تفسير سورة يس 2- ( يس والقرآن الحكيم…)

تاريخ الإضافة 3 يونيو, 2025 الزيارات : 199

تفسير سورة يس 2- ( يس والقرآن الحكيم…)

الفصل الأول

حقائق الإيمان في مواجهة عتوّ الطغيان

قال تعالى: ﴿يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ* لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ* إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ* وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ* وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ* إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ  فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ* إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ  وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ*﴾ [يس: 1-12]

[يس: 1-9]

تفسير قوله تعالى: ﴿يس﴾ [يس: 1]

جاء حديث ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (أن له عند ربه عشرة أسماء من ضمنها طه ويس) وهذا لا يصح عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولم يصح أنها من أسمائه صلى الله عليه وسلم، في سنده وضاع وضعيف. [1]

ولكن الراجح فيها: أن (يس) ومثلها (طه)حرفان مقطعان من حروف اللغة العربية يتحدى الله عز وجل بهما الكفار، بأن يأتوا بكتاب مثل هذا الكتاب العزيز من جنس هذه الحروف التي يقرؤونها ، وما استطاع أحد من فحول بلغاء العرب وفصحائهم أن يأتي بمثل ذلك، ولن يقدروا أبداً أن يأتوا بمثل ذلك ، وغالباً إذا جاءت هذه الحروف يذكر الله عز وجل القرآن أو إشارة إلى القرآن بعدها إلا في مواضع يسيرة، فأي سورة فيها هذه الحروف المقطعة يشير بعدها إلى هذا القرآن، بياناً منه سبحانه أن هذا القرآن من جنس هذه الحروف، ولكن لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولن يستطيع أحد أن يأتي بمثله، إلا أن يكون إنساناً مفترياً كذاباً .

والبعض احتج ايضا أن الخطاب بعد (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) و(يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين ) موجه للرسول صلى الله عليه وسلم فهذا يدل على أنها نداء للرسول باسمه ،وهذا غير صحيح لأننا لو جعلنا هذا الأمر قاعدة لكان من أسمائه (المص) ففي أول سورة الأعراف قال تعالى : (المص  كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) [الأعراف : 1،2] فهنا الخطاب موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ،ولم يقل أحد أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم (المص)

قال الإمام ابن القيم:  وأما ما يذكره العوام أن يس وطه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فغير صحيح ولا حسن ولا مرسل ولا أثر عن صاحب، وإنما هذه الحروف مثل: الم، وحم، والر، ونحوها. [2] 

من هم آل ياسين؟

ويستشكل البعض قوله تعالى: (سلام على إل ياسين) [الصافات:130]. وفي القراءة الأخرى: (سلام على آل ياسين )[الصافات:130]

وللعلماء أقوالا في معنى الآية:

أحدها: أن المراد إلياس عليه السلام، والذي وردت تلك الآية في آخر قصته.

قال القرطبي: والمراد إلياس عليه السلام، وعليه وقع التسليم، ولكنه اسم أعجمي. والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية، ويكثر تغييرهم لها.

والقول الثاني: أن المراد آله وهو داخل فيهم.

قال النحاس: فكأنه -والله أعلم- جعل اسمه إلياس وياسين، ثم سلم على آله، أي أهل دينه ومن كان على مذهبه، وعلم أنه إذا سلم على آله من أجله، فهو داخل في السلام.

والقول الثالث: -وهو أضعفها- أن المراد آل محمد صلى الله عليه وسلم.

جاء في تفسير القرطبي: قال السهيلي: قال بعض المتكلمين في معاني القرآن: آل ياسين آل محمد عليه السلام، ونزع إلى قول من قال في تفسير” يس” يا محمد. وهذا القول يبطل من وجوه كثيرة: أحدها: أن سياقة الكلام في قصة إلياسين، يلزم أن تكون كما هي في قصة إبراهيم ونوح وموسى وهارون، وأن التسليم راجع عليهم، ولا معنى للخروج عن مقصود الكلام لقول قيل في تلك الآية الأخرى، مع ضعف ذلك وأيضا فإن “يس” جاءت التلاوة فيها بالسكون والوقف، ولو كان اسما للنبي صلى الله عليه وسلم لقال: “يسن” بالضم، كما قال تعالى: (يوسف أيها الصديق) [يوسف: 46]. وإذا بطل هذا القول لما ذكرناه، ف “إلياسين” هو إلياس المذكور، وعليه وقع التسليم.

