تفسير الفاتحة: 15-الاستعانة بالله (وإياك نستعين)

تاريخ الإضافة 6 يوليو, 2025 الزيارات : 136

15-الاستعانة بالله (وإياك نستعين)

وإياك نستعين:

الاستعانة: هي طلب العون من الله تعالى في أمور الدنيا والآخرة، والتبرؤ من الحول والقوة والتفويض إليه، كما قال الله تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود:123].

وفي وصيته صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (وإذا استعنت فاستعن بالله.) رواه الترمذي.

 والمعنى: وإذا استعنت أي أردت الاستعانة في الطاعة وغيرها من أمور الدنيا والآخرة فاستعن بالله، فإنه المستعان، وعليه التكلان.

وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: (وأما الاستعانة بالله -عز وجل- دون غيره من الخلق؛ فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله -عز وجل-، فمن أعانه الله فهو المعان ومن خذله فهو المخذول، وهذا تحقيق معنى قول: (لا حول ولا قوة إلا بالله)؛ فإن المعنى لا تحول للعبد من حال إلى حال ولا قوة له على ذلك إلا بالله، وهذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنة، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات، كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله -عز وجل-، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه..

وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز) (أَخْرَجَهُ مُسْلِم)

 يعني: لا تعتمد على الحرص فقط ولكن مع الحرص استعن بالله -سبحانه وتعالى-؛ لأنّه لا غنى لك عن الله، ومهما بذلْت من الأسباب فإنّها لا تنفع إلاّ بإذن الله -تعالى-، فلذلك جمع بين الأمرين: فعل السبب مع الاستعانة بالله -عزّ وجلّ-.

فالله جل جلاله يعلمنا في هذه الآية أن نعبده وحده ونستعين به وحده ،وبذلك فإن المؤمن يتعلم أن يستعين بالحي الذي لا يموت، وبالقوي الذي لا يضعف، وبالقاهر الذي لا يخرج عن أمره أحد، واذا استعنت بالله سبحانه وتعالى كان الله جل جلاله بجانبك، وهو وحده الذي يستطيع أن يحول ضعفك الي قوة وَذُلك الي عز؛ فالاستعانة بالله علاج لغرور العبد وكبريائه، ويجمع بين ما يتقرب به العباد إلى ربهم، وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته.

ومعنى الاستعانة ملتحق بالعبادة؛ فأنت حينما تستعين بالله في كل أمورك، بطلب العون والمدد والتوفيق من الله جل وعلا، فإنك بذلك تعلن توحيدك لله، وأنك فقير إليه جل وعلا، ومتوكل عليه في جميع أمورك ؛ لأنك خُلقت ضعيفًا، قال تعالى: (خُلق الإنسان ضعيفًا) [النساء: 28].

ومعنى ضعيف: يعني أنه لا يقوم بنفسه، يحتاج إلى الهواء ليتنفس، إلى الماء ليشرب، إلى الطعام ليتقوى، يحتاج دائمًا إلى معونة، يحتاج إلى مدد، يحتاج إلى من يساعده.

كثير من الناس يظن أنه طالما أن عنده القدرة على فعل شيء سيفعله وينسى أو يتغافل عن الاستعانة بالله، وأن أي شيء في هذا الكون لن يتم ولن يقع إلا بأمر الله وإرادته، قال جل وعلا: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) [الإنسان: 30]. وفي الآية الأخرى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) [الكهف: 23-24]

“لشيء” هنا نكرة تفيد العموم، أي شيء كبير أو صغير، لا ينبغي أبدًا أن تظن أنك قادر وحدك على إنجازه إلا إذا شاء الله أن ينجز.

فمن الممكن أن يكون عندك القدرة على الفعل، وأدوات الفعل، ثم لا يتم الأمر، لماذا؟ لأن الله لم يشأ.

وديننا يعلمنا الارتباط الدائم بالله: وقول: أنا معتمد على نفسي، معتز بنفسي. أنا مبدع أنا عندي مواهب، كل هذا لا غبار عليه، لكن قل : مستعينًا بالله؛ لأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فالله فعال لما يريد.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز” [صحيح مسلم].

إذا عندك عبادة الجوارح: وهي الأخذ بالأسباب، أما عبادة القلب: فاستعن بالله في كل شيء، في جلب منفعة أو دفع ضرر.

في دفع المرض استعين بالله وآخذ بالأسباب الطبيب والدواء، في الرزق استعين بالله وأسعى. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) [الملك: 15].

