تفسير سورة الكهف
10- ﴿قصة ذي القرنين ﴾
تفسير الآيات من [83-98]
قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا* إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا* فَأَتْبَعَ سَبَبًا* حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا* قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا* وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا* ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا* حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا* كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا* ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا* حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا* قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا* قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا* آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا* فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا* قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ [الكهف: 83-98]
تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ [الكهف: 83]
(يسألونك) السائلون قريش بتلقين اليهود.
ذكر الله قبل هذه القصة ما حدث بين موسى والخضر، وعقبها بذكر قصة ذي القرنين ليكونا آية على نبوته صلى الله عليه وسلم، فإن القصتين لا يعلمها سوى أهل الكتاب، في حين أَنه صلى الله عليه وسلم لا سبيل له إِلى علمهما إلاَّ بقراءة كتبهم، أو بتعلمها منهم، ولا سبيل له إِلى قراءتها، لأنه أمي، كما أنه لا سبيل له إلى تعلمها منهم، لأنهم لا يوجدون بمكة، ولم يكن له اتصال بهم، ولهذا كانوا يسألونه عن تلك الغيبيات، بتحريض قريش على سؤاله، كما سبق في مقدمة السورة.
(عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ): ملِك صالح مكن الله له في المشارق والمغارب، وجعله الله نموذجاً للحاكم الصالح، حتى لا يتعذر أحد أن الحكم لا يقوم إلا على البطش والجبروت، فأتى الله بحاكم صالح ينفذ منهج الله.
وقد اختلف في شخصه، فقيل هو الإسكندر المقدوني[1] ، وهناك من يرى أن ذا القرنين هو غورش الفارسي، ويسميه اليهود (كورش) [2]
وسبب تسميته بذي القرنين: لأنه بلغ مشرق الشمس ومغربها، مأخوذ منْ قَرْنِ الشمس بمعنى ناحيتها.
( قل سأتلو عليكم منه ذكرا) أي: خبرا يتضمن ذكره؛ والذكر: التذكر والتفكر، أي سأتلو عليكم ما به التذكر، فجعل المتلو نفسه ذكرا مبالغة بالوصف بالمصدر.
هل ذو القرنين نبي أم لا؟
هذه مسألة اختلف فيها المفسرون على قولين:
القول الأول: إنه كان نبياً، واحتج عليه بوجوه:
الأول: قوله تعالى: (إنا مكنا له في الأرض)، والأولى حمله على التمكين في الدين، والتمكين الكامل في الدين هو النبوة.
الثاني: قوله تعالى: (وآتيناه من كل شيء سبباً) ومن جملة الأشياء النبوة.
الثالث: قوله تعالى: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، والذي يتكلم الله معه لابد أن يكون نبياً.
القول الثاني: إنه كان عبداً صالحاً وما كان نبياً.
وقالوا عن الأدلة السابقة: أولا: أنها لا تخلو من ضعف في الاستدلال على نبوته، يعني: التمسك بمثل هذه العموميات لا يكفي في إثبات النبوة؛ لأن الأدلة في عامتها يضعف وجه دلالتها على كونه كان نبياً؛ لأن قوله: (إنا مكنا له في الأرض) ما المانع من أن يكون المقصود به الملك والتمكين الدنيوي، والصفوة، وتوسع النفوذ والسلطان؟ وليس شرطاً أن يكون التمكين بالنبوة، والظاهر أنه كان ملكاً عظيماً.
ثانياً: قوله: (وآتيناه من كل شيء سبباً) لا تستلزم أن يؤتى النبوة أيضاً، باعتبارها سبباً من الأسباب، كما في قوله تعالى في شأن بلقيس:” وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ” [النمل:23]، وهي إنما أوتيت من كل شيء مما يؤتاه الملوك، كذلك هذا آتاه الله من كل شيء سبباً ولا يشترط أن تشتمل على معنى النبوة.