تفسير قوله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ [يس: 2]

 أقسم الله عز وجل بهذا القرآن الحكيم، والحكيم من أسماء الله عز وجل، ووصف بها كتابه سبحانه وتعالى، وهو كلام حكيم رصين، فيه الحكمة وفيه الحكم، وهو كلام محكم، أحكمه الله سبحانه وأتقنه، وأتانا بأحسن القصص فيه وأعظم الكلام وأعظم الموعظة وأعظم الشرائع.

إذاً: القرآن الحكيم: القرآن ذو الحكمة، والقرآن المحكم، والقرآن الحاكم، والقرآن الذي لا خلل فيه ولا زلل ولا خطأ، وما من كتاب إلا ويوجد فيه أخطاء مهما راجعه صاحبه، قال تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) [النساء:82]، أي: فكل كتاب من عند غير الله لابد وأن يكون فيه الاختلاف، ولا بد وأن يكون فيه الخطأ، إلا كتاب الرب سبحانه وتعالى.

قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [يس: 3]

المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أقسم له سبحانه بكتابه الحكيم إنه لمن المرسلين، وإذا قال له ربه سبحانه: “إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ” كفى، ولكن يقسم له سبحانه لإزالة أي شك وريب في قلوب الناس.

قوله تعالى: ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يس: 4]

الصراط: الطريق الذي يوصل بين شيئين والمعنى: إنك على طريق مستقيم من عند الله سبحانه.

والمعنى: إنك يا محمد! على طريق الرسل الذين كانوا من قبلك، فهؤلاء على طريق الله وأنت على طريقهم، والكل يدعو إلى الله سبحانه وتعالى.

قوله تعالى ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ [يس: 5]

 يذكر الله سبحانه وتعالى أن هذا القرآن العظيم منزل من عنده سبحانه، وتَنزِيلَ : مصدر نزل تنزيلاً، فالقرآن منزل جاء من عند الله سبحانه وتعالى.

 قوله تعالى: (الْعَزِيزِ)، العزة صفة من صفاته، والعزيز اسم من أسمائه سبحانه وتعالى. والله عزيز، أي: لا يمانع ولا يغالب سبحانه، إذا قضى أمراً فلا يرد قضاءه أحد، فهو العزيز القوي الذي لا يغالب، القاهر الذي لا يمانع، الذي إذا قضى شيئاً فلابد أن يكون على ما أراد أن يكون.

قوله تعالى: (الرَّحِيمِ): اسم من أسمائه، والرحمة صفة من صفاته سبحانه وتعالى ؛ فالرحيم: ذو الرحمة العظيمة البالغة، وقد ذكر سبحانه أن رحمته سبقت غضبه والرحمن والرحيم صيغتها مبالغة، والرحمن: ذو الرحمة العظيمة التي تعم الخلق جميعهم، والرحيم : ذو الرحمة العظيمة ؛ فالرحيم: يرحم خلقه سبحانه فيهديهم ويدلهم على الصواب، وينزل عليهم الكتاب، ويرسل إليهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهو بعباده رحمن رحيم.

قوله تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ [يس: 6]

قوله تعالى: (لِتُنذِرَ) أي: تخوفهم من عذاب الله سبحانه وتعالى، وتهددهم بما عند الله من عذاب على من يشرك به ومن يكذب رسل الله عليهم الصلاة والسلام.

قوله تعالى: (مَا أُنذِرَ) (ما) نافية، يعني: ما جاء نذير لآبائهم.

وقوله تعالى: (فَهُمْ غَافِلُونَ ) أي: غافلون عن عذاب الله سبحانه، لا يستجيبون للأنبياء ولا يهتمون بعذاب ربهم سبحانه وتعالى، فالله عز وجل أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ليبشر المؤمنين، وينذر الكافرين.

