبر حين يُستدرج بالنعم حتى يكفر ويطغى.
- نعم الدنيا ليست دليلاً على رضا الله بل قد تكون استدراجًا للغافلين.
- المال والولد والعز نعم ينسب فيها الفضل لله وحده.
- الإنكار على من يفتخر بالدنيا ويجحد المنعم الحقيقي.
- التواضع والشكر لله هما الحصن من زوال النعم.
- من السنة ذكر مشيئة الله عند رؤية النعم والتبريك عليها.
- العاقبة للمتقين ولو كانوا في ظاهر الحال أقل من غيرهم.
- المال والغنى والولد لا يغنون عن العبد شيئا إذا وقع به بأس الله.
- لا قوة في الأرض تنفع من أراد الله إذلاله أو خسارته.
- دعوى الكافر بأنه سينال في الآخرة أفضل مما له في الدنيا جهل وغرور
- الكافر الظالم لا يجد ناصرًا حين تنزل به العقوبة ولا يستطيع دفعها.
- تقلب الكافر في النعمة لا يعني أنه على الحق بل قد يكون استدراج وفتنة.
- عزة المؤمن بربه وإعلانه التوحيد لله أمام أهل الشرك والغرور.
- الاعتراف بالذنب بعد فوات الأوان لا ينفع إلا إن كان مقرونًا بتوبة صادقة.
- لا ولي ولا ناصر عند المصائب إلا الله الواحد القهار.
- عبرة للمعتبرين أن جنة الكافر زالت بكلمة واحدة من الله.
[1] اختلف المفسرون في تحديد زمان ومكان وقوع قصة صاحب الجنتين فمنهم من رأى أنها واقعة حقيقية حدثت في زمن بني إسرائيل، واستدلوا على ذلك بروايات تشير إلى أن الرجلين كانا أخوين من بني إسرائيل، ورثا مالاً، فأنفق أحدهما ماله في طاعة الله حتى افتقر، بينما استثمر الآخر ماله في إقامة جنتين وافتخر بثروته على أخيه، فكانت العاقبة كما ورد في القصة.
ورأى فريق آخر من المفسرين أن القصة مثل ضربه الله تعالى لتوضيح حال المؤمن والكافر، دون أن تكون حادثة واقعية، مستدلين بأن القرآن استخدم عبارة “واضرب لهم مثلاً” في مطلع القصة، مما يدل على أنها قصة تمثيلية للعبرة ، وخلاصة القول: أنه لا يوجد تحديد قاطع لزمان ومكان وقوع القصة، ومعرفة ذلك لا تؤثر على العبرة المستفادة منها.
[2] قال قتادة “تلك والله أمنية الفاجر – كثرة المال وعزة النَّفَر”.
[3] يقول الشيخ الشعراوي في تفسيره: قد يظلم الإنسان غيره، لكن كيف يظلم نفسه هو ؟ يظلم الإنسان نفسه حينما يرخي لها عنان الشهوات، فيحرمها من مشتهيات أخرى، ويفوت عليها ما هو أبقى وأعظم، وظلم الإنسان يقع على نفسه ؛ لأن النفس لها جانبان : نفس تشتهي، ووجدان يردع بالفطرة، فالمسألة إذن جدل بين هذه العناصر ؛ لذلك يقولون : أعدي أعداء الإنسان نفسه التي بين جنبته، فإن قلت : كيف وأنا ونفسي شيء واحد ؟ لو تأملت لوجدت أنك ساعة تحدث نفسك بشيء ثم تلوم نفسك عليه ؛ لأن بداخلك شخصيتين : شخصية فطرية، وشخصية أخرى استحوازية شهوانية، فإن مالت النفس الشهوانية أو انحرفت قومتها النفس الفطرية وعدلت من سلوكها، فالمراد بالظلم هنا ما حدث نفسه به حال دخوله جنته من الاستعلاء بالغنى، والغرور بالنعمة، فقال: ما أظن أن تبيد هذه النعمة، أو تزول هذه الجنة الوارفة أو تهلك، لقد غره واقع ملموس أمام عينيه استبعد معه أن يزول عنه كل هذا النعيم.
[4] إشارة إلى حديث الشيخين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته”.
[5] ويذكر في هذا السياق حديث رواه أبو يعلى في مسنده ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنعم الله عز وجل على عبد نعمة ، من أهل أو مال أو ولد ، فيقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، فيرى فيه آفة دون الموت . وكان يتأول هذه الآية : ( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) غير أن الحديث المذكور ، ضعيف، لكن هل يشرع هذا القول؟ ذهب بعض أهل العلم إلى مشروعية مثل هذا الذكر ، إذا رأى الإنسان ما يعجبه ، إما خوفا من العين والآفة عليه ، أو خوفا على صاحب ذلك الشيء من العجب والفخر ، وتأولوا على ذلك معنى الآية ، كما ذكر في آخر الحديث السابق ، أنه كان يتأول الآية ، وبناء على هذا القول فإذا رأى المسلم ما يعجبه وخاف من حسد العين فإنه يقول: ما شاء الله تبارك الله، حتى لا يصاب المشهود بالعين، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال للرجل الذي أصاب أخاه بعين: ( هلا برَّكت عليه ) وكذلك إذا رأى المسلم ما يعجبه في ماله فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ لِئَلاَّ يعجب بنفسه وتزهو به نفسه في هذا المال الذي أعجبه، فإذا قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فقد وكل الأمر إلى أهله تبارك وتعالى.