ثالثا: وأما قوله تعالى: (قلنا يا ذا القرنين)، فقد قلنا إنه كناية عن تمكينه تعالى له منهم، لا أنه قول مشافهة، وإلا لو كان ذلك لكان مخيراً منه تعالى وملقناً ما يفعل بهم، فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر،” إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ” [الكهف:86] فإذا كان الله مكنه منهم، وكان من قبل قد قال له: أنت مخير أن تفعل هذا أو ذاك، فكيف يسوغ له بعد ذلك أن يجتهد اجتهاداً ينقض هذا الحكم؟
ما القول الراجح؟
يرفع هذا الاختلاف بما جاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعا: ( ما أدري أَتُبَّعُ أنَبيًّا كان أم لا؟ وما أَدري ذا القَرنينِ أَنبيًّا كانَ أم لا؟ ) صححه الألباني في صحيح الجامع.
فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- توقف في نبوته، فمن باب أولى أن نتوقف في ذلك.
(قلْ سأتلو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذكرا) أي: من بعضه، فلن أقول لكم كل شيء، سأقول لكم بالقدر الذي ينفعكم.
تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا* فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: 84-85]
إنا جعلنا لهُ مُكنَةً وقدرة على التصرف في الأرض، وأعطيناه من أجل كل شيء أَراده فيها سبَبًا ووسيلة توصله إِليها، فلا يعوقه عن مراده عائق، ومن هذه الأسباب سعة العلم وحسن التدبير، والحكمة في التصرف، وتدريب الجنود، واختيار القواد، والعتاد الحربي، فأراد التوجه إلى ناحية مغرب الشمس.
(فَأَتْبَعَ سَبَبًا): اتبع واتَّبع بمعنى واحد أي اتبع طريقًا وأسلوبًا من شأنه إنجاح غزوه للأقطار.
وقد أشارت الآية الكريمة (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) إِلى أن معالي الأمور لا تنال إلا باستعمال الأسباب الموصلة إِليها، وأن المجد لا يناله القاعدون الخاملون.
تفسير قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ [الكهف: 86]
أي اتبع الطريق والسبب الموصل إلى مقصده، حتى إذا بلغ في فتوحاته منتهى الأرض من جهة مغرب الشمس، ووقف عند حافة المحيط، وجد الشمس – كما أدركها بصره – تغرب في عين ذات حمأة، والحمأة الطين الأسود.
وقرئ (فِي عَيْنٍ حامية) وبها قرأ معاوية وعبد الله بن عمرو بن العاص، ولا منافاة بين القراءتين، فإِنه لما بلغ حافة اليابسة، وقف ينظر إِلى الشمس عند غروبها، فرآها في نظره كأنما تغرب في عين متقدة نارية، بسبب قرص الشمس الشديد الحمرة، الذي يبدو كأنه وقدة من النار جعلت مكان اختفائها في نظره، كأنما هو عين حامية –
وكما يتصورها الناظر تغرب في عين حامية، يتصورها تغرب في عين ذات طين أسود، فإنها لما غابت تحت الماء، أصبح مكان اختفائها فيه مظلمًا باهتًا بعد أَن كان متقدًا.
أي هذا الذي رآه أمر ناشئ في وجدانه وخياله، وليس من الحقائق الواقعة ؛ فكما يراها الناظر عند غروبها تغرب في عين ماء حمئة أو حامية إذا كان على شاطئ المحيط فإنه يراها تشرق خارجة من اليابسة، وتغرب داخلة فيها إِذا كان واقفًا على متسع فسيح من أرضها، والحقيقة أن الشمس لا تغرب في الماء ولا في اليابسة عند الغروب، ولا تشرق منهما عند الشروق فالشمس أَكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة، ولا تختفى عن مدارها، والأرض تدور تحت أشعتها فتعُمُّ الشمسُ نصفهَا بضوئها، لأنها على شكل كرة، فيكون النهار في القسم الذي استضاء بنورها والليل في القسم الآخر.