إذن لم يأت العرب من أنفسهم نذير، ولم يأتهم رسول من عند الله سبحانه، وإنما كان الأنبياء من ذرية أخرى ليسوا من هؤلاء العرب، فهذا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ليس من العرب، إنما مولده في العراق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومن أبناء إبراهيم إسحق وإسماعيل، وقد أخذ إبراهيم وإسماعيل وهو صغير وذهب به إلى مكة ووضعه هناك مع أمه هاجر، وتركه هنالك، وجاءت رفقة من جرهم كانوا عرباً، فتعلم منهم إسماعيل العربية وكان من أفضلهم فيها، فنافسهم فيها وغلبهم فكان إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام أبا هؤلاء العرب الذين جاءوا بعد ذلك، وكان أباً للنبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو ابن الذبيح إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

ومن عهد إسماعيل إلى عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، لم يكن هناك نبي من العرب، بل كل الأنبياء من ذرية إسحاق؛ لكن النبي الوحيد الذي جاء من العرب هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهو من ذرية إسماعيل، فلذلك قال الله سبحانه: لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ [يس:6] أي: ما جاءهم نبي منهم .

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يس: 7]

حق: بمعنى ثبت ووقع .

هذا تفصيل لحال القوم الذين أرسل محمد ﷺ لينذرهم، فهم قسمان:

قسم لم تنفع فيه النذارة، وقسم اتبعوا الذكر وخافوا الله فانتفعوا بالنذارة.

وبين أن أكثر القوم حقت عليهم كلمة العذاب، وهم الذين عاندوا الحقّ ، وأصرّوا على الكفر، وماتوا عليه، وهذا إخبار منه سُبحانه بمآل أمورهم ، وخواتيم أحوالهم .

قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ [يس: 8]

(أَغْلَالًا ) الأَغلال جَمع غُلّ (بضم العين): وهو ما تجمع به اليد إلى العنق للتعذيب ، أو ما يوضع في العنق .

(الْأَذْقَانِ ) جمع ذَقَن ، وهو مجتمع اللحيين .

(فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) رافعون رءوسهم ، لا يستطيعون خفضها.

معنى جعل الأغلال في أعناق الكفار: [3]

من جمال القرآن في تعبيراته وبلاغته، احتماله للمعاني الكثيرة التي تكون كلها صحيحة، فيكون الاختلاف اختلاف تنوع، فالله سبحانه يقول: “إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا “[يس:8]، إما أن يكون يوم القيامة وهم يحاسبون، أو وهم في النار، أو وهم في الدنيا جعل في أعناقهم ذلك دليلاً على المنع والحجز عن شيء أرادوه، فكل هذه المعاني صحيحة.

والقيد: الرباط الذي يوثق به الإنسان، سواء كان من حديد أو من غيره.

والغل: السلسلة التي تجمع يدي الإنسان إلى عنقه، فتكون اليدان مربوطتين إلى العنق في سلسلة، والرأس مرفوع إلى فوق، والذل عليه فنظره أسفل، فهو مقمح ذليل لا يقدر أن يحرك رأسه، هذا حالهم يوم القيامة.

فالمعنى: أيديهم مغلولة تحت أذقانهم، مربوطة بسلاسل في أعناقهم.

وقوله: فَهُمْ مُقْمَحُونَ ، أي: أن الوضع ضيق عليه، فلا يقدر أن يوطئ رأسه فيستريح؛ لأن رأسه مرفوعاً، وعينيه ذليلتان تنظران إلى أسفل.

فالإقماح: رفع الرأس وغض البصر، ورفع الرأس هنا ليس من عزته؛ لأنه مجبر على ذلك.

 وقيل : إن الآية حقيقة وليس فيها (استعارة) وإنما هذا تصوير لهم يوم القيامة ( إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ )[سورة غافر آية 71].

قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 9] [4]

أي منعناهم في الدنيا عن الإيمان بموانع من استكبارهم عن قبول الحقّ ، وعتوّهم وعنادهم .

فَأَغْشَيْنَاهُمْ : يعني أغشينا أبصارهم، جعلنا عليها غشاوة بحيث لا تبصر؛ ولهذا قال: ﴿فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ تمثيل أيضًا لسد طرق الإيمان عليهم عقوبة لهم لإعراضهم.

وليس هناك سد حقيقي أي جدار مثلًا بل هذا من باب التمثيل كأنهم لبُعدهم عن الإيمان -والعياذ بالله- وانحجاب رؤيتهم إياه كأنهم جُعل بينهم وبينه سد ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ فلا يتقدمون ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ فلا يتأخرون، فهم ثابتون على الكفر لا يتقدمون ولا يتأخرون، ومع ذلك فإن أبصارهم عليها غشاوة لا تبصر الحق، ولا تنظر إليه؛ ولهذا قال: ﴿فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ قد غمرهم الجهل والشقاء من جميع جوانبهم، فلم تفد فيهم النذارة.