يبقى في أي شيء أنت مستعين بالله سبحانه وتعالى. حتى أن الرسول علمنا: “ليسأل أحدكم ربه حتى شِسْع نعله” [صحيح البخاري]

 الشسع هو سير النعل، يعني الحذاء انقطع، فهذا شيء حقير؛ الرسول علمنا أن نسأل الله حتى هذا الشيء الذي هو عندنا حقير.

ورد عن عائشة رضي الله عنها: “ليسأل أحدكم ربه حتى الملح” [رواه الطبراني].

 والملح من المحقرات، لا شيء، ليس له قيمة، ولكن حتى هذا الشيء اسأل الله عز وجل هذا الشيء ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: “من لم يسأل الله يغضب عليه” [سنن الترمذي]، لماذا؟

 لأن معناه أنك مستغنٍ عن الله، أو مغتر بنفسك وبقدراتك.

انظر إلى أهل الكتاب، اليهود لما كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ” [الحشر: 2]. عندهم حصون، عندهم مؤن أو غذاء يكفيهم لشهور، والنبي محاصر لهم.

من الذي يملك القلوب؟ الله عز وجل. (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) [الحشر: 2].

وفي غزوة بدر، المشركون ثلاثة أضعاف المؤمنين، ورب العالمين يقول: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) [الأنفال: 12].

 والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا الاستعانة بالله مع وجود الأسباب ومع انعدام الأسباب، مع وجود القدرة ومع انعدام القدرة، حتى قالوا: اطلب من الله المستحيل، يعني ما يتصور عقلك أنه لن يتم؛ اطلبه من الله؛ لأن الأمور تجري بمقادير الله سبحانه وتعالى.

فالاستعانة بالله ثمرة من ثمرات العبودية الكاملة لله، وهي أن تعلن ضعفك وفقرك وحاجتك إلى الله سبحانه وتعالى في أمور الدنيا، وفي جلب ما ينفعك ودفع ما يضرك.

أيضًا من الاستعانة بالله أن تستعين بالله في أمور الدين، تطلب العون من الله كما في الدعاء “اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك” [سنن أبي داود].

وقصة هذا الدعاء أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان جالسا مع النبي، فقال له: “والله إني لأحبك” كلنا نحب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن النبي يعلن أنه يحب معاذ، فهذه منقبة عظيمة جدًا لمعاذ.

وبما أنه يحب معاذا، أراد أن يعطيه هدية، قال: ” فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة مكتوبة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك” [سنن أبي داود].

 وهذا من أنفع الدعاء ، لكل من يشكو ثقل العبادة عليه، ثقل الطاعة، ثقل القرآن، ثقل العلم، ثقل صلاة القيام؛ أي عبادة صعبة عليك، استعن بالله بهذا الدعاء.

(اللهم أعني) بأن يلهمك العبادة، وأن يمنحك القدرة على العبادة، وبأن يرزقك البركة في الوقت، وبأن يرزقك الصحبة الصالحة، وبأن تجد العون من زوجتك، وتجد العون من أولادك، وأن تجد عملاً لا يعطلك عن العبادة، أو دراسة لا تعطلك عن العبادة؛ فدائمًا تلتمس العون من الله: “اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك”.

أحد الشباب قال لي: يا شيخ في هذا البلد لا نستطيع صلاة الجمعة، وصلاة الجمعة مستحيلة؟!

 قلت له: أكبر دليل على أن كلامك غير صحيح أننا نصلي ثلاث جمعات ولا يكفون. هذا معناه أن كل من يحضر الجمعة ترتبت أموره على حضور الصلاة؛ إذا عليك أن تستعين بالله وتسعى لتهيئة الأمر لتصلي الجمعة؛ لأنها فريضة فرضت في جماعة.

لو عندك مشكلة في عملك مع العبادة، فأرض الله واسعة!

لماذا هاجر الرسول من مكة للمدينة؟

النبي ترك مكة، أحب البقاع إلى الله، لأنها كانت أرض الشرك في هذا الوقت، وضاق أهلها بدين الإسلام وبالمسلمين، وفعلوا ما فعلوا برسول الله وصحابته، فأي بلد ضاق بك وحيل بينك وبين ممارسة شعائر دينك، فأرض الله واسعة، فما ضاق أمر في مكان إلا واتسع في مكان ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

فدائمًا تطلب العون من الله على عبادتك: على أداء الصلاة، على أداء الزكاة، على العمرة، على الحج، على أكل الحلال…الخ.

