تفسير سورة الكهف : 9- ﴿قصة موسى والخضر ﴾

تاريخ الإضافة 1 مايو, 2025 الزيارات : 20

تفسير سورة الكهف

9- ﴿قصة موسى والخضر ﴾

تفسير الآيات من[ 60- 82]

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا* فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا* فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا* قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ  وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا* قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ  فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا* فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا* قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا* قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا* قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا* قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا* فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا  قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا* قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا* قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا* فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا* قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا* قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي  قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا* فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ  قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا* قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ  سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا* أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا* وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا* فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا* وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ  وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي  ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا* [الكهف: 60-82]

قصة موسى والعبد الصالح

روى البخاري بسنده عن ابن عباس : حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك.

قال موسى: يا رب فكيف لي به؟

قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ .

فأخذ الحوت فجعله في مكتل، ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق[1]، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما حتى إذا كان من الغد قال لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً.

قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمره الله به .

فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجباً.

 فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً، حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوباً -مغطى بثوب- فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام،[2] قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل ؟

قال: نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً، قال: إنك لن تستطيع معي صبراً، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه…

فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم السفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول -بغير أجرة- وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، إذ أخذ الفأس فنزع لوحاً فجأة، قال: فلم يرجع موسى إلا وقد قلع لوحاً بالقدوم، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً!!!

 قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟

 قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً، فكانت الأولى من موسى نسياناً.

فلما خرجا من البحر مرا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فخلعه بيده هكذا -فأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئاً-

فقال له موسى: قتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً؟

 قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟

 قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً.

 فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه -قال: مائلاً، وأومأ بيده هكذا، وأشار سفيان كأنه يمسح شيئاً إلى فوق، فلم أسمع سفيان يذكر مائلاً إلا مرة- قال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، عمدت إلى حائطهم، لو شئت لاتخذت عليه أجراً، قال: هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً.

 قال النبي صلى الله عليه وسلم: وددنا لو أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما)[3]

 هذا فيما يتعلق بالحديث الوارد في هذه القصة

تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف: 60]

 (فتاه): الفتى هو الشاب، وأضيف إلى موسى لأنه كان يخدمه ويتعلم منه، وهو يوشع بن نون أحد أنبياء بني إسرائيل الذي خلف موسى في بني إسرائيل بعد وفاته.

(لا أبرح) لا أبرح : أي لا أترك ما أنا بصدده، فيكون المعنى : لا أترك السير إلى هذا المكان حتى أبلغ مجمع البحرين.

(مجمع البحرين): موضع التقائهما .

(حقُبًا): الحقب الدهر، ومقداره ثمانون سنة، كما قيل.

أبرزت الآيات السابقة لَجَاج الكفار وعنادهم وإِصرارهم على الباطل ومُحَاولتَهم طَمْسَ الحقائق الواضحة التي ساقها الله لهدايتهم، وفى هذه الآية والآيات التالية يضرب القرآن مَثَلًا ساميًا لنبي من أَنبيائه، أَوحى الله إِليه وكلمه تكليمًا ورزقه علمًا ومعرفة، ومع هذا سعى جاهدًا ليتعلم ما لم يعلم، وتحمَّل في سبيل المعرفة ما تَحَمَّل من مشاق، وهو موسى عليه السلام.

والمعنى: واذكر لهم يا محمد قصة موسى عليه السلام إذْ صَحب فتاه طالبًا لقاءَ العبد الصالح (الخضر) عليه السلام ليتعلم منه بعض ما لم يكن يعلم.

وفتاه هو يوشع بن نون تابعه وتلميذه وخليفته من بعده كما ورد في صحيح البخاري ومعهما مِكْتل [4] فيه حوت أعَدَّاه للطعام وأخبر موسى فتاه أنه لا يزال مُجِدًّا في السير حتى يصل إلى مكان العبد الصالح في مجمع البحرين .

وقد اختلف العلماء أين مجمع البحرين؟ على أقوال أربعة :

  • فذهب قوم إلى أنه عند مضيق باب المندب الآن.
  • إنه عند مضيق جبل طارق.
  • أنه في مدينة دمياط في أرض مصر، التقاء المالح بالعذب في دلتا مصر في دمياط، وحجة هؤلاء من حيث النظر قوية، وهم قالوا: إن الحديث دل على أن عصفوراً يأتي ينقر في البحر، والعصفور لا يشرب من الماء المالح، فلا بد أن يكون مجمع البحرين هذا فيه ماء عذب، وهذا يكون في دلتا مصر، هذا الرأي الثالث، لكن يرد عليه أن المانع من قبوله أنه لن يعرف أن موسى بن عمران بعد خروجه من مصر رجع إليها، لكنه كان مع قومه في أرض التيه، فلا يعرف أنه دخل مصر ووصل إلى دمياط، وكذلك القول أنه ذهب إلى مضيق جبل طارق أو باب المندب بعيد؛ لأن هذا يقتضي أن يترك قومه مدة طويلة ، وماذا سيفعلون فيها ؟ فهم في ثلاثين يومًا عندما ذهب لميقات ربه عبدوا العجل، فلو كان ذهب إلى مضيق جبل طارق أو باب المندب سيطول ذلك الأمر جدا، فالسفر يحتاج إلى آماد بعيدة.
  • القول الرابع قاله الشعراوي رحمه الله، وهو: أنه اجتماع خليج السويس مع خليج العقبة- وهذا ما أذهب وأميل إليه- ، والقرينة أن الله تعالى قال:” فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا “، وهذا يلزم منه أمران:

الأمر الأول: أنه في شيء يظهر عليه أثر المشي، وإلا فلا وجود للأثر، فتكون صحراء.