قوله تعالى: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يس: 10]

إنذارك إيّاهم وعدمه سواء ، فلا ينفعهم الإنذار بسبب العتوّ والاستكبار، وكيف يؤمن من طبع على قلبه، ورأى الحق باطلا والباطل حقا؟!

وليس المعنى على ظاهره بأن يترك النبي صلى الله عليه وسلم دعوتهم؛ إنما المعنى واصل دعوتك وإنذارك للناس، وإن أصر أناس على الكفر فلا تحزن؛ لأن منهم من كتب الله أزلاً شقوتهم وشقاءهم ، فالله عز وجل أمره بأن ينذر ويبلغ ويدعو، فلما رأى أناساً مصرين معاندين مكابرين هون عليه تعالى ذلك، وقال: لا تحزن ولا تأسف عليهم، فقد كتب الله شقوتهم أزلاً.

قال تعالى:﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ [يس: 11]

(مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي اتّبع القرآن .

(وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ) الخشية: هي شدة الخوف المبني على العلم بعظمة المخشي منه والهيبة منه، قال الله تعالى:  (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماءُ)[فاطر: 28]، وبين العلم الصحيح والخشية تلازم، ولا يكون المرء عالماً حقاً حتى يكون من أهل الخشية.

والتعبير القرآني تعبير قوي، فمن المعتاد أن يقال: ويخشى الله شديد العقاب سبحانه وتعالى، لكن الله قال: (وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ)؛ لأنهم مؤمنون، فالله لا يقنطهم من رحمته، أي: أنتم تخافون من الرحمن فلكم عند الرحمن الرحمة العظيمة الواسعة.

(بالغيب) أي خاف عقاب الله في السرّ والعلن ، وإن لم يره .

 أي: أن الذي ينتفع بالموعظة هو ذلك الإنسان المتواضع له سبحانه وتعالى، والذي يقبل كلام رب العالمين، ويعمر قلبه بما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه.

 (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي: فبشر هؤلاء بالمغفرة من الله سبحانه وتعالى، وبشرهم بالأجر الكريم وهو الجنة العالية الغالية، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 12]

إنا: عبر هنا سبحانه تبارك وتعالى بنون العظمة لبيان عظيم فعله، وأنه الله الخالق العظيم الذي يحيي الموتى بقدرته سبحانه.

 نُحْيِي الْمَوْتَى : نبعثهم بعد الموت .

وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وآثارهم: ما يقدمه الإنسان هو ما يفعله الآن، وأثره هو ما يتركه بعد وفاته، فيظل موجوداً باقياً، كالوقف الذي يحبسه، كمبنى يبنيه ويجعله مسجداً لله سبحانه وتعالى، هذا أثر للإنسان بعد ما يموت، حيث يظل الناس يصلون في هذا المكان، فيكون هذا أثراً من آثار هذا الإنسان يكتبه الله سبحانه وتعالى، فآثار المرء تبقى وتذكر بعده بخير أو بشر، ولو سن للناس سنة شر لكانت بعده في الناس يذكرونه بها.

من آثار الخير الحسنة التي يتركها الإنسان بعد وفاته: العلم الذي يعلمه، أو النهر الذي يجريه، أو البئر يحفرها للناس، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو مسجداً بناه، أو مصحفاً ورثه، أو ترك أولاداً صالحين يدعون له، كل هذا مما يكون أثراً لهذا الإنسان ينتفع به بعد وفاته ، كما في الحديث قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ :  (إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه وولدًا صالحًا ترَكَه ومُصحفًا ورَّثَه أو مسجِدًا بناهُ أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ أو نَهرًا أجراهُ أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ) حسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة

 أما الإنسان الذي يسن للناس سنة شر، فيصنع للناس أشياء فيقلده الناس عليها، كإنسان ظلم نوعاً من الظلم وسنه للناس، فصار عليه الناس بعده يسنون هذا الظلم ويتبعونه ويقلدونه، كفرضه على الناس أشياء لم ينزل الله عز وجل بها من سلطان، فيأخذ بها الناس، أو يضرب الناس على أشياء لم يؤمر بها لا في كتاب الله، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مما يتركه الإنسان ويسنه ويقلده من يليه بعد ذلك، فيأخذ من الناس أموالاً بغير حق، فيقلده الناس في ذلك، فهذا من المظالم .

