أعظم العبادات أجرا عند الله تعالى
سؤال يتكرر كثيرا : ما أعظم العبادات أجرا عند الله تعالى ؟ أو ما أفضل الأعمال الصالحة التي تقربني من الله عز وجل؟
وفائدة هذا السؤال عندما يكون أمام المسلم خيارات متعددة في العمل الصالح، ومع هذا العمر القصيرمهما طال مقامنا في الدنيا نحتاج إلى أن نبذل جهدنا لأفضل صور العمل الصالح قربة لله عز وجل.
العلماء لهم ثلاثة أقوال في هذه المسألة:
-
القول الأول: أفضل العبادات هي التي فيها مشقة.
-
القول الثاني: أفضل العبادات ما كان نفعها متعديًا إلى غيرها.
-
القول الثالث: أفضل العبادات هي عبادة كل وقت في وقته.
تعالوا بنا نقرأ كلام العلماء ونستمع لأدلتهم.
القول الأول: أفضل الأعمال ما كان فيه مشقة.
أي أن ثواب العمل الصالح يزداد كلما زادت مشقته وصعوبته على المسلم.
مثال ذلك:
-
الصيام في الحر.
-
الوضوء في الشتاء بالماء البارد.
-
صلاة الفجر؛ فصلاة الفجر تغالب النوم، وتستيقظ وتأتي إلى المسجد، سواء في الحر أو في البرد. فأنت تترك لذة النوم والفراش وتأتي إلى الصلاة.
-
أيضًا قالوا: المسجد البعيد؛ لأنك تبذل المشقة والجهد في أن تصل إلى المسجد وتصلي الجماعة.
واستدلوا بعدة أدلة، منها:
1- قول الله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذٰلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} [التوبة: 120، 121].
2- قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «أجرك على قدر نصبك» رواه البخاري ومسلم.
3- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لهم إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد ، قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك ، فقال : ( يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم ) رواه مسلم
والعلة في ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم لهم في البقاء في ديارهم البعيدة ، ليست إلحاق المشقة بهم ، ولا قصد المشقة ليثابوا عليها ، وإنما العلة هي كراهة أن تصير المدينة خالية إذا تحول الناس جميعا إلى قرب المسجد ، وقد جاء النص على ذلك ، فيما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة ، وقال : ( يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم فأقاموا ) .
وقوله (تعرى المدينة) أي تصير خالية .
شروط قبول العمل الذي به مشقة:
قال العلماء: إن هناك شروطًا لهذه العبادة حتى نقول إنها أعظم في الأجر، وهي:
-
أن يقصد مرضاة الله في عبادته.
يعني: لا يُشَقّ على نفسه ابتغاء ثناء الناس، أو حتى يقال “فلان فعل وفعل”، بل يقصد بعبادته وجه الله. -
أن تكون العبادة مشروعة.
يعني: لا يخترع عبادات من عند نفسه، ويقول: “أنا أقمت الليل على قدم واحدة”، أو “امتنعت عن أكل اللحوم زهدًا”، أو “ألبس ثيابًا رثة زهداً”.
كل هذا ليس من الإسلام. -
ألا تكون مشقة متكلفة ولا مصطنعة:
والمقصود بالمشقة هنا: المشقة التي لا تنفك عن العبادة، وهي التي رتب عليها الشرع الأجر العظيم والثواب الجزيل، عن غيرها من العبادات الأخرى التي لا يوجد فيها مشقة؛ إذ المشقة ليست مقصودة شرعا لذاتها، وإنما إذا جاءت تبعا لمطلب شرعي أجر الإنسان عليها، وإذا قصد الإنسان إدخال المشقة على نفسه فهذا أمر نهى عنه الشرع الحنيف، ووصف صاحبه بالمتنطع، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثا. أخرجه مسلم
المتنطعون أي: المتعمقون المتشددون الغالون المجاوزون الحدود في أفعالهم وأقوالهم.
لما رأى النبي ﷺ رجلاً قائمًا في الشمس وحوله أصحابه، قال: “من هذا؟”قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يصوم ولا يفطر، وأن يقف ولا يقعد، ولا يستظل.
فقال النبي ﷺ:“مروه فليجلس، وليستظل، وليتم صومه إن شاء، أو ليفطر.” رواه البخاري
ودخل النبي ﷺ المسجد، فرأى حبلاً ممدودًا بين ساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت به. فقال النبي ﷺ: لا، حُلّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد.” رواه البخاري ومسلم
وعن عقبة بن عامر أنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لغني عن نذرها، مرها فلتركب». رواه مسلم
كذلك في الشتاء، والماء شديد البرودة، هل لو توضأت بالماء الدافئ يكون في ذلك نقص؟الجواب: لا.
لكن إن لم يجد إلا الماء البارد، فتوضأ به، فله أجر المشقة. أما أن يتكلف ذلك عمدًا، فهذا غير مطلوب.