الأمر الثاني: قول الله جل وعلا: “فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ” فيه نوع إشعار أن هذه المنطقة لا يوجد فيها معالم ممكن أن يستدل بها موسى ويوشع، ولو كان فيها معالم ما احتاج إلى أن يقال: “فارتد عَلَى آثَارِهِمَا ” يعني: يرجعون حسب الأماكن التي مروا بها، فيعرفون يمين هذا الجبل مثلاً ويمين هذا البحر، ويسار هذا النهر، فدل على أنهم كانوا في صحراء، والصحراء هذه لا ينطبق عليها إذا قلنا خليج السويس، وخليج العقبة إلا صحراء سيناء، فإذا قلنا: إنه كان في صحراء سيناء فيتفق مع سياق القصص القرآني عن موسى بأنه خرج من أرض مصر يريد أرض فلسطين: “يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ “ [المائدة:21].وهي أريحا، فهذا يتفق مع قصص القرآن .

وانطلق موسى مع فتاه وقد عقد العزم أَن يواصل السير وإِن طال الزمن حتى يبلغه .

تفسير قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا [الكهف: 61]

(حوتهما): الحوت؛ العظيم من السمك، وفي بلاد المغرب يطلقون على كل سمك حوتاً.

(سَرَبًا): السرب في اللغة النفق.

أي فلما وصلا إلى موضعٍ يَجْمَعُ بين البحرين نسيا حوتهما فاضطرب في المكتل وقفز إلى الماء يشق طريقه فيه كأنما صنع الحوت لنفسه في الماء نفقًا، فقد صح من حديث الشيخين وغيرهما “أن الله أَمسك عن الحوت جرْيَةَ الماءِ، فصار عليه مثل الطاق، والمراد به: البناءُ المقوَّسُ كالقنطرة.

تفسير قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف: 62]

(غَدَاءنَا): طعامنا في الغُدْوة أي الصباح وهو ما يُسَمَّى الآن بالفطور.

(نَصَبًا): تعبًا ومشقة وجهدًا، وليس المراد من سفرهم من حين ابتدأا السفر، ولكن من حين فارقا الصخرة، ولذلك طلب الغداء، من حين فارق الصخرة تعب وطلب الغداء، وهذا من آيات الله عز وجل، فقد سارا قبل ذلك مسافة طويلة ولم يتعبا، ولما جاوزا المكان تعبا سريعًا من أجل ألا يتماديا في البعد عن المكان.

والمعنى: فلما جاوزا المكان وأمعنا في السير حتى الصباح شَعَر موسى عليه السلام بالجوع والتعب فقال لغلامه آتنا طعام الغدوة (وهي الصباح) ليَشْبَعا من جوع، ويستردَّا عافيتهما وينعما بالراحة بعد التعب.

تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا* قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف: 63-64]

قالَ له الغلام: إني نسيت الحوت عند الصخْرة وإن الحوت قفز إلى الماء ؛ ونسبة الإنساء إلى الشيطان لأنه ربما شغله بوساوس عن الأهل والوطن، جعلته يذهل عن هذه الحالة العجيبة بتقدير العزيز العليم، وإلا فتلك الحالة لا تنسى.

(عَجَبًا): غريبًا عن العادة مخالفا لها يدعو إِلى عجب الناس منه ، والمعنى : واتخذ في الماء طريقا عجيبًا كالنفق، أو أن الحوت المشوي تدب فيه الحياة حتى يقفز في المكتل، ويتجه صوب الماء، فهذا حقاً عجيبة من العجائب ؛ لأنها خرجت من المألوف.

(قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) قال إن فقدان الحوت إنما يكون عند التقاء البحرين وهو المكان الذي نريده حيث نلقي العبد الصالح.

( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) أي يَتَتبَّعَان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة.

تفسير قوله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: 65]

أي: فوجدا عند الصخرة التي نسي يوشع ما حدث من الحوت لديها – وجدا – عبدا صالحا من عباد الله آتاه رحمة كثيرة من عنده، وعلَّمه علمًا لا يكتنه كنهه من لدنه سبحانه وتعالى.

والرحمة التي آتاه الله إياها، هي الوحي والنبوة ، وأَما العلم اللَّدنيُّ فهو علم الغيوب والأسرار الخفية، كما سيأتي بعضه في قصته.

بعض المسائل في العبد الصالح الذي لقيه موسى :

  • جمهور المفسرين علي أن العبد الصالح هو الخضر.
  • ولقب بالخضر، استنادا إِلى ما رواه الترمذي بسند صحيح عن أَبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما سُمي الخضِر لأنه جلس علي فروة بيضاء فاهْتزَّت تحته خضْراء” ومثل ذلك رواه البخاري بسنده.

هل الخضر لا زال حيا؟

وذهب كثير من العلماء إلى أن الخضر ليس بحيٍّ ، سئل البخاري عنه وعن إلياس عليهما السلام -هل هما حيان- فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يبقى على رأس المئة ممَّن هو اليوم على ظهر الأرض أحد”

وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما من نفس منفوسة يأتي عليها مئة سنة وهي يومئذ حية”

ولو كان الخضر حياً إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكان من أتباعه، ولنصره وقاتل معه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس جميعهما.

والآيات الدالة على عموم رسالته كثيرة جداً كقوله تعالى:” قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا” [الأعراف:158] ، وقال عز وجل: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )[الفرقان:1]

ويوضح هذا أنه تعالى بين في سورة آل عمران أنه أخذ على النبيين الميثاق المؤكد أنهم إن جاءهم نبينا صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما معهم أن يؤمنوا به وينصروه، وذلك في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران:81]

فلو كان الخضر حياً في زمانه لجاءه ونصره وقاتل تحت رايته.

واخْتُلِف في الخضر، هل هو نبي أم ولي ؟

أغلب المفسرين على أن الخضر نبي ؛ ويستدل القائلون بنبوته بثلاثة أدلة :

 الأول / معنى الرحمة في قوله تعالى : (آتيناه رحمة من عندنا) فالرحمة تطلق على الوحي والنبوة في عدة مواضع من القرآن منها لما قال المشركون : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) [الزخرف/31] فكان الجواب : ( أهم يقسمون رحمة ربك ) [الزخرف/32] فالرحمة هنا يقصد بها النبوة .