وهذا ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: قال: 

(من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سيئة، كان عليه وزرها ، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ، (ثم تلا هذه الآية : (ونكتب ما قدموا وآثارهم )،  قال : فقسمه بينهم) أخرجه مسلم وابن أبي حاتم والزيادة التي قبل الأخيرة له، وإسنادها صحيح.

كتابة آثار خطوات العباد إلى المساجد

كذلك من أثر الإنسان آثار مشيه، كما جاء عن جابر في صحيح مسلم عن النبي صلوات الله وسلامه عليه أن بني سلمة كانت بيوتهم بعيدة عن مسجد النبي صلوات الله وسلامه عليه، وخلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد؛ لأن ديارهم بعيدة، وكانوا يحضرون مع النبي صلى الله عليه وسلم جميع الصلوات، فأحبوا أن ينتقلوا قرب المسجد ليهون الأمر عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم)، يعني: الزموا دياركم، وتكتب آثاركم، والآثار هي الخطوات التي تمشونها إلى بيت الله عز وجل، فهي تعد لكم وتؤجرون عليها.

وروى هذا الحديث الإمام أحمد بلفظ آخر من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: هممنا أن ننتقل من دورنا لقرب المسجد، فزجرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: (لا تعروا المدينة، فإن لكم فضيلة على من عند المسجد بكل خطوة درجة)، يعني: أطراف المدينة يكون سكانها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، وتبقى أطراف المدينة للمنافقين، ويجيء الكفار من هذه الأماكن، فقال: (لا تعروا المدينة)، لا تتركوا أطراف المدينة عارية بحيث يقدم علينا أي أحد ولا ندري ما الذي يحدث فيها.

كتابة آثار الماشين في الظلم[5] إلى المساجد

جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الصحيح قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) أي: الخارجين من البيت لصلاتي الفجر والعشاء في الظلمة، فمن خرج إلى بيت الله سبحانه يبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالنور التام يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله سبحانه بقوله: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا  ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ١٢﴾ [الحديد: 12] فنور المؤمن يترتب على ما عاناه في الدنيا من بذل لله سبحانه، ومن صبر على الطاعة، فيؤجر الأجر العظيم عند الله سبحانه.

 إحصاء أعمال العباد في اللوح المحفوظ:

قوله: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) ورد في تفسيرها قولان للعلماء:

الأول : الإمام المبين : صحائف الأعمال، وهي الكتب التي يجد فيها العباد ما عملوا في الدنيا، كل عبد صحيفته يراها يوم القيامة: ” اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) [الإسراء:14]

الثاني : الإمام المبين : اللوح المحفوظ، وهو كتاب كتب الله فيه مقادير الخلق قبل أن يخلقهم فكتب فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة.

وقد ورد اللوح المحفوظ في القرآن والسنة في عدة مواضع منها :

قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب) [الحج:70 ]

وقوله: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها)الحديد: 22

وروى البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين – الطويل – وفيه: “كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض”.

قال الحافظ ابن حجر أن المراد بالذكر هنا: هو اللوح المحفوظ ، وله تسمياتٌ عدةٌ في القرآن :
1- هو أم الكتاب:

. لقول الله تعالى :  “يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ “[ الرعد – 39 ]، وقوله تعالى: ” وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ “[ الزخرف – 4. ]
” فِي أُمِّ الْكِتَابِ ” : في اللوح المحفوظ.
قال ابن كثير ” وقوله تعالى: ” وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ” بين شرفه في الملأ الأعلى، ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض، فقال تعالى(وإنه ) أي: القرآن ” فِي أُمِّ الْكِتَابِ ” أي: اللوح المحفوظ.
2- وهو الذكر : 

وأما كونه ( الذِّكر ) فلقوله تعالى :  “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ” الأنبياء – 105.
الذكر هو أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ عند الله .
3- وهو الكتاب المكنون :

وأما كونه (الكتاب المكنون ) فلقوله تعالى : ” إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ” الواقعة (77-78) .”فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ” مصون عند اللّه في اللوح المحفوظ محفوظ من الشياطين، وقيل: مكنون محفوظ عن الباطل.
4- وهو الإمام المبين:
وأما كونه ( الإمام المبين ) فلقوله تعالى” وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ” .