وكلما دارت الأرض اختفت أشعة الشمس عن بعضها: فحل فيه الليل محل النهار، وظهرت أَشعتها في بعض آخرَ تَكشَّفَ للشمس، فَحَلَّ فيه النهارُ مَحَل الليل.
والذى يحجب ضوء الشمس عن بعض الأرض هو البروز الكروي للأرض، فهو الذي يمنع أشعة الشمس عما انخفض منها بسبب حركتها الدائرية، ولو كانت مبسوطة وغير دائرة لما غابت الشمس عنها، ولكان وقتها نهارًا دائمًا، وأما ما ورد في القرآن من أن الأرض مبسوطة فمحمول على ما هو في رأى العين، كما في قوله تعالىَ في سورة نوح: “وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا”
(وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا) أي ووجد ذو القرنين في طرف الأرض من ناحية المغرب، وجد قوما عند العين التي تخيلها وتخيل أَن الشمس تغرب فيها، وكان هؤُلاء القوم مشركين، كما هو شأْن الناس عند غياب المرسلين عنهم، قال الله له على سبيل التخيير:
(قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) ياذَا القَرنَيْنِ، إما أن تُعَذِّبَ هؤُلاء القوم بالقتل إِن أبوا الإِيمان وأصروا على الشرك، وإما أن تتخذ فيهم أَمرًا ذا حسن، بالمصابرة والمطاولة لعلهم يؤْمنون ويَرْشدون، وكان تخيير الله لذي القرنين على النحو السابق إِما على لسان نبي كان موجودًا في هذا الزمان، وإما على سبيل الإِلهام.
تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا٨٧ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: 87-89]
أي قال هذا الرجل الحكيم بعد أَن خيره الله في شأن الكفار الذين كانوا جهة الغروب على النحو الذي بيناه في شرح الآية السابقة – قال -: هؤلاء الناس سوف يكونون بعد دعوتهم إلى الحق قسمين:
- ظالمين ببقائهم على الكفر وإصرارهم عليه.
- ومؤمنين تائبين من كفرهم.
فأما من ظلم نفسه ببقائه على الكفر والعصيان، فسوف نعذبه بالقتل، ثم يعيده الله بالبعث فيرده إِلى حسابه وجزائه فيعذبه على كفره وعصيانه عذابا منكرا فظيعا.
ثم بين مآل المؤمنين التائبين كما حكاه الله عنه بقوله:
(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى) أي وأما من آمن بالله وعمل صالحا موافقًا لما شرعه الله على لسان نبي ذلك العصر، فله المثوبة الحسنى في الدارين، جزاء له على إيمانه وصالح عمله.
(وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) وسنقول له مما نأمر به موافقًا لشرع الله – سنقول له – قولا ذا يسر وسهولة في مختلف التكاليف، فإن الله لا يكلف نفسًا إلاَّ وسعها.
وهذا منتهى العدل لأن الملك يبقى إذا كان الفاسق والمجرم يخاف من سطوتك، والكريم الفاضل يرجو فضلك، يبقى الملك إذا كان ذوي الصلاح يؤملون منك، وأهل الفجور يخافون منك، أما إذا كان أحد من الناس يحكم، فإن الفجار لا يخافونه، ولا الكرام يؤملون فيه، فلن يستمر ملكه.
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا) ثم اتَّبَعَ طريقًا موَصِّلا إِلى المشرق، ليرجع فيه بعد غزوه المغرب.
تفسير قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا* كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا* ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾ [الكهف: 90-92]
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) حتى إذا بلغ ذو القرنين الإِقليم الذي تطلع الشمس عليه أولا في ناحية المشرق على حافة المحيط، وجدها تطلع على قوم بدائيين فطريين لم يرتقوا صناعيًّا، حتى يصنعوا لأنفسهم ثيابًا تسترهم وتحميهم من أشعة الشمس، أَو مساكن تُؤوِيهم من حرارتها.