الثاني / أن الخضر فعل أمورا لا يحل لمسلم أن يفعلها إلا بوحي من الله ؛ ربما خرق السفينة فيه أخذ ورد ، لكن ماذا عن قتل الغلام ؟ فلا ينبغي لأحد فعل ذلك إلا بوحي من الله عز وجل، والخضر قال في آخر الأمر: ( وما فعلته عن أمري ) [الكهف/82]

الثالث / في قوله تعالى : ( وعلمناه من لدنا علما ) [الكهف/65] وهذا العلم اللدني عند الخضر هو العلم بالغيب ، فمن كان يدري الخضر أن ملكا يسعى وراء هؤلاء المساكين ليأخذ سفينتهم غصبا ؟ وما أدراه بالمستقبل أن الغلام لو شب سيكون كافرا ؟ ومن أدراه أن تحت الجدار كان كنزا ليتيمين ؟ هذا كله علم غيب يثبت بالوحي من الله للخضر ولذلك في الآية : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ) [الجن26 /27]

  • ما هو العلم اللدني ؟

 نسمع البعض يقول بأن هناك علم الشريعة وعلم الحقيقة ، علم الظاهر وعلم الباطن ، ما حقيقة هذا الأمر ؟

 وللإجابة أقول : العلم نوعان :

  • علم كسبي.
  • وعلم لدني.

العلم الكسبي :

هو العلم الذي يكتسب بأدواته وأسبابه ، قال تعالى : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) [النحل/78] ، فنحن ولدنا بلا معرفة لشيء ( لا تعلمون شيئا ) ، ولذلك كلمة ( أمي ) معناها أنه منسوب إلى أمه فبقي طول عمره بحكم جهله بالقراءة والكتابة على المعرفة التي كان عليها يوم ولدته أمه.

 وخلق الله لنا (السمع والأبصار والأفئدة) هذه أدوات العلم ، حواس الإدراك والوعي ؛ فالعلم الكسبي : هو العلم الذي يأخذه الإنسان بأسبابه ، كالشهادات العلمية في وقتنا الحاضر ، كيف نتحصل على هذه الشهادات؟ بالتعلم والاستماع والقراءة والكتابة ؛ فلا يعقل أن أحدا يقف بين الناس يتكلم في مجال بدون علم ؛ فلن يتقدم أحد لإمامة الناس في القبلة إلا إذا كان سبق هذا التقدم تعلم كتاب الله عز وجل، وفقه الصلاة ، ولن يستطيع أن يقوم طبيب بالكشف على الناس وتشخيص الأمراض ووصف الدواء إلا إذا اكتسب ذلك بعلم ، وهكذا في سائر العلوم والمجالات ، فهذا يسمى العلم الكسبي الذي يكتسب بأسبابه ، فمن باشر أسباب هذا العلم علمه الله إياه.

أما العلم اللدني :

 فهو العلم بلا واسطة لم يتعلمه من شيخ أو من كتاب، ولكنه علم من الله علمه إياه بطريق الوحي، وهذا العلم في المقام الأول اختص الله سبحانه وتعالى به الأنبياء والمرسلين ، قال تعالى لنبينا -صلى الله عليه وسلم- : ( وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) [النساء/113]

 وقد حدثنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أمور التشريع والحلال والحرام والثواب والعقاب ، كل هذا ما مصدره ؟

ومن أين علم النبي -صلى الله عليه وسلم- كل هذا ؟

فهذا علم لدني ، لم يكن في زمانه مدرسة دينية أو جامعة أو كتب يقرأ منها ويبلغ ، إنما علمه الله عز وجل .

 وقال الله عن إبراهيم ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ) [الأنعام/75] ، وقال تعالى : -( ففهمناها سليمان )[الأنبياء/79]،

 وقال تعالى : -( وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون )- [الأنبياء/80]

  وقال تعالى : -( يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا )- [مريم/12]، وقال تعالى : -( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين )- [يوسف/22]

  فالذي علم الأنبياء والمرسلين هو الله عز وجل، وكما يكون العلم اللدني للأنبياء والرسل فقد يقع لأولياء الله من صالحي هذه الأمة ويقصد به نور البصيرة وهو نور يقذفه اللهُ في القلب يُهتدى به يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها .

على سبيل المثال : دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس حينما قال : ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) أي تفسير القرآن ، فآتى الله ابن عباس فهما للقرآن الكريم زائدا عن غيره ؛ هذا الفهم لا يوجد في الكتب وإنما هو من الله ، وهو فهم لكتاب الله وليس بعيدا عن كتاب الله ، فهذا من الإلهام والتوفيق الإلهي .

ولما سأله عمر عن ليلة القدر قال إني لأعلم أي ليلة القدر هي ؟ سابعة تمضي – أو : سابعة تبقى – من العشر الأواخر؛ فقال عمر : ومن أين علمت ذلك ؟ قال ابن عباس : خلق الله سبع سموات ، وسبع أرضين ، وسبعة أيام ، وإن الشهر يدور على سبع ، وخلق الإنسان من سبع ، ويأكل من سبع ، ويسجد على سبع ، والطواف بالبيت سبع ، ورمي الجمار سبع . . . لأشياء ذكرها . فقال عمر : لقد فطنت لأمر ما فطنا له .

وقال ابن عباس أيضا : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟

فقال عمر: إنه ممن قد علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله، -عز وجل-: (إذا جاء نصر الله والفتح؟ )

 فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟

 فقلت: لا، فقال: ما تقول؟

فقلت: هو أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلمه له، قال: (إذا جاء نصر الله والفتح ) فذلك علامة أجلك، (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ( لا أعلم منها إلا ما تقول)

فهذا فهم أوتيه ابن عباس ولا يوجد في الكتب إنما هو من توفيق الله وهدايته .[5]

فكل اجتهاد صحيح في فهم كلام الله أو كلام رسوله هو من توفيق الله للعبد ، أما تفسير القرآن بعيدا عن النص القرآني ودلالته من خلال ما عرف بالإشارات والشطحات فهذا غير مقبول ولا يسمى علم لدني ، وربما يكون من أباطيل الشيطان.

تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا* قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا* قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا* قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف: 66-70]

﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ﴾ أي: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله، ما به أسترشد وأهتدي، وأعرف به الحق في تلك القضايا؟

(قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) قال الخضر إنك إذا أردت الصبر لما استطعت، لأن ما يجريه الله على يدي من الأمور يجعلك تسارع إلى الاعتراض عليه، لخفاء حكمته عليك.

 (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) أي وكيف تصبر على مصاحبتي وأنت ترى من أمور المخالفة لشريعتك، ما لم تحط بأسراره علما، يقول الخضر ذلك لأنه كان يفعل أمورا خفية المراد منكرة الظواهر، مما يجعل موسى عليه السلام لا يتمالك إلا أن ينكر وقوعها عند مشاهدتها.

 (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) وعد موسى عليه السلام الخضر بأنه سيجده صابرا على ما يراه مما أخفي عليه سببه، وقرن ذلك بمشيئة الله، لأن أفعال العباد مرتبطة بمشيئته تعالى، كما وعده أن يلتزم طاعته فلا يخالفه في أمره من الأمور، وهذا ما ينبغي للمتعلم مع معلمه.

(قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) بعد أن أذن له الخضر بصحبته أرشده إلى ما يقتضي دوامها بقوله: فإن اتبعتني وصحبتني في رحلتي هذه فلا تسألني عن شيء رأيته بعينك وأنكرته بقلبك، واصبر حتى أحدث لك في شأنه ذكرا وبيانا يفسر ما عمي عليك من سببه.

تفسير قوله تعالى: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا٧١ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا٧٢ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا٧٣ [الكهف: 71-73]

(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا): أي لقد أحدث منكرا فظيعا.

في حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهما “انطلقا يمشيان على الساحل فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول” (بغير أجر) إلى أن قال: “فلم يفجأ موسى إلا وقد قلع لوحا بالقدوم، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا”

ويحكي الله اعتراض موسى عليه، بأُسلوب موجز مستنكرًا ما فعل، إذ يقول:” لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا “، وهنا نرى موسى عليه السلام ينسى ما عاهد عليه الخضر، بل لم يكتف بالاستفهام) أخرقتها لتغرق أهلها( بل تعدى إلى اتهامه بأنه أتى أمراً منكراً فظيعاً ؛ لأن موسى استحضر بالحكم الشرعي إتلاف مال الغير، فضلاً عن إغراق ركاب السفينة، فرأى الأمر ضخماً والضرر كبيراً، وأنه قابل إحسان أصحابها بالإساءة، ويحكم عليه حكما قاسيًا – حسب ما بدا له – بأنه ارتكب ذنبًا عظيمًا قبل أن يستمع إلى سبب هذا الفعل.

(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) ذكره الخضر بالعهد الذي ارتبط به معه فقال له: لقد قلت لك ما توقعتُ حدوثَهُ منك وهو أنك لن تستطيع الصبر على صُحبتي حينما ترى ما أفعله، بما يخالف ظاهر شريعتك.

 (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا) اعتذر موسى عليه السلام للخضر بأنه نسى ما تعهد له به، والنسيان مَظِنَّة العفو، وطلب إليه ألا يحمّله فوق طاقته، فإنه نبي والنبي لا يسكت عن أمر يراه خطيئة ، وقبل الخضِرُ عذر موسى وسارا في طريقهما.

تفسير قوله تعالى: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا* قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا* قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف: 74-76]

 (غُلَامًا): الغلام الصبي الذي لم يبلغ.

(زَكِيَّةً) النفس الزكية : الطاهرة الصافية التي لم تلوثها الذنوب ومخالفة التكاليف الإلهية.

روى البخاري بسنده عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ” … ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخَضِرَ غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله .. “.

 (قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا): لم يطِقْ مُوسىَ صبرًا على ما رأى من قتله الغلام فقال في استفهام إنكاري: أقتلت نفسا طاهرة بريئة دون أن ترتكب تلك النفس جريمة تستحق عليها القتل؟ ثم أصدر عليه حكما حاسمًا بأنه ارتكب أمرًا خطيرا منكرًا.

(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) نبَّهه الخضر عليه السلام إلى خروجه عما عاهده عليه للمرة الثانية، وأكد ذلك بزيادة الجار والمجرور (لك) أي إن هذا هو ما قلته لك لا لغيرك، ولكنك لم تلتزم بما تعهدت لي به في قولك: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا).روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “وهذه أشد من الأولى .. “.

 (قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) أدرك موسى خطئه فلم يجادل فيه، ووعد بتحمل تبعة اعتراضه عليه مرة أخرى فقال للخضر عليه السلام: إذا اعترضت عليك في أمر آخر فإن لك أن تفارقني ولا لوم عليك في ذلك، بل لك العذر كل العذر في ألا تصاحبني، وقبل الخضر عليه السلام اعتذاره ومضيا في طريقهما.

تفسير قوله تعالى: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا* قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف: 77-78]

 (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ) أي فسارا في طريقهما حتى حلَّا بإحدى القرى وطلب من أهلها إعطاءهما طعامًا يأكلانه.

(اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا)استطعما : أي طلبا الطعام، وطلب الطعام هو أصدق أنواع السؤال، فلا يسأل الطعام إلا جائع محتاج، فلو سأل شخص مالاً لقلنا : إنه يدخره، إنما الطعام لا يعترض عليه أحد، ومنع الطعام عن سائله دليل بخل ولؤم متأصل في الطباع، وهذا ما حدث من أهل هذه القرية التي مرا بها وطلبا الطعام فمنعوهما، ومن شدة بخلهم قال: (أبوا أن يضيفوهما) أي منعوا عنهم كل ما يمكن أن يقدم للضيف فلا طعام ولا شراب ولا حتى مجرد الإيواء والاستقبال، وهذا منتهى ما يمكن تصوره من لؤم هؤلاء الناس.

(فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) فرأَيا في القرية جدارا يكاد يقع فهدمه الخضر ثم أعاد بناءه، فعجب موسى عليه السلام من تصرف الخضر، وما بذله من جهد في هدم الجدار ثم إِقامته، لقوم بخلاء يضنون عليهم بالطعام.