ومن العلماء من قال: تستعين بالله على ما لا تستطيع دفعه من المعصية.

لو مفتون بمعصية من المعاصي، استعن بالله عليها، أن تسأل الله العافية، وأن يعينك على ترك هذه المعصية: “اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن” [صحيح مسلم]

الناس مع: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) أصناف أربعة:

ذكر ابن القيّم رحمه الله كلاما طيبا في «مدارج السالكين» في بيان أقسام الناس في العبادة والاستعانة اقتطف منه ما يلي:

الصنف الأول: أهل العبادة والاستعانة صدقا وإخلاصا، يجمعون بينهما اعتقادا وعملا ولا يفرقون، ولا يقصرون في ذكر الله تعالى وشكره وحسن عبادته، ولا يشركون به شيئا، لا في الإيمان به ولا في طاعته والتوكل عليه، الذين هم عابدون لله، ومستعينون به على عبادته والاستقامة على دينه، ابتغاء مرضاته، يؤدون له حقه في ذاته وأسمائه وصفاته بالتوحيد الخالص، وحقه في نعمه وآلائه بالاعتراف والحمد والشكر، وحقه في قضائه وقدره، بالتسليم والرضا والصبر، وحقه في أوامره ونواهيه بالاستجابة سمعا وطاعة.

 وهؤلاء هم المؤمنون حقا، لهم البشرى بالرضا والرضوان: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[فصلت: 30]

 اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك .

 الصنف الثاني: أهل عبادة بغير استعانة، وهؤلاء يؤدون فرائض العبادة، ولكنهم يرجون ويطلبون أسباب السعادة والرزق والتوفيق عند غير الله تعالى، وتلك حال المتعلقين بعبودية البشر والسحر والكهانة وغيرها، والكثير من هؤلاء يقع في أمور شركية وهو لا يدري ؛ فالله تعالى هو القادر على إنزال النعم، وإزالة الضر من غير احتياج منه إلى شريك نستعين به أو نعتقد أنه ينفع أو يضر من دون الله.

لكن الاستعانة بالمخلوق على أمر يقدر عليه، فهذه إن كانت على بر وخير فهي جائزة، والمعين مثاب لأنه إحسان، قال -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) [المائدة: 2]، وإن كانت على إثم فهي حرام، قال -تعالى-: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]

الصنف الثالث يزعمون التوكل على الله والاستعانة به، لكن على حظوظهم الدنيوية وشهواتهم بلا عبادة، وهم في الحقيقة إنما يعبدون دنياهم، ولا يلجئون إلى الله إلا طلبا لقضاء حوائج أهوائهم، وقد يؤتيهم الله من متاع الدنيا، ولكنهم ليس لهم في الآخرة من نصيب: (وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) [الشورى: 20].

الصنف الرابع: صنف الجاحدين المعرضين المستكبرين على الله تعالى، الذين لا هم له عابدون، ولا هم به يستعينون؛ لأنهم لا يؤمنون به أصلا، يأكلون رزقه ويجحدون فضله ويعبدون غيره، أولئك في الضلال والخسران المبين: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[غافر: 60].

الخلاصة:

  • الاستعانة طلب العون والمدد والتوفيق من الله في أمور دينك ودنياك.
  • في أمور دينك: أن يعينك سبحانه وتعالى على العبادات اللي فرضها عليك، وعلى أكل الحلال، وعلى أداء كل أمرك به .
  • الاستعانة بالله في أمور الدنيا في جلب ما ينفع ودفع ما يضر.
  • الاستعانة بالله فيها دلالة على التوحيد لله، وإعلان افتقارك إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه الغني جل جلاله.
  • الاستعانة بالله أيضا فيها دلالة على التوكل على الله سبحانه وتعالى.
  • نستعين بالله في كل أمورنا؛ لا ننقل قدمًا على قدم إلا بعد استعانتنا بالله.
  • المؤمن إذا خرج من بيته يقول: “بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله” [سنن الترمذي].
  • إذا احترت في أمر؟ عليك بالاستخارة. كما بالحديث عن جابر: كان يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها.
  • ابذل ما في وسعك، ونيتك إرضاء الله، لا إرضاء هواك أو جلب مصلحتك أو دفع الأمر المتوهم بالنسبة لك مع معصية الله عز وجل.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا دائمًا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يعيننا على أمور ديننا.

 

Visited 39 times, 1 visit(s) today


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 16 أبريل, 2025 عدد الزوار : 14348 زائر

خواطر إيمانية

كتب الدكتور حسين عامر

جديد الموقع