وهناك تفسير آخر قاله الشيخ الشعراوي – رحمه الله- وهو أنه قد يكون ذلك في المنطقة التي يمكث فيها النهار أَيامًا متتالية في فصل من فصول السنة، ثم يمكث الليل أَيامًا متتاليةً كذلك في فصل آخر، وأنه وصل إليها وقتما كان الزمن نهارًا دون ليل، والشمس طالعة فوقهم دائمًا، وليس لهم وقتئذ ليل يسترهم منها، وأن ذلك هو معنى قوله سبحانه: (وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا) [3]
وقد أَجمل الله كمال استعداد ذي القرنين لهذه الرحلة، وَعظَّم أمره وفَخَّمه بقوله:
(كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) أي كان الأمر في الواقع مثل هذا الذي حكيناه عن ذي القرنين في اليسر والسهولة، وقد أحطنا علمًا به فنحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض.[4]
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا) ثم اقتفى طريقًا ثالثًا يصل منه إِلى حيث يوجد يأجوج ومأجوج وجيرانهم الذين يتعرضون لفسادهم.
تفسير قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾ [الكهف: 93]
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) بين الجبلين.
(مِنْ دُونِهِمَا): أي قريبًا منهما، والأصل في استعمال لفظ (دُونَ) أن يكون بمعنى تحت وبمعنى فوق، وبمعنى أمام وبمعنى خلف، أَي أنه يستعمل في الشيء ومقابله.
والمعنى: لما أَتم ذو القرنين رحلته إلى المشرق، وأخضع أهله لحكمه، اتخذ طريقا ثالثا ليخضع لسلطانه قوما آخرين لم يدينوا له بعد، حتى إذا وصل في سيره إِلى منطقة تقع بين جبلين معينين، وجد قريبًا منهما قوما لا يستطيعون أَن يفهموا ما يقال لهم منه أو من أَتباعه لقلة فطنتهم، فإنهم لو كانوا أذكياء لفهموا بعض ما يقال لهم بالقرائن، ولعلهم كانوا يتفاهمون معه بالإشارة ليعلموا ما يراد منهم أَو ما يٍجاب به على أَسئلتهم.
تفسير قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ [الكهف: 94]
من هم (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ)؟
اسمان لقبيلتين من البشر، وهما اسمان أَعجميان، أَو عربيان مأْخوذان من أجيج النار، وهو ضوؤها وشررها، وهذا المأخذ يشير إِلى شرهم وفسادهم، وأنهم مثل النار إشارة إلى سرعتهم في شن الغارات على جيرانهم، والعودة بغنائمهم إِلى حيث يعيشون وراء الجبلين اللذين أقيم السد بينهما، ولا ندري أين مكانهما بالضبط؟
لكن بعض الباحثين ذكر أن هذه المنطقة تقع ما بين البحر الأسود وبين بحر قزوين، وهي عبارة عن منطقة جبلية تزيد على ألف ومائتين وخمسين كيلو متر تقريباً، وهي منطقة جبال متصلة، فهي في حد ذاتها سد، وليس فيها مكان سوى مسافة واحدة هي التي تنقطع عندها السلسلة الجبلية، وهي التي أنشأ فيها هذا السد، وهي الجهة الوحيدة في المنطقة التي فيها سهل أو شعب واسع بين الجبلين، وكان يأجوج ومأجوج يغيران على الأمم من خلاله، أما ما عدا ذلك فكانت حواجز جبلية قوية جداً، وهي سلسلة جبال القوقاز، ويرجح أنها في أذربيجان، والله تعالى أعلم.
ونقول: أغفل الله مكانهما لحكمة يعلمها الله وسيظهرهما وقتما يشاء، وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد فلم يعرف مكانه لما ضر ذلك والبعض يقول: حصل مسح جغرافي شامل للكرة الأرضية، وأن هذا السد لو كان موجوداً لرأيناه … إلى آخره، وهذا الكلام لا يسلم؛ لأنه كم من منطقة بالذات هذه المناطق الجبلية لم تطأها قدم إنسان على الإطلاق، وهناك مناطق لا يتصور أن يصل إليها إنسان، وهذا وارد، فهذا لا يضر خبرنا شيئاً.
(مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ): ما هنا بمعنى الذي و(مَكَّني) أصله مكنني بنونين، فأُدغمت الأولى في الثانية أي ما جعلني الله فيه مَكينًا وعليه قادرًا خيرٌ من خَرْجِكُم،
“خَرْجًا” وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما “فَهَلْ نجْعَلُ لَكَ خَرَاجًا”. بألف بعد الراء وكلاهما بمعنى واحد كالنول والنوال، وقال ابن الأعرابي: الخرج على الرؤوس والخراج على الأرض، وقيل: الْخَرْجُ ما تبرعت به والخراج ما لزمك.
والمعنى: قال القوم الذين هم دون السّدين، يشكون حالهم لذى القرنين، لما عَلموه من قوة سلطانه وعظيم همته، بما سمعوه من أخبار رحلته قالوا لذى القرنين : إن قبيلتي يأجوج ومأجوج المقيمتين خلف السّدين، مفسدون في الأرض التي نحن فيها، كما أنهم مفسدون في غيرها، ونحن لا نقدر على دفعهم عن بلادنا، فهل نجعل لك عطاءً ومالا على أن تجعل بيننا وبين هؤلاء المفسدين حاجزا بين هذين الجبلين يمنعهم من العودة إلى أَرضنا والإفساد فيها .
تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ [الكهف: 95]
(رَدْمًا): أي حاجزًا حصينًا وسدًا منيعًا بعضه فوق بعض من قولهم سحاب مُرَدَّم، أي متكاثف بعضه فوق بعض.
والمعنى : قال ذو القرنين ردا على ما عرضوه من العطاء في مقابل إقامته السد بينهم وبين يأجوج – قال لهم – ما مكنني فيه ربي وجعلني فيه مكينا من الملك والمال والعلم وسائر الأسباب خير مِمَّا تريدون بذله لي، فلا حاجة بي إِلى أموالكم، فأعينوني على بناء السد الذي تريدونه بما أَقوى به على تحقيقه ؛ من العمال وآلات البناء والوقود وقطع الحديد والنحاس، وغير ذلك مما يحتاج إليه في إِقامته حتى يساوى الجبلين، ويكون شديد القوة بحيث لا يقدرون على صعوده ولا على اختراقه، فإن فعلتم أجعل بينكم وبينهم ردمًا أي حاجزا حصينا وحجابا متينا.
ثم فصل لهم بعض مطلوبه من القوة التي يعينونه بها فقال:
تفسير قوله تعالى: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: 96-97]
(زُبَرَ الْحَدِيدِ): قطع الحديد، جمع جَمْعُ زُبْرَةٍ، وهي القطعة الكبيرة من الحديد.
(الصَّدَفَيْنِ): جانبي الجبلين، ومفرده الصدف وهو الجبل.
(قِطْرًا): القطر هو النحاس المذاب.
والمعنى : أي أعطوني قطع الحديد ، فأتوه بها، فجعل يضع بعضها على بعض بطريقة تقتضى التماسك والارتفاع بالبناء ، حتى إذا ساوى ذو القرنين ما بين جانبي الجبلين بما بناه من السد قال لعماله: انفخوا بالكيران في الوقود الموضوع بين قطع الحديد بعد إشعال النار فيه، ليصبح الحديد مثل النار، فيلتصق بعضه ببعض، ففعل العمال ما أمرهم به.
