(وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) النساء 28
أولا / تفسير الآية :
المراد بـ ( ضعْف الإنسان ):
القول الأول : هو الضعف في أصل الخلقة ، خلق من نطفة من ماء مهين ، ثم يمر بمراحل الخلق في بطن أمه ، ثم يخرج من بطنها ضعيفاً لا حول له ولا قوة ، ثم يشب قليلاً قليلاً حتى يكون شابا قويا، ثم يشرع في النقص فيكتهل، ثم يشيخ ثم يهرم وهو – الضعف بعد القوة – فتضعف الهمة والحركة ، ولهذا قال تعالى: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ” الروم : 54
القول الثاني : الضعف هنا معناه قلة الصبر عن النساء، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء) أخرجه البخاري ومسلم.
وكان بعض السلف يقول:” ما يئس الشيطان من أحد إلا وأتاه من قبل النساء ” يقصد الافتتان بهن.
القول الثالث : الإنسان ضعيف من جميع الوجوه ، كما يقول ابن القيم رحمه الله – بعد أن ذكر بعض أقوال السلف في تفسير الآية – : ” والصواب أَن ضعفه يعم هذا كله ، وضعفه أَعظم من هذا وأَكثر : فَإنه ضعيف البنية ، ضعيف القوة ، ضعيف الإرادة ، ضعيف العلم ، ضعيف الصبر ، والآفات إليه مع هذا الضعف أَسرع من السيل في الحدور ” انتهى من ” طريق الهجرتين ” (1/228) فناسب ذلك أن يخفف الله عنه ما يضعف عنه.
وأرى أن هذا الرأي هو الأرجح في تفسير أوجُه الضعف البشري في الآية الكريمة بحملها على إطلاقها .
ثانيا / الحكمة من خلق الله الإنسان ضعيفا
الحكمة الأولى : ضعف الإنسان سبب لحركته في الكون :
هذا الضعف ينتج عنه حاجة الإنسان للأشياء ، وهذه الحاجة تدفعه للحركة والسعي ، فهو يحتاج للطعام والشراب والمسكن والملبس ….الخ ، فهذا كله يدفعه للعمل لجلب ما يحتاج إليه وينفعه، وليدفع عن نفسه ما يضره، فجعل الله هذه الحركة في الكون لتدور عجلة الحياة ، فلو كان الإنسان قويا مستغنيا ما تحرك ولا سعى.
الحكمة الثانية : الافتقار إلى الله واللجوء إليه :
حينما يركن الإنسان إلى نفسه سيجد الضعف والعجز والتعب، عنده ضغوط في العمل وفِي الدراسة وفِي تربية الأولاد، ضغوط في الحياة بكل ألوانها وأشكالها ما الحل ؟
الحل هو بأن تستعين بالله ! إركن إلي الله سبحانه وتعالي : لما قال نبي الله لوط ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إليّ ركن شديد ) قال النبي – صلى الله عليه وسلم – : ( رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) يقصد الله عز وجل.
وقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]هذا هو الحل الوحيد للتغلب على ضعفنا ونقصنا، وقلة حيلتنا وعجزنا، أن نلجأ إلى الله، فلا ملجأ من الله إلا إليه، فإذا افتقرنا نلجأ إليه؛ فهو الغني، فإذا أصابنا الهم والغم نلجأ إليه؛ فلا فارج للهمِّ إلا هو، وإذا مرضنا وأصابتنا الفيروسات والميكروبات والآفات نلجأ إليه؛ فالشفاء بيده والعافية من عنده: ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 80]
كورونا وضعف البشرية :
وهذا فيروس كورونا والذي بلغ ضحاياه الملايين على مستوى العالم ، هذا الفيروس الذي لا يرى بالعين يتحرك بالخلايا والدم فيؤثر في الإنسان وربما يؤدي إلى الوفاة … سبحان الله العظيم!!!