ما الحكمة من كتابة الله تعالى لمقادير الخلق في اللوح المحفوظ وهو لا يضل ولا ينسى ؟

أولاً :يعتقد المسلم الذي آمن بالله تعالى ربّاً أنه تبارك وتعالى الحكيم في فعله ، وشرعه ، وحُكمه، ويعتقد المسلم أنه ثمة حكَماً جليلة في أفعاله ، وتشريعاته ، منها ما يُعرف، ومنها ما استأثر الله بعلمه .

ثانياً: مما لا شك فيه أن الله سبحانه وتعالى علِم ما يكون من الخلق ، فكتب ذلك في اللوح المحفوظ ، فعلمه تعالى سابق على كتابته ، وقد ذكر العلماء أن القدر له أربع مراتب : العلم ، ثم الكتابة ، ثم المشيئة ، ثم الخلق .

فالمرتبة الثانية من مراتب القدَر : كتابة مقادير كل شيء ، فالمخلوقات مهما عظم شأنها ، أو دق : قد كتب الله ما يخصها في اللوح المحفوظ ، من خلق وإيجاد ونشأة وإعداد وإمداد ، إلى غير ذلك ، كما قال تعالى : ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) الحج/ 70 ، وقال : ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) النمل/ 75 ،  وقال تعالى : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) فاطر/ 11 ، والآيات في ذلك كثيرة .

وقد يقال في حكمة ذلك أمور ، منها :

  • إثبات علم الله السابق على تلك الكتابة ، وأنه علم لا يتبدل ، ولا يتغير ، وهو جواب موسى عليه السلام في حواره مع فرعون حيث سأل فرعون عن القرون السابقة ما حالهم هل هم في النار أم لا ، فأجابه موسى أن علم حالهم عند الله ، وهو في اللوح المحفوظ ، وأعلمه أن وجود ذلك العلم في اللوح هو مع اتصاف ربه تعالى بالاستغناء عنه ، وأنه سبحانه لا يتصف بالنسيان ، ولا بالخطأ ، كما هو حال البشر ، قال تعالى : ( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى . قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) [طـه/ 51 ، 52 ]
  • طمأنة العبد المسلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، ففيه التسليم لقضاء الله ، والرضى بقدره . قال الله تعالى : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) الحديد/22.

وقد أشار صحابي جليل إلى هذه الحكمة ، فعن أبي حفصة قال : قال عبادة بن الصامت لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال رب وماذا أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من مات على غير هذا فليس مني ) صححه الألباني في ” صحيح أبي داود ” .

 3- وفيه بيان لمشيئة الله النافذة التي لا راد لها ، ولا معقب لحكمه .

وإليه الإشارة في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) .صححه الألباني في ” صحيح الترمذي ” .

  • إثبات عظيم قدرة الله ، وكماله ، وإقامة الحجة على الخلق  ، ومما لا شك فيه أن كتابة مقادير الخلائق ، وصفاتها ، وأحوالها ، صغيرها وكبيرها ، رطبها ويابسها : أمر عظيم ، وقد بيَّن الله تعالى أنه عليه يسير ؛ إثباتاً لعظيم صفاته ، وكمال جلاله ، قال تعالى : ( أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ ) الحج/ 70 ، وقال الله تعالى : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) الأنعام/59 .

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : هذه الآية العظيمة من أعظم الآيات تفصيلا لعلمه المحيط ، وأنه شامل للغيوب كلها التي يطلع منها ما شاء من خلقه ، وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين ، فضلا عن غيرهم من العالمين ، وأنه يعلم ما في البراري والقفار من الحيوانات والأشجار ، والرمال والحصى والتراب ، وما في البحار من حيواناتها ومعادنها وصيدها ، وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها ، ويشتمل عليه ماؤها.

 ( وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ ) من أشجار البر والبحر، والبلدان والقفر، والدنيا والآخرة

 { إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ } من حبوب الثمار والزروع ، وحبوب البذور التي يبذرها الخلق ؛ وبذور النوابت البرية التي ينشئ منها أصناف النباتات .

 ( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ ) هذا عموم بعد خصوص .

 ( إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) وهو اللوح المحفوظ ، قد حواها واشتمل عليها .