وهذه العبارة مترتبة على كلام مقدر مفهوم من المقام، فكأنه قيل: ففعل العمال ما أمرهم به ذو القرنين من النفخ في الوقود المشتعل بين قطع الحديد، حتى إِذا جعل السد يشبه النار في شكله وفي حرارته قال لعماله الذين يقومون بإذابة القطر وهو النحاس قال لهم : أحضروا القطر الذي صهرتموه وأذبتموه لأُفرغه على السد، فأحضروه له فأفرغه عليه فسدّت به الثغرات التي كانت بين قطع الحديد بعد أن تم احتراق الوقود الذي بينهما، والتصق بعضها ببعض أشد التصاق.
(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) أن يعلوه ويرتقوا فوقه.
(وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) النقب الثقب والخرق.
والمعنى: فجاء يأجوج ومأجوج وقصدوا أن يعلوه أَو ينقبوه، فما استطاعوا أن يعلوا ظهره ويرتقوا فوقه لشدة ارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا له خرقا لصلابته وغلظه، قيل: كان ارتفاعه مائتي متر، وكان غلظه خمسين ذراعا، والله أَعلم بصحة ذلك.
ما الفرق بين الفعلين “فما اسطاعوا أن يظهروه” و”وما استطاعوا له نقبًا“؟
زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى؛ أي أن “استطاعوا” (بالتاء) تشير إلى قدرة أشد أو مهمة أصعب من “اسطاعوا” (بحذف التاء).
- (فما اسطاعوا أن يظهروه) تشير إلى عدم قدرتهم على تسلق السد، وهو أمر أقل صعوبة.
- وما استطاعوا له نقبًا” تشير إلى عدم قدرتهم على نقب السد، وهو أكثر صعوبة.
- فالتخفيف في “اسطاعوا” يتناسب مع الفعل الأخف (الصعود)، بينما “استطاعوا” تتناسب مع الفعل الأشد (النقب).
- هذا التدرج يعكس دقة التعبير القرآني في اختيار الألفاظ بما يتناسب مع المعنى المقصود.
وفي هذه الآية تساؤلات نذكرها ونجيب عليها فيما يلى:
لماذا قال ذو القرنين لأهل ما بين السدّين: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) مع أنه امتنع عن أخذ المال منهم، وقال: “مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْر “؟
والجواب: أن امتناعه عن أخذ المال لا يمنع من طلب عمال البناء والأدوات وقطع الحديد ليتقوى بذلك على تحقيق مرادهم على أن يدفع الأجر للعمال وثمن الحديد من ماله، على أن السد لما كان لمصلحتهم، فإن تبرعهم بالقوى العاملة، لا يعتبر عطاءً أو أجرًا على بنائه كما أن زبر الحديد قد تكون من منجم قريب من السد، فإحضارهم إياها، لا ينافى رفضه أجرًا منهم.
كيف يطلب من عماله أن ينفخوا على السور بعد أن بناه بقطع الحديد، مع أن هذا النفخ لا يصهر الحديد دون أن يكون بين قطعه وقود مشتعل؟
والجواب: أن هذا النوع هو من الاختصار القرآني المتروك فهمه لفطنة القارئ، وهو من الصور البلاغية للقرآن الكريم، ولا شك أنه أمرهم بوضع الوقود وإشعاله قبل أمرهم بالنفخ فيه، وأن الأمر بالنفخ قرينةٌ على ذلك.
لماذا أسند ذو القرنين العمل في السد لنفسه بقوله: (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) كما حكى الله عنه أنه ساوى بين الصدفين وجعله نارا، مع أن كل ذلك تم بمباشرة مهندسيه وعماله ؟
والجواب: أنه لما كان ذلك يتم بأمره وإرشاد أسنده إلى نفسه على سبيل المجاز.