الإنسان الذي ظن أنه ملك الدنيا وأنه قادر على أن يفعل ما يشاء ، تراه ضعيفا أمام قوة الله سبحانه وتعالى ، فالإنسان مهما بلغ من القوة فهو ضعيف أمام قدرة سبحانه وتعالى ، فلا يغتر بقوته ولا بما مكنه الله سبحانه وتعالى من الإمكانات ، الآن أيها الإنسان تعلم أنك بما أوتيت من علم وقوة وتقدم وأجهزة وتقنيات وخبراء وأطباء ، كل هذا لم يغن عنك شيئا .
فيا أيها الإنسان، لقد خُلِقت ضعيفاً لتكون قوياً بالله ، خُلقت فقيراً لتكون غنياً بالله ، خَلَقَت ضعيفاً ليكون ضعفُك دافعاً لك إلى باب الله ، لتلوذَ بحماه ، وتقْبِل عليه ، وتلجأ إليه ، ولو أن الإنسان خُلِقَ قوياً لاستغنى بقوته عن الله ، فشقي باستغنائه عن الله .
فعلاج هذا الضعف باللجوء إلى الله والدعاء ، ومن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم ” اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري ؟ إن لم تكن ساخطاً علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السموات والأرض ، وأشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن تحل عليّ غضبك ، أو تنزل عليّ سخطك ، ولك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله)
الحكمة الثالثة :ترك الكبر :
وهذا فرعون الذي طغا وبغى ( واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ) في عز قوته وصولجانه غرق هو وجنوده لا نفعهم ولانفعوه!!!! سبحان الله وكانوا من قبل مستكبرين مفسدين في الأرض، فما كان له من ناصر وما كان له من منقذ ….والأمثلة كثيرة .
فالإنسان حينما يدرك ضعفه وقدرة الله عليه يتواضع ويخبت إلى ربه أما حينما ينسى ذلك يطغى ويفسد في الأرض فيهلكه الله .
قال علي ّبن أبي طالب –رضي الله عنه : يا ابن آدم إن غرتك قوتك فلم استحكمت فيك شهوتك؟!!
وروي أن مطرف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في ملابسه وهيئته فقال له : يا عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها الله ؟ فقال له : أتعرفني ؟ قال : نعم ، أولك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة . فمضى المهلب وترك مشيته .
ونظم الكلام محمود الوراق فقال :
عجبت من معجب بصورته وكان في الأصل نطفة مذره
وهو غدا بعد حسن صورته يصير في اللحد جيفة قذره
وهو على تيهه ونخوته ما بين ثوبيه يحمل العذره
مذرة أي فاسدة والمقصود أن يحقر الإنسان نفسه .
ولما دخل ابن السماك على هارون الرشيد قال عظني وكان بين يدي الرشيد طعاماً …
فقال يا أمير المؤمنين أرأيت إن غصت هذه اللقمة في حلقك بكم تفتديها ؟
قال :بنصف ملكي ، قال : فإن حصرت (الإمساك ) فلم تستطع إخراجها ؟
قال : بنصف ملكي الآخر ، فقال يا أمير المؤمنين فلا تغترن بملك يضيع بين شرقة وعذرة !!!
الحكمة الرابعة : التكليف في حدود الاستطاعة :
جاءت التكاليف الشرعية متوافقة مع الطبيعة التكوينية للإنسان: فالذي خلق الإنسان أعلم بقدراته وضعفه {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} [الملك: 14] فالتكليف الشرعي يقع ضمن الوسع والإمكان البشري، ويتغير شكل أدائه أو صورته بحسب الاستطاعة لكل مكلف، لتغير أحواله وتقلبه في الحياة بين محطات الابتلاء بالشدة والرخاء، والعسر واليسر، والصحة والمرض، والوجود والعدم، لأن الإنسان خُلق ضعيفاً كلَّفه ضمن طاقته ، قال الله تعالى :﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾[ سورة البقرة : 286 ]
وحينما يعجز الإنسان عن فريضة أمر الله بها لمرض أو نحوه يأتي التخفيف من الله ، فأجاز له أن يفطر إذا مرض أو سافر فأعفاه من الصيام ، وأذن بالتيمم نيابة عن الوضوء والغسل ، وشرع الصلاة جالسا للمريض ، وهكذا .