أيضًا: لو كان بينك وبين المسجد القريب 1 أو 2 كم، فلا تتكلف الذهاب لمسجد على بُعد 10 كم كل مرة، فربما تتكاسل لاحقًا وتترك الجماعة. الأفضل أن تصلي في المسجد القريب وتُداوم، إلا إن وجدت درس علم في المسجد البعيد، فلا بأس.
ومن ذلك:جاء ثلاثة إلى بيت النبي ﷺ يسألون عن عبادته، فكأنهم تقالوها.
فقال أحدهم: “أما أنا فأصوم ولا أفطر.”
وقال الآخر: “وأنا أقوم ولا أنام.”
وقال الثالث: “وأنا لا أتزوج النساء.”
فلما سمع النبي ﷺ ذلك، قال:“أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني.”رواه البخاري .
فدل هذا على أن العبادة لا تُفضل بالمشقة وحدها، وإنما باتباع هدي النبي ﷺ وتحقيق التوازن بين العبادة ومتطلبات النفس.
رأي ابن تيمية:
وقال ابن تيمية: (قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما قد يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: (هلك المتنطعون) ، وقال: (لو مد لي الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم)، مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم وأن يقوم قائما ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه). رواه البخاري. وهذا باب واسع.
وأما الأجر على قدر الطاعة فقد تكون الطاعة لله ورسوله في عمل ميسر، كما يسر الله على أهل الإسلام “الكلمتين” وهما أفضل الأعمال؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)أخرجاه في الصحيحين .
ولو قيل: الأجر على قدر منفعة العمل وفائدته، لكان صحيحا اتصاف “الأول” باعتبار تعلقه بالأمر. و”الثاني” باعتبار صفته في نفسه…
فأما كونه مشقا فليس هو سببا لفضل العمل ورجحانه، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقا ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره، فيزداد الثواب بالمشقة، كما أن من كان بعده عن البيت في الحج والعمرة أكثر: يكون أجره أعظم من القريب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة: (أجرك على قدر نصبك) ؛ لأن الأجر على قدر العمل في بعد المسافة، وبالبعد يكثر النصب فيكثر الأجر، وكذلك الجهاد، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) فكثيرا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة منهم، وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوبا مقربا إلى الله؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علاقة الجسد، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم؛ ولهذا تجد هؤلاء مع من شابههم من الرهبان يعالجون الأعمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهادات مع أنه لا فائدة فيها ولا ثمرة لها ولا منفعة، إلا أن يكون شيئا يسيرا لا يقاوم العذاب الأليم الذي يجدونه) .
وقال أيضا: (مما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء، لا، ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله، فأي العملين كان أحسن، وصاحبه أطوع وأتبع، كان أفضل؛ فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل) مجموع الفتاوى (622/10)
الرأي الثاني: أن أفضل الأعمال ما كان نفعه متعديًا إلى غيره.
والمقصود بذلك: العمل الصالح الذي لا يقتصر نفعه على صاحبه فقط، بل يمتد أثره إلى الآخرين، فيكون أعظم أجرًا عند الله من العمل الذي لا ينفع إلا فاعله وحده.
فأنا إذا صليت، أو إذا صمت، فهذا بيني وبين الله، أجري عند الله، والعبادة هنا بيني وبين ربي، لكن إذا كان النفع متعديًا إلى غيري، فهذه العبادة نفع الله بها خمسة أو عشرة أو أكثر، فهذا أعظم في الأجر.
ولهذا أدلة كثيرة جدًا، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم:
1- (خيركم من تعلم القرآن وعلّمه.) رواه البخاري
هنا: تعلم القرآن لنفسه، وعلّمه لغيره.
2- وقال أيضًا: (إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير.) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
فكل من يعلم الناس خيرًا، أوعلمًا نافعًا، ينال صلوات الله وملائكته، واستغفار الكائنات، حتى الحيتان في البحر، والنمل في جحرها — هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مشى في حاجة أخيه، كان خيرًا له من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرًا.) رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني
الاعتكاف في مسجد الرسول ﷺ، حيث الركعة بألف ركعة فيما سواه، إقامة 24 ساعة لمدة شهر يعدل ذلك قضاء حاجة واحدة لأخيك المسلم، تمشي معه، لا لأجر دنيوي، ولا لمجاملة، ولا لأي شيء، إلا لوجه الله عز وجل، تُكتب لك في كتاب الحسنات كأنك اعتكفت في مسجد رسول الله ﷺ شهرًا كاملًا.
4- وكان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأفطر بعض الصحابة وصام البعض ماذا حدث؟
الصائمون أصابهم جهد كبير: سفر، جوع، عطش، مشقة وحر، فلما أرادوا النزول في مكان، من الذي هيأ مكان الإقامة؟
المفطرون؛ قاموا بإعداد الخيام، والطعام، وتهيئة الماء.