روى البخاري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “فقال موسى: قوم أَتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا … “؟

 (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) أي لو أردت لطلبت من هؤُلاَء القوم أَجرًا جزاء عملك.

ونلاحظ هنا أَن موسى عليه السلام لم يعترض على الخضر ولم يصدر عليه حكمًا بالخطأ كما فعل في المرتين السابقتين، فقد استفاد من الدرسين الماضيين واكتفى هنا بقوله: لو أردت أن تنال أجرًا على عملك لنلته، وعلق الأمر هنا على مشيئة الخضر وإرادته.

لكن هنا أدرك الخضر عليه السلام أن موسى قد استفاد بما مر بهما من أحداث، وأثمرت التجربة ثمرتها المرجوة، فأنهى الخضر لقاءه مع موسى عليهما السلام مبينًا له حكمة ما صنع مما لم يستطع موسى الصبر عليه.

 (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)أَي قال الخضر لموسى عليهما السلام، بعد أن اعترض عليه لهدمه الجدار ثم بنائهِ لقوم بُخَلاء: حان لي فراقك وفقا لتعهدك، ولكنى قبل الفراق سأنبئك بتفسير ما قمت به من أعمال استدعت اعتراضك عليها، لتدرك بواعث وأهداف هذه التصرفات ولكنك تعجلت في الحكم عليها دون أن تدرك أسبابها وتقف على بواعثها.

 جاء في حديث البخاري عن هذه القصة بعد قول الخضر لموسى عليه السلام: (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ … ) الآية. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “وَدِدْنَا أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما”.

 تفسير قوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف: 79]

 أفادت الآيات السابقة أن موسى -عليه السلام – قد نَفد صبره من رؤْية تلك الأحداث التي حدثت من الخضر عليه السلام، ولم يجد لها مبررا ظاهرا يقتضيها، وأن الخضر اضْطُرَّ لإيذانه بمفارقته لنفاد صبره، وعدم تحمله ما يراه حتى تنتهى رحلتهما إلى غاية أبعد مما وصلت إليه، لكي يخبره في نهايتها عن كثير من أسرار الغد التي يخفيها الله تعالى عن عباده، ويختص بإعلامها بعض أصفيائه.

وجاءت هذه الآية وما بعدها لبيان ما انطوى وراء الأَحداث التي أجراها الخضر عليه السلام.

(أما السفينة فكانت لمساكين) حسمت هذه الآية الخلاف بين العلماء حول تعريف الفقير والمسكين، وأيهما أشد حاجة من الآخر، وعليها فالمسكين : هو من يملك شيئا لا يكفيه، كهؤلاء الذين كانوا يملكون سفينة تعمل في البحر، وسماهم القرآن مساكين، أما الفقير : فهو من لا يملك شيئاً.

والمعنى: أما السفينة التي خَرَقْتُهَا قبل أن تصل إلى الميناء، فقد كانت لضعفاء من الناس يعملون في البحر أي يكسبون رزقهم بها عن طريقه، ولا يقدرون على مدافعة الظَّلَمَةِ عن أَنفسهم لضعفهم، فأردت بخرقها أن أُحدث فيها عيبا يمنع الظالم من مصادرتها وأَخْذها، لوجود هذا العيب فيها، ولم أُرِدْ أنْ أُغرق أَهلها كما توقعت يا موسى .[6]

وقد حكى الله عن الخضر – عليه السلام – السبب في خرقه إِياها بقوله:(وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) والوراءُ: اسم لما يتوارى عن العين، سواءٌ كان خلفك أَو أمامك، فهو من أسماء الأضداد والمراد به هنا المعنى الثاني.[7]

 (غصبا) الغصب : وهو أخذ مال الغير بالقوة، تحت سمعه وبصره.

 والمعنى: وكان أمامهم أعوانُ ملكٍ ظالم يأخذون له كل سفينة صالحة من أصحابها غصبا وقهرا، على سبيل المصادرة والاستيلاء التام.

فالحكمة في خرقه إِياها، ليعلم موسى أن خرقها ليس لغرض الإِغراق أو الإِفساد، بل لما أَبداه من إِنْجَائِهَا من الظلَمَةِ.[8]

ولم تتعرض الآية الكريمة لما حدث للسفينة بعد نجاتها من الملك الظالم بسبب خرقها، أعادَ الخرقُ إلى الالتئام بقدرة الله تعالى كرامة للخضر؟ أم أنه رَتَقَ هذا الخرق بنفسه؟ أم أن في أصحابها من أَصلحها؟ أَم أصلحها سواهم بأجر من الخضر لأنه هو الذي خرقها؟ كل ذلك تركت الآية الحديث عنه لفطنة القارئ.

تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا* فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف: 80-81]

وأَما الغلام الذي قَتَلتُهُ أنا واعْتَرَضْتَ يا موسى على قتله دون ذنب ظاهر لك فهو غلام شرير بطبيعته، وكان أبواه مُؤْمِنيْنِ صالِحَينِ، فخشينا أن يرهقهما بمجاوزته الحدود الإلهية، وكفره بالله تعالى، فلهذا قتلته، وفسر بغض العلماء إرهاقه لهما بالطغيان والكفر، بأن يحملهما حبه – لو بقى حيا – على متابعته، وهذا التفسير مأْثور عن ابن جبير.

ولكن الخوف من وقوع ذلك في المستقبل لا يبرر قتله للغلام، فقد لا يقع؟

لهذا فسر بعض العلماء الخشية هنا بالعلم، أي فعلمنا من الله تعالى أنه لو بلغ لدعا أبويه إلى الكفر فيجيبانه، ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما له، أو علمنا أنه لو بلغ لأرهقهما طغيانًا عليهما وكفرا بنعمتهما، بسبب عقوقه وسوء صنيعه، فيلحقهما من ذلك شر وبلاءٌ.