 وبعض هذا المذكور، يبهر عقول العقلاء ، ويذهل أفئدة النبلاء ، فدل هذا على عظمة الرب العظيم وسعته في أوصافه كلها ، وأن الخلق -من أولهم إلى آخرهم- لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفاته لم يكن لهم قدرة ولا وسع في ذلك ، فتبارك الرب العظيم ، الواسع العليم ، الحميد المجيد ، الشهيد المحيط ، وجل مِنْ إله، لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده . فهذه الآية دلت على علمه المحيط بجميع الأشياء ، وكتابه المحيط بجميع الحوادث ” . [6]

المعنى الإجمالي للآيات :

  1. يقسم الله تعالى بالقرآن المحكم بما فيه من الأحكام والحكم والحجج ، إنك يا محمد e لمن المرسلين بوحي الله إلى عباده ، على طريق مستقيم معتدل ، وهو الإسلام ، وهذا القرآن تنزيل من العزيز في انتقامه من أهل الكفر والمعاصي ، الرحيم بمن تاب من عباده وعمل صالحاً .
  2. لقد أنزلنا عليك هذا القرآن يا محمد لتحذّر به قومك وهم العرب ، الذين لم ينذر آباؤهم الأقربون ، فهؤلاء القوم ساهون عن الإيمان والاستقامة على العمل الصالح.
  3. وإنّ كل أمة ينقطع عنها الإنذار تقع في الغفلة ، وفي هذا دليل وجوب الدعوة والتذكير على العلماء بالله وشرعه ، لإيقاظ المسلمين من غفلتهم .
  4. وإنّ أكثر هؤلاء الكافرين قد وجب عليهم العذاب لإعراضهم عن الحقّ ، فهم لا يصدقون بالله تعالى ولا برسوله e ، ولا يعملون بشرع الله وهديه .
  5. وإنّ مثل هؤلاء الكفار الذين عرض عليهم الحق فردوه ، وأصروا على الكفر وعدم الإيمان ، كمن جعل في أعناقهم أغلال ، فجمعت أيديهم مع أعناقهم تحت أذقانهم ، فاضطروا إلى رفع رءوسهم إلى السماء فهم مغلولون عن كل خير ، لا يبصرون الحق ولا يهتدون إليه .
  6. وجعلنا من أمام الكفار سداً ومن ورائهم سداً ، فهم بمنزلة من سدّ طريقه من بين يديه ومن خلفه ، فأعمينا أبصارهم ؛ بسبب كفرهم واستكبارهم ، فهم لا يبصرون رشداً ولا يهتدون ، وكلّ من قابل دعوة الإسلام بالإعراض والعناد ، فهو حقيق بهذا العقاب .
  7. وإنّ كثيراً من هؤلاء الكفار المعاندين يستوي تحذيرك لهم وعدم تحذيرك ، فهم لا يصدقون بالحقّ ، ولا يعملون بمقتضاه .
  8. ولكنّ تحذيرك ينفع من آمن بالقرآن ، واتبع ما فيه من أحكام الله تعالى ، ووعده ووعيده ، وخاف الرحمن ، دون أن يراه ، وحيث لا يراه أحد إلا الله ، فبشر هذا وأمثاله بمغفرة من الله لذنوبه ، وثواب منه عظيم في الآخرة على أعماله الصالحة .
  9. إنا نحن نحيي الأموات جميعاً ببعثهم ليوم القيامة ، وجمعهم للحساب ، ونكتب ما عملوا من الخير والشر ، وآثارهم التي كانوا سبباً فيها في حياتهم وبعد مماتهم من خير ، كالولد الصالح ، والعلم النافع ، والصدقة الجارية ، أو شرّ كالكفر والعصيان ، وكل شيء جمعناه وسجّلناه في كتاب واضح هو أم الكتب ومرجعها ، وهو اللوح المحفوظ . فعلى العاقل أن يحاسب نفسه ، ويستقيم على مرضاة ربّه ، ليكون قدوة للناس في الخير في حياته وبعد مماته .

أهم ما يستفاد من الآيات:

  1. ـ القرآن الكريم معجزة النبي e الخالدة إلى يوم القيامة ، وهو تنزيل من ربّ العالمين ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
  2. ـ إنّ محمد بن عبد الله e رسول من عند الله تعالى ، أرسله الله بالهدى ودين الحق ، للعالمين بشيراً ونذيراً ، على منهج وطريق ودين مستقيم هو الإسلام .
  3. ـ إن رءوس الكفر والطغيان ، والتكذيب والعناد من أهل مكّة أو العرب ، أو ممّن يأتي بعدهم إنما يستحقّون الخلود في نار جهنّم ، لأنّهم أصرّوا على الكفر ، وأصمّوا آذانهم ، وأعموا أبصارهم عن النظر في آيات الله ، والتفكّر في دلائل وحدانيّته وقدرته .
  4. ـ وما جاء من الآيات بعد قوله تعالى : { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ ، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} إنّما هو كالتعليل والتدليل على عدم إيمان هؤلاء الكافرين ، فكأنّ سائلاً سأل : لماذا حُرموا من نعمة الإيمان ؟ وحَقّ عليهم العذاب ؟ فكان الجواب لأنّهم حجبوا عن أنفسهم بأنفسهم دلائل الحقّ ، فكان حالهم كحال السجين المغلول اليدين والرأس ، وقد اجتمع عليه مع ذلك الحبس في مكان ضيّق بين سدّين وجدارين : سدّ أمامه ، وسدّ خلفه ، فأنّى له المخرج من ذلك ؟

 

  • لا أمل في إنذار الكفّار والمعاندين إذا سدّوا على أنفسهم منافذ الهداية ومدارك المعرفة ، ولم تتفتّح بصائرهم لرؤية الحقّ والنور الإلهيّ .
  • وإنما ينفع الإنذار من آمن بالقرآن الكريم كتاباً منزّلاً من عند الله ، واتّبع ما فيه من الحقّ ، وخشي عذاب الله وسخطه ، فله البشارة من الله تعالى بمغفرة ذنوبه ، ودخول الجنة دار النعيم والتكريم .
  • البعث حقّ ، والإيمان به واجب ، لأنّ الله تعالى قادر على كلّ شيء ، وقد أحصى الله كل شيء من أعمال العباد وضبطه في كتاب مبين .

[1] أما الوضاع فإسماعيل بن يحيى التميمي، قال أبو حاتم: يروي الموضوعات عن الثقات لا تحل الرواية عنه . وقال الدارقطني : كذاب متروك، وقال الأزدي: ركن من أركان الكذب لا تحل الرواية عنه. أما الضعيف فسيف بن وهب، قال الإمام أحمد: ضعيف الحديث، وقال يحيى: كان هالكا من الهالكين، وقال النسائي: ليس بثقة، ينظر: إتحاف السادة المتقين 7 \ 163، تخريج أحاديث إحياء علوم الدين3 \ 1483. وينظر فيمن حكم على الحديث بأنه ضعيف أو موضوع لا يصح: الرياض الأنيقة 30 ، نسيم الرياض وشرح الشفا 1 \ 316، تخريج أحاديث إحياء علوم الدين 3 \ 1482، 1483

[2] تحفة المودود بأحكام المولود 116، 117

[3] جاء في سبب نزول هذه الآية أن أبا جهل بن هشام ورجلين من بني مخزوم تواصوا فيما بينهم أنهم إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويسجد عند الكعبة أن يأخذ أحدهم حجراً ويرضخ به رأسه صلى الله عليه وسلم، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي إذا بـأبي جهل لعنة الله عليه يأخذ حجراً ويجري إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبر بقسمه، فلما وصل فزع ورجع خاشعاً ذليلاً لعنة الله عليه وعلى أمثاله، إذ غلت يده إلى عنقه بالحجر الذي معه ورجع فزعاً إلى قومه ….هذه القصة وردت في بعض كتب التفسير مثل تفسير ابن كثير والطبري، لكنهم غالباً يسندونها عن مجاهد أو عكرمة أو السدي، وهي روايات مرسلة و,ضعيفة لا تصح للاحتجاج.

[4] من المشهور بكتب السير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج مهاجراً إلى المدينة، مر على الكفار الذين اجتمعوا أمام بيته وقد جمعوا له أربعين رجلاً، يريدون قتله بضربة رجل واحد، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ تراباً من الأرض وألقاه على رءوس الجميع وهو يقرأ هذه الآية، وكأن الأربعين جميعا تجمدوا بأماكنهم وانتظروا جميعا لتلقى التراب على رؤوسهم ولم يتحرك منهم أحد. والقصة سندها ضعيف جدا ، والأولى عدم ذكرها إلا للتنبيه عليها .

[5] بفتح اللام :جمع ظلمة

[6] “تفسير السعدي” (259) .

Visited 75 times, 1 visit(s) today


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 16 أبريل, 2025 عدد الزوار : 14348 زائر

خواطر إيمانية

كتب الدكتور حسين عامر

جديد الموقع