كيف يستطيع العمال أن ينفخوا في السور قريبًا منه دون أن يحترقوا بناره، وكيف يفرغون عليه النحاس المذاب مع حرارته الشديدة وناره المتقدة، وارتفاعه العظيم وثخانته البالغة خمسين ذراعا على ما قيل؟
والجواب: أنه لابد أَن يكون ذو القرنين قد وصل إلى حل لهذه المشكلات، بحيث يمكنه تحقيق بنائه على النحو الذي تحدث به القرآن العظيم عنه، دون إضرار بأحد العاملين فيه، وكما أن العلم في عصرنا حل مشكلات كثيرة، فالعلم والحضارة والحكمة عند هؤلاء القدماء بلغت الذروة، فلابد أنهم استعملوا آلات وطرقا علمية لم يصل بعد أحد إلى معرفتها ولا تكاد العقول تصدقها، ما لم تعرف ما كان عليه هؤلاء العظماء، من العلم والحكمة والإبداع .
تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ [الكهف: 98]
يعني: فإذا دنا مجيء يوم القيامة، وشارف أن يأتي جعل السد دكاً أي: مدكوكاً مبسوطاً مسوىً بالأرض، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك، وهذا يحتمل أمرين:
- إما أن يدك على يد يأجوج ومأجوج عندما يحفروه وهذا الذي نميل إليه.
- وإما قصد ما يحدث في الأرض من تغير معالمها عند قيام الساعة، والأول أقرب.
عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، قالت: دخل النبي ﷺ عليها فزعًا، وهو يقول: (لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)، وحلَّق بأصبعيه الإبهام والتي تليها. فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثُر الخبث)
بطلان القول: إن يأجوج ومأجوج هم الروس أو المغول والتتار :
وهذه الآية وقوله تعالى: “حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ) [الأنبياء:96-97 ]، فالآيتان تدلان في الجملة على بطلان قول من قال: إن يأجوج ومأجوج هم الروس أو المغول والتتار وإن السد فتح منذ زمان طويل.
ويدل على هذا حديث رواه الإمام مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: ( ……. فبينما هو كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم -أي: لا أحد يستطيع أبداً أن يقاتلهم- فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خير من مئة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم؛ فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة. يدعو عليهم المسيح عليه السلام فيهلكهم الله سبحانه وتعالى.
ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً، لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة (المرآة)
ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة -المجموعة من الناس- من الرمانة، ويستظلون بقحفها -قحف الرمان هو ورقه- ويبارك الله في الرسل؛ حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام(الجماعة) من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة).
وهذا الحديث الصحيح قد رأينا فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يوحي إلى عيسى بن مريم خروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال، فمن يدعي أنهم روسيا، أو المغول والتتار ،وأن السد قد اندك منذ زمان، فهو مخالف لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها.
والمعنى : بعد أن فرغ ذو القرنين من بناء السد وإحكامه بحيث يمنع يأجوج ومأجوج من الخروج من ورائه ليفسدوا في الأرض، قال مشيرا إلى السد: هذا أَثر رحمة عظيمة من ربي بعباده، حيث أقدرني على بنائه وإحكامه وحمى به الناس من غزوات أولئك المفسدين المخربين وما أنا إلا منفذ لمشيئة ربي ورحمته بعباده، ولولا ذلك لما استطعت بناءه، فإذا جاء موعد ربي بخروج يأجوج ومأجوج من محبسهم جعل هذا السد أَرضا دكاء أي مستوية، وكان وعد ربي بخروجهم حقا ثابتا لا خلف فيه.
أهم ما يستفاد من الآيات:
- ثبوت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال إخباره بأمور غيبية لا يعلمها إلا بالوحي من الله .
- ذو القرنين مثال للحاكم الصالح العادل الذي يجمع بين القوة والإيمان.
- الله هو الذي مكن لذي القرنين وأعطاه من كل سبب فكان النجاح من عند الله.
- لا يتحقق النجاح إلا بالأخذ بالأسباب كما فعل ذو القرنين في فتوحاته.
- مغرب الشمس ليس حقيقة علمية بل وصف بصري كما يُرى بالعين المجردة.
- تميز ذو القرنين بالعدل في الحكم.
- يأجوج ومأجوج من بني آدم وهم مفسدون في الأرض بشكل دائم.
- ذو القرنين رفض الأجر المالي وطلب التعاون بالجهد والعمل.