ومن العلماء مَنْ قال: إن الغلام كان شابا بالغا وكان شريرا كافرا، ولا يمنع بلوغه من إطلاق لفظ الغلام عليه، فإنه يستعمل لغة فيمن ظهر شَارِبُهُ، وفي الكهل، وفي الشخص من حين يولد إِلى أن يصير شابا – كما جاء في القاموس – ويستدل أصحاب هذا الرأي بما جاء في بعض الآثار من أنه كان يفسد ويقطع الطريق، ويقسم لأبويه أنه ما فعل ،  فيقسمان بقسمه ويحميانه ممن يطلبه، ولعل هذا الرأي يؤَيده ظاهر الآية التالية:

(فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا):أي فأردنا بقتله أَن يرزقهما الله بدله خيرا منه، طُهْرًا في الدين والأخلاق، وأقرب رحمة منه بهما، فخيرة الله لعبده خير من خيرة العبد لنفسه، وكم من أمور حجبها الله جل وعلا عنا وبقيت في قلوبنا بعض علامات الحزن والأسف عليها ولو فتح لنا الغيب لسجدنا شكراً على أن الله حجبها عنا، ولذلك من أرفع مقامات الصالحين الرضا بقضاء الله وقدره.[9]

تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف: 82]

 أي وأما الجدار الذي أَقمتُه بدون أجر، وكان وشيك الانقضاض، فكان لغلامين مات أَبوهما فأصبحا بعده يتيمين في القرية التي طلبنا الطعام من أهلها، فبخلوا به علينا، وكان تحت هذا الجدار كَنز لهما، استحقاه عمن قبلهما، كأبيهما أو جَدٍّ لهما أو غير ذلك، وكان أبوهما صالحًا، فرأيت من المروءة أن أُقِيمَ الجدار على الكنز حذرًا عن انهيار المائل وظهور المكنوز تحته، فيستولى عليه من لا يستحقه من الناس، ولم يمنعني من البر باليتيمين بخل أهل هذه القرية علينا، فإن للإحسان باليتامى أَجرًا عظيمًا.

وقوله تعالى : “وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا “، هذه ضمناً جاءت لتبين أن أعظم ما يدخره الآباء للأبناء أن يكون الآباء صالحون في أنفسهم، فبرحمة الله جل وعلا لهذا الوالد في قبره، وهو ميت لصلاحه سخر الله موسى والخضر يتجاوزان البحار والقفار ليقيما جداراً تحته كنز من أجل يتيمين، فمن استودع الله شيئاً حفظه تبارك وتعالى.[10]

ثم بين الخضر عليه السلام أنه كان يتلقى الأمر فيما يفعله من الله تعالى فقال:

 (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ): ويبدو من سياق الآية أنهما كانا في سن واحدة توأمين .

أي فأراد ربك [11]  يا موسى أَن يبلغ اليتيمان كمال قوتهما في الرأي والبدن[12]، ويستخرجا كنزهما من تحت الجدار، فأمرني بإقامته، ولولا أنني أقمته لانقض وبرز الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظه والانتفاع به.

(وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) وليس الذي فعلته من الأمور التي شاهدتَها يا موسى ناشئًا عن اجتهادي ورأيي، بل بوحي من ربك وربى، ذلك الذي شرحته لك من أسرار تلك الأحداث هو مآل وعاقبة الأمور التي لم تستطع الصبر عليها، حتى أبينها لك في حينها.

ما الفرق بين الفعلين “تستطع” و”تسطع”؟

في قوله تعالى: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 78] وهنا قال ﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف: 82]

  • تستطع صيغة كاملة من الفعل “استطاع”، وتُستخدم في السياقات التي تعبر عن شدة وصعوبة الموقف. في بداية القصة، كان موسى عليه السلام يواجه أفعالاً غير مفهومة من الخضر، مما جعله في حالة من الحيرة والقلق، فناسب استخدام الصيغة الثقيلة “تستطع” لتعكس هذا الثقل النفسي.
  •  تسطع صيغة مخففة بحذف التاء، وتُستخدم في السياقات التي تعبر عن التخفيف والوضوح. بعد أن شرح الخضر لموسى عليه السلام الأسباب وراء أفعاله، زال الإشكال واطمأن موسى، فناسب استخدام الصيغة الأخف “تسطع” لتعكس هذا التخفيف في المشاعر.​

هذا التدرج في استخدام الصيغ يعكس بلاغة القرآن الكريم في اختيار الألفاظ بما يتناسب مع السياق النفسي والدرامي للقصة، ويُظهر دقة التعبير القرآني في نقل المشاعر والأحداث.​

لا ينسب الشر إلى الله تأدبا :

لو تأملت في قوله أولاً: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا)، وجدت أنه لم ينسب العيب إلى الله، لكن نسبه إلى نفسه وإن كان عن أمر الله تأدباً مع الله.

وعندما ذكر قتل الغلام قال” فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا “ وفي الحالة الثالثة قال: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا)، فنسب الإرادة إلى الله سبحانه وتعالى، لأنها في خير محض، والنكتة أنه لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى، كما في حديث القنوت في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك)، فليس في أفعال الله شر على الإطلاق، بل كل أفعاله خير محض، وإنما الشر أمر نسبي إضافي، قال تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ) [الفلق:1-2]

فأضاف الشر إلى المخلوقين، لكن لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك نظائر، كما في قول أيوب عليه السلام: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) [ص:41]، وقول إبراهيم عليه السلام: ( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) [الشعراء:79-81]

فنسب الخلق والهداية إلى الله، ولم ينسب المرض إلى الله مع أن الله خالق كل شيء. لكن تأدباً نسب المرض إلى نفسه لأنه شر.

وقال تعالى: “صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ “[الفاتحة:7]، فنسب النعمة إلى الله، ثم في الغضب والضلال قال: “غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ” [الفاتحة:7]

وفي سورة الجن قال:” وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ” [الجن:10] ، ففي الشر استعمل صيغة المجهول(أريد)، أما في الخير والرشاد فقد نسبه إلى الله سبحانه وتعالى.