عند المغرب، من تتوقع أنه أعظم أجرًا؟الذي جاهد اليوم بصومه وحرّه وعطشه؟أم الذي أفطر، ونصب الخيام، وطبخ، وهيأ الماء والطعام؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله.) رواه مسلم
ذهب المفطرون بالأجر كله! أنا صمت لنفسي، وغيري لم ينتفع بصيامي، لكن الذي أفطر وأعان غيره، وهيأ المكان، وأحضر الطعام والماء للصائمين، هذا هو الذي أصاب الأجر.
وهذا هو فقه العمل الصالح:كيف تقوم بالعمل فيكون أجره أضعافًا مضاعفة مما تتخيل.
تعلمت خيرًا؟ هذا الخير إن كان علمًا شرعيًا، أو سنة نبوية، أو من أبواب الخير والصدقة والمساعدة…
أي باب من أبواب الخير، فعلمته لغيرك، ولم تبخل، لله عز وجل، فأنت بذلك تترك أثرًا نافعًا لغيرك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:“إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له.”رواه مسلم
فلماذا ذُكرت “الصدقة الجارية”؟لأن أجرها يدوم بدوام نفعها.
فأنا إذا تصدقت بمال لإطعام مسكين، هذه صدقة: يأكل ويسد جوعه لمرة.
لكن لو حفرت بئرًا، أو أقمت وقفًا للفقراء والمساكين، أو أي صدقة جارية، يدوم نفعها، ويكثر نفع الناس منها، فالأجر هنا أعظم.
نحن نتكلم عن التفاضل في الأعمال،لكن هذا لا ينقص من أجر من قام بعمل صالح، أيًّا كان.
فكلما كان العمل الصالح نفعه متعديًا إلى الغير، كان الأجر أعظم عند الله سبحانه وتعالى.
القول الثالث:أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت :
قال ابن القيم في مدارج السالكين: (باختصار يسير)
- فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد: من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن.
- والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
- والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار.
- والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به.
- والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن.
- والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بعد كان أفضل.
- والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
- والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
- والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
- والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.
- والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن، عند كثير من العلماء.
- والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته، وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.
وبهذا، يوضح ابن القيم أن أفضل العبادة هي التي توافق مقتضى الوقت، أي أن العبادة المثلى تتغير بتغير الأحوال والظروف، فليس هناك عبادة واحدة هي الأفضل على الإطلاق، بل الأفضل هو ما يرضي الله في كل وقت بحسب حال العبد والناس من حوله، وهو قول فيه فقه وفهم للإمام ابن القيم رحمه الله .
يقول : وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق ، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد ، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته ، فهو يعبد الله على وجه واحد ، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره ، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت ، فمدار تعبده عليها ، فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية ، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها ، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى ، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره ، فإن رأيت العلماء رأيته معهم ، وإن رأيت العباد رأيته معهم ، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم ، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم ، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم ، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم ، فهذا هو العبد المطلق ، الذي لم تملكه الرسوم ، ولم تقيده القيود ، ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات ، بل هو على مراد ربه ، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه ، فهذا هو المتحقق ب ” إياك نعبد وإياك نستعين “حقا ، القائم بهما صدقا ، ملبسه ما تهيأ ، ومأكله ما تيسر ، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ، ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا ، لا تملكه إشارة ، ولا يتعبده قيد ، ولا يستولي عليه رسم ، حر مجرد ، دائر مع الأمر حيث دار ، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه ، ويدور معه حيث استقلت مضاربه ، يأنس به كل محق ، ويستوحش منه كل مبطل ، كالغيث حيث وقع نفع ، وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها ، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله ، والغضب إذا انتهكت محارم الله ، فهو لله وبالله ومع الله ، قد صحب الله بلا خلق ، وصحب الناس بلا نفس ، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين ، وتخلى عنهم ، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها ، فواها له ! ما أغربه بين الناس ! وما أشد وحشته منهم ! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به ، وطمأنينته وسكونه إليه ! ! والله المستعان ، وعليه التكلان .
إذن خلاصة القول:
إذا جاءت العبادة موافقة لما أمر الله تعالى به، وفي وقتها،كان ذلك أنفع للعبد، ولا مانع من أن يقصد العبد وجه الله في عبادة تخصه، لتحسين العلاقة بينه وبين الله، وتزكية نفسه وتطهير قلبه، ومع هذا: يحرص على العبادات التي يتعدى نفعها لغيره، فيكون بذلك قد جمع بين هذه المحاسن كلها.
نسأل الله الكريم جل وعلا أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه،
وأن يثبتنا على الحق إلى أن نلقاه.
اللهم آمين.