- قوة السد دليل على المعرفة المتقدمة في البناء والتشييد، وقوة الإمكانات.
- عجز يأجوج ومأجوج عن تسلق السد أو نقبه يدل على تمام الإعجاز في بنائه.
- خروج يأجوج ومأجوج علامة من علامات الساعة الكبرى.
- لا يصح تفسير يأجوج ومأجوج بالروس أو المغول فذلك مخالف للنصوص.
- لا أحد يقدر على قتالهم إلا أن يهلكهم الله بقدرته.
[1] قال ابن القيم في إغاثة اللهفان حينما كان يتكلم عن الفلاسفة: ومن ملوكهم الإسكندر المقدوني، وهو ابن فليب، وليس بـالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن، بل بينهما قرون كثيرة، وبينهما في الدين أعظم تباين. فـذو القرنين كان رجلاً صالحاً موحداً لله تعالى، يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكان يغزو عباد الأصنام، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج، وأما هذا المقدوني فكان مشركاً يعبد الأصنام هو وأهل مملكته، وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمائة سنة، والنصارى تؤرخ له، وكان أرسطا طاليس وزيراً له، وكان مشركاً يعبد الأصنام.
[2] قال العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: الذي يظهر لي أن ذا القرنين كان ملكا من ملوك الصين لوجود أسباب:
أحدها: أن بلاد الصين اشتهر أهلها منذ القدم بأنهم أهل تدبير وصنائع.
الثاني: أن معظم ملوكهم كانوا أهل عدل وتدبير للمملكة.
الثالث: أن من سماتهم تطويل شعر رءوسهم وجعلها في ضفيرتين فيظهر وجه تعريفه بذي القرنين.
الرابع: أن سدا وردما عظيما لا يعرف له نظير في العالم هو موجود بين بلاد الصين وبلاد المغول. وهو المشهور في كتب الجغرافيا والتاريخ بالسور الأعظم، وسيرد وصفه.
الخامس: ما روت أم حبيبة عن زينب بنت جحش – رضي الله عنهما – أن النبيء ﷺ «خرج ليلة فقال: ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا» . وأشار بعقد تسعين أعني بوضع طرف السبابة على طرف الإبهام وقد كان زوال عظمة سلطان العرب على يد المغول في بغداد فتعين أن يأجوج ومأجوج هم المغول وأن الردم المذكور في القرآن هو الردم الفاصل بين بلاد المغول وبلاد الصين وبانيه ملك من ملوكهم..
[3] ويحدث هذا بالفعل في المناطق القريبة من القطبين: الشمالي والجنوبي؛ بالتحديد: في القطب الشمالي والمناطق القريبة منه (مثل شمال النرويج، ألاسكا، شمال كندا، سيبيريا، غرينلاند…).أيضا في القطب الجنوبي والمناطق القريبة منه (مثل قارة أنتاركتيكا).
في الصيف القطبي: تبقى الشمس مشرقة طوال 24 ساعة لعدة أيّام أو حتى أشهر («نهار مستمر»)، وهذه الظاهرة تسمى “شمس منتصف الليل”.
في الشتاء القطبي: تغيب الشمس تمامًا، فيكون ليل دائم لعدة أيّام أو حتى أشهر، مثال: في بلدة “بارو” (Barrow) في أقصى شمال ألاسكا: تشرق الشمس في شهر مايو ولا تغرب أبداً حتى نهاية يوليو (نهار مستمر حوالي 70 يومًا) ثم في الشتاء، تغيب الشمس بداية من نوفمبر ولا تظهر أبداً حتى نهاية يناير (ليل مستمر حوالي 65 يومًا).
[4] ويفهم من هذا الإشارة إلى عظيم العدد والعٌدد التي كانت معه، بحيث لا يحيط بها إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يستطيع غير الله أن يحصر ويحيط ما معه من الجيوش الكثيرة وكذلك العدد والآلات.