ما يستفاد من الآيات:

  1. عدم الاغترار العالم بعلمه بالعلم مهما بلغ فمن علم شيئا غابت عنه أشياء.
  2. لا ينبغي لأحد أن يدعي الكمال في العلم بل يرد العلم إلى الله.
  3. العلم لا يُنال بالكسل والراحة بل لا بد من الصبر وقلة الراحة، بذل الجهد.
  4. أن الخضر نبي أيده الله بالوحي.
  5. تواضع العالم للمتعلمين.
  6. وجوب الصبر في طلب العلم.
  7. ربط الأمور بمشيئة الله.
  8. حسن الأدب مع المعلم.
  9. الصبر والتواضع من أهم صفات طالب العلم.
  10. عدم التسرع في إنكار ما لا يُفهم.
  11. سعة علم الله واختصاصه من يشاء بعلم لدني.
  12. بعض أقدار الله ظاهرها شر وباطنها رحمة.
  13. كل أفعال الله خير والشر لا يُنسب إليه تأدبًا.
  14. الصلاح في الآباء سبب لحفظ الأبناء.
  15. البركة في الذرية ثمرة لصلاح الوالدين.
  16. لا يدرك العقل البشري كل أقدار الله.
  17. الصبر يكشف الحكمة في الأقدار.
  18. الأنبياء لا يقرّون المنكر إذا لم يُكشف سببه.
  19. النسيان لا يُعد معصية إذا لم يكن عمدًا.
  20. إكرام الضيف من شيم الكرام ورفضه من خصال اللئام.
  21. من استعجل الحكم فقد يخطئ التقدير.
  22. رضا العبد بقدر الله من أعلى مقامات الإيمان.
  23. الله يدخر الخير لعبده في الوقت المناسب.
  24. أن الأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله.

[1] يعني: الماء كأنه تجمد وأمسك عن الجري، وصار على الحوت مثل نفق مائي داخل البحر نفسه يجري فيه الحوت، وما عدا ذلك أمسك الله جري الماء عنه فأصبح الجزء الذي فيه الماء هو عبارة عن نفق مائي يجري فيه هذا الحوت.

[2] يعني: من أين لك بالسلام؟ وكان المكان الذي فيه الخضر ليس فيه إلا كافر ومشرك لا يعلم سلاماً ولا يعلم تحيةً بسلام؛ ولذلك عجب الخضر.

[3] رواه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، تفسير سورة الكهف، حديث رقم 3401.

[4] وعاء مصنوع من الخوص يشبه الحقيبة يحمل التمر والطعام وغيرهما فيه.

[5] ومن هذا الباب ما يذكر عن التابعي الجليل محمد بن سيرين وتفسير الرؤى : فقد جاءه في يوم رجلان -كل منهما على حدة – فقال الاول : إني رأيت في المنام انى أؤذن وقال الآخر كذلك ، فنظر الامام ابن سيرين للأول وقال له: سيكتب لك الحج إن شاء الله ثم نظر للثاني فقال وأنت سارق فتب عما أنت فيه.

. فلما خرج الرجلان قال أحد جلسائه له لم تعددت الإجابة والرؤية واحدة؟ فقال : نظرت في وجه الأول فرأيت نور الطاعة فتذكرت الآية الكريمة: (وأذن في الناس للحج يأتوك رجالا) [الحج :27]ونظرت في وجه الثاني فرأيت شؤم المعصية فتذكرت الآية: ( ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون) [يوسف: 70]

[6] وأسند الإرادة إلى نفسه بقوله: “فأردت أن أعيبها” لأن عيبه لها إفساد في الظاهر، فكان من الأدب ألا ينسبه إلى الله، فلهذا لم يقل فأراد ربك ومثله ما سيأتي في قتل الغلام “فأردنا أن يبدلهما” أي فأردت بقتلى إياه أن يبدلهما الخ، وكلاما في الحقيقة بأمر الله وإرادته لقوله تعالى: “وما فعلته عن أمرى”.

[7] كقوله تعالى :﴿ من روائه جهنم ويسقى من ماءٍ صديدٍ.﴾( سورة إبراهيم :16) أي أمامه ،وتستعمل وراء بمعنى : بعد، كما في قوله تعالى :﴿ فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ﴾( سورة هود :71) : وتأتي وراء بمعنى : غير. كما في قوله تعالى في صفات المؤمنين :﴿ والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين “فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) [سورة المؤمنون.7:5]
وفي قوله تعالى :﴿ حرمت عليكم أمهاتكم.. ﴾( سورة النساء:23 ) : إلى.. ﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم..﴾( سورة النساء:24 ) ، وقد تستعمل وراء بمعنى خلف، كما في قوله تعالى :﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم..)   [سورة آل عمران187 :]
إذن : كلمة ( وراء )جاءت في القرآن على أربعة معانٍ : أمام، خلف، بعد، غير. وتمييز المعنى المناسب يعتمد على فهم السياق.

[8] ونأخذ من هذا المشهد درسا كبيرا وهو أن أقدار الله لا تخلو من حكمة؛ فكل شيء يحدث في الكون لله فيه تقدير وتدبير وحكمة ، على سبيل المثال :سمعت الدكتور راتب النابلسي يحكى هذه القصة يقول : كان عندنا بدمشق طالب بكلية الطب وكان نحيفا ضعيف البنية ، ركب سيارة أجرة ليذهب للجامعة ، وبعد مرحلة من الطريق استوقف السيارة أحد الشبيحة رجل طويل عريض ضخم البنية ، سأل السائق هل عندك مكان خالي ؟ قال :لا ، ففتح باب السيارة الخلفي فوقع بصره على هذا الشاب فاستضعفه وأمسكه من ثيابه فحمله وألقى به خارج السيارة ،وركب هو !!! وبكى الشاب بكاء مريرا لشعوره بالقهر والظلم أمام هذا الرجل الظالم ، وبعد ربع ساعة مرت سيارة أخرى فركبها ، وكانت المفاجأة بعد 5 كم رأى السيارة الأولى التي كان يركبها وقد وقع لها حادث تصادم على الطريق، وانقلبت بمن فيها ، والركاب ما بين قتيل وجريح !! فكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يري هذا الشاب آية أن هذا الرجل الظالم الذي انتزعه من السيارة بقوته فعل به خيرا ولم يفعل به شرا ، وأن هذا الظالم الذي استغل قوته في إخراج هذا الشاب من السيارة استعجل قدره الواقع به، أو قل انتقام الله منه لظلمه للعباد ، سبحان الله العظيم !!!

فهذه الأمور الأنسان لا يفهمها عندما تقع ، لكن يظهر الله سبحانه وتعالى حكمته بعد ذلك وأنت لا تدري ماذا برحم الغيب ، فلا تحزن إذا تعطلت سيارتك ، أو جرى لك حادث صغير ، إذا تعطلت عن عملك ، أو تأخرت عن سفرك ، فاعلم أن لله سبحانه وتعالى حكمة من وراء كل ذلك، وليس شيء عند الله اسمه صدفة يحدث عشوائيا ، أو بدون ترتيب قال تعالى : -( إنا كل شيء خلقناه بقدر )- [القمر/49] فقد يجعل الله تعالى في الشر خيرا كامنا .

[9] والشيء بالشيء يذكر نجد البعض يتساءل : ما ذنب الأطفال المصابين بالسرطان ؟ما ذنب الأطفال الذين يموتون في الحروب والمجازر والمجاعات ؟ وللإجابة نقول: هذا سؤال يوجه في المقام الأول لقاتليهم ، من يتلاعبون بأرواح الناس ويقومون بتجربة أسلحة حديثة ويقتلون الأبرياء بدم بارد !! ويوجه لمن يستوردون الأطعمة الفاسدة أو المنتهية الصلاحية !! ولمن يلعبون بتصنيع المواد الغذائية بإدخال الألوان الصناعية والنكهات الغير طبيعية لزيادة الاستهلاك والترويج للبضاعة والضحية الأطفال وتنتشر الأمراض المختلفة في الدم والكلى …الخ .أما ما وراء ذلك من الحكم عند الله فمنها : الابتلاء من الله سبحانه وتعالى ، أيضا أن تتحرك البشرية لمواجهة الفساد الذي مس الجميع الآن، قال تعالى : -( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )- [الروم/41] .

إفساد الطماطم المسرطنة : وقد ذكر لي أحد الإخوة بمصر أنه رأى يوما رجلا يمسك بعصا كبيرة وجعل يضرب بها أكواما من الطماطم يريد إفسادها فلا تكون صالحة للاستخدام ، فقال له: حرام عليك اعطها لأحد من المحتاجين ينتفع بها بدلا من إتلافها بهذا الشكل فقال الرجل بمرارة : أنا أتلفها لأنها تسبب السرطان …ابني أكل منها وأصيب بمرض السرطان ، ثم تابع قائلا : أنا كنت أضع مادة كيميائية على الطماطم وهي لا تزال خضراء ليتحول لونها إلى اللون الأحمر فتبدو صالحة للبيع ويشتريها التجار أول الموسم بأعلى الأسعار وكنت آخذ منها لبيتي ، وأطعم منها أولادي واكتشفت الآن إصابة ابني بالسرطان بسبب تناولها !! قلت صدق الله العظيم : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) [الأعراف/56] صحوة ضمير ولكنها جاءت متأخرة ، فلولا أن الله يقدر أمثال هذه الأمور ما واجه الناس الفساد ، والآن كثر الكلام على مكافحة مرض الإيدز ، والتلوث ، والانحباس الحراري والكربون المشع وثقب الأوزون …الخ ، فهذه الأمور كلها هي حصاد الفساد في الأرض ،فيقدر الله بهم نتاج أفعالهم ليرجعوا إلى الله وينزجروا عن الفساد فيصلحوا ما أفسدوه في الكون .

[10] فالسبب هو (وكان أبوهما صالحا) من أجل هذا السبب وكل الله رسوله موسى ونبيه الخضر لحفظ مال اليتيمين !! سبحان الله العظيم !!!
فخير تأمين على الأبناء تقوى الله عز وجل ، وأن تربيهم على الدين ، ومعرفة الله عز وجل ، لن يكون التأمين بكثرة الأموال من حرام أو بترك دينهم أو هجر الدين وتنحيته جانبا من أجل الحصول على الشهادات العليا ، هذا كله تعلق بالدنيا وإهمال للدين وبعض الآباء يفرح بالمكسب الحرام وهو سهل وسريع وكثير ، لكنه سيجد عاقبة ذلك في نفسه وفي أبنائه وفي أهله ، الحرام ينغص العيش ويمحق البركة من كل شيء ، لكن الحلال الطيب وإن كان قليلا يجعل الله به أثرا صالحا في أولادك ،ويسخر لك من عباده من يحفظ أولادك ويحميهم  ، وقال سعيد بن المسيب لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أُحفظ فيك، ثم تلا قول الله (وكان أبوهما صالحا)، وكان يقول: إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي.
فليفكر كل مؤمن كيف يؤمن مستقبل أولاده بركعتين في ظلمة الليل ؟ أو بصدقة مخفية لمحتاج لا يعلمها إلا الله ، أو مساهمة في بناء مسجد أو تأسيس مدرسة أو مستشفى …الخ ، فيكون ذلك دفعا للكثير من السوء عن أولاده قال تعالى : -( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا )- [النساء/9]

[11] إسناد الإرادة هنا إلى الله لأنه إنعام محض، فمناسب إسناده إليه تعالى بخلاف ما مر في السفينة والغلام فقد كان إفسادا في الظاهر، فلهذا أسنده الخضر إلى نفسه كما مر بيانه بالهامش، وإن كان الكل بأمر الله .

[12] ومعنى الأشد : أي القوة، حيث تكتمل أجهزة الجسم وتستوي، وأجهزة الجسم تكتمل حينما يصبح المرء قادراً على إنجاب مثله. وتلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال هنا :﴿ يبلغا أشدهما) : ولم يقل رشدهما، لأن هناك فرقاً بين الرشد والأشد فالرشد : حسن التصرف في الأمور، أما الأشد : فهو القوة، والغلامان هنا في حاجة إلى القوة التي تحمي كنزهما من هؤلاء اللئام فناسب هنا :﴿ أشدهما ﴾


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 16 أبريل, 2025 عدد الزوار : 14070 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين