الهدى والضلال إجبار أم اختيار؟
من الأسئلة التي تعرض لنا كثيرا:
“إذا كان الله تعالى شاء أن يكفر الكافر ويؤمن المؤمن، وأن يطيع المطيع ويعصي العاصي، فلماذا يعذب هذا الكافر ويثيب هذا المؤمن؟”
هذه شبهة متكررة وقد تُطرح بصيغة أخرى: هل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر؟ إذا كان كل شيء قد سبق في علم الله، فلماذا يعاقبنا على أفعالنا؟ إلى آخر ذلك.
أنواع الهداية
لقد سبق أن تكلمنا عن أنواع الهداية، وقلنا إن الهداية نوعان:
- هداية البيان: وهي بيان طريق الحق من الباطل، والطاعة من المعصية.
- هداية الإعانة والتوفيق: وهي توفيق الله للعبد للسير في طريق الحق بعد بيانه له.
الملائكة والانس والجن
خلق رب العالمين جل في علاه خلقًا لا يعرفون إلا طاعته، وهم الملائكة. من صفاتهم:
- الملائكة خلقهم الله لطاعته، لا يعرفون غير ذلك.
- ليس عندهم شهوات وغرائز كالإنس والجن.
- الملائكة لا تأكل، ولا تشرب.
- ليس فيهم ذكور ولا إناث، ولا زواج.
- لا ينامون، لا يجوعون، لا يمرضون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أطَّتِ السماءُ وحُقَّ لها أن تَئِطَّ، ما من موضعِ أربعِ أصابعَ إلا وفيه مَلَكٌ قائمٌ أو راكعٌ أو ساجدٌ”.
هذه خِلقَتُه، ملكٌ خلقه الله راكعًا، وملك خلقه الله ساجدًا، وملك خلقه الله قائمًا، يسبحون الله ليل نهار بلا انقطاع، لا يفترون.
يوم القيامة أين تذهب الملائكة؟ إلى الجنة أم إلى النار؟
لا يثابون ولا يعاقبون؛ لأنه ليس هناك تكليف واختبار.
ولذلك ستقرأ آيات القرآن عن زبانية نار جهنم من الملائكة، وفي الجنة خزنة الجنة من الملائكة يدخلون على المؤمنين من كل باب: {سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (سورة الرعد: الآية 24).
أما الإنس والجن، فرب العالمين خلقهم مختارين في طاعته، وأعطاهم القدرة على الفعل، والقدرة على الرشد.
هل خلق الله الكافر كافرًا؟
كلا ؛ لأن (كل مولود يولد على الفطرة)، وهي الصفحة البيضاء النقية.
بعد ذلك، ماذا يحدث؟
انتكاسة أو انحراف للفطرة عن أصلها: {فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ} (صحيح البخاري ومسلم).
رب العالمين سبحانه وتعالى جعل هداية البيان للإنس والجن باعتبار أنهم مكلفون، ليبين طريق الحق من الباطل، والطاعة من المعصية؛ لأنك عندك جهل فتكتسب العلم، ثم عندك طرق مختلفة فيبين لك طريق الرشد وطريق الغي، والإيمان والكفر.
الله عز وجل بيّن في غير موضع أنه قادر أن يجعل كل الناس مهتدين، على الحق، لكن هذا ينفي حكمة الخلق.
لماذا خلقنا الله؟
لكي يختبرنا ويمتحننا، ويُظهر أسماءه وصفاته، ودلائل ربوبيته وألوهيته، ويأتي من يأتي إلى الله مختارًا، كما هي عبارة العلماء:
” أراد الله أن يُعبد اختيارًا لا اضطرارًا”.
ربنا قادر أن يجبرنا على طاعته: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (سورة السجدة: الآية 13)، و {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (سورة يونس: الآية 99).
وهو قادر جل في علاه أن يكون كل الإنس والجن على قلب رجل واحد تقوى وإيمان وطاعة وهكذا، لكن هذا ينفي حكمة الخلق.
الله لم يخلقنا لهذا، إنما خلقنا وأعطانا حرية الاختيار، بخلاف الملائكة.
إذاً، الملائكة ليس لديهم اختيار في طاعة أو معصية، فهم لا يعرفون إلا الطاعة.
أما نحن الإنس والجن، فقد كلفنا الله بالاختيار وامتحننا الله تعالى بهذا الاختيار.
المسؤولية وحرية الاختيار
قال المشركون قديمًا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} (سورة الأنعام: الآية 107)، لو أخذنا بهذه الحجة السقيمة، فمعنى ذلك أن الإنسان لا يُعاقب أبدًا على أي أفعال. هل تستطيع مثلاً وأنت تقود سيارتك والإشارة أمامك حمراء، وهذا يعني أن هناك خطرًا لو تجاوزت الخط وكسرت الإشارة، أن يأتي الشرطي ويسألك: “أتعرف خطأك؟” فتقول: “نعم”، إذن لماذا تجاوزت الإشارة وهي حمراء؟ فتجيب: “قضاء وقدر”، فيعطيك مخالفة “قضاء وقدر”؟!!
ولماذا قتلت هذا؟ “والله أجله، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (سورة الأعراف: الآية 34)”.
أيها اللص، لماذا تسرق أموال الناس؟
“رزقي، ربنا جعل رزقي في جيوب الناس “
فيصير القاتل والسارق والزاني والفاجر والظالم والمعتدي، كل هؤلاء أولياء لله! لأنهم يطبقون إرادة الله! أستغفر الله.
هذا الكلام يعني خراب الدنيا، ويعني أن الدنيا لم يعد فيها أي قوانين، ويستوي المطيع مع العاصي، والمحسن مع الفاسد.
نقول لك: كلا، ربنا سبحانه وتعالى أعطاك عقل الرشد، الذي تميز به بين الأمرين.
ولذلك قبل البلوغ لا يوجد تكليف؛ ما دمت طفلاً صغيرًا ليس هناك أي تكليف؛ بعدما تصل إلى عقل الرشد، يصبح هناك تكليف.
لكن لو أن شخصا فقد عقله، مجنون أو عنده زهايمر ، لا يوجد تكليف.
واحد دخل في غيبوبة أو فقدان للوعي الكامل، لا يوجد تكليف.
لو واحد أمسكوه وربطوه أو هددوه بالسلاح أو قالوا له طلق زوجتك أو قل كلمة كفر أو بع لنا ممتلكاتك، نقول كل هذا لا أثر له؛ لأنه تم تحت الإكراه. يعني زوجته ما زالت زوجته، وماله هو ماله، وما زال على الإيمان.
كما أن عمار بن ياسر أكرهوه على الكفر، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: “وكيف قلبك؟” قال: “قلبي مطمئن بالإيمان”. فنزلت الآية التي نحفظها جميعًا: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (سورة النحل: الآية 106).
لو أني في رمضان، بحكم الجبلة والطبع، شربت ماء في نهار رمضان ناسيًا، فما حكم صيامي؟ صحيح، لأن الاختيار سقط، فربنا سبحانه وتعالى من رحمته ألغى العقوبة: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (سورة الأحزاب: الآية 5).
يأتي أحدهم ويقول لك: “هذه السيجارة ليست طعامًا ولا شرابًا”، ويشربها وهو صائم. هذا عنده اختيار. إذاً، شخص ليس مريضًا ولا مسافرًا ولا عنده أي عذر شرعي، ولا حامل ولا مرضع، ولا أي شيء، أكل وشرب. ما حكمه؟ هذا أفطر باختياره، هذا وقع في المعصية باختياره.
إذاً، الله تعالى لم يُكره أحدًا على معصيته، وفي المقابل لم يُكره أحدًا على طاعته. فلا إكراه لا في طاعة ولا في معصية. هل يوجد أحد منكم هنا يذهب للمسجد مضطرا أو خائفا من الإمام ؟ كلا أبداً. كلنا جئنا المسجد للصلاة باختيارنا.
الابتلاء والاختبار
لذلك البعض يقول لك: “لماذا لم يهلك ربنا إبليس لما عصى وقال لله: أنا خير منه؟” لماذا تركه الله؟
لأن الله سبحانه وتعالى أعطى الجن والإنس الاختيار.
فكثير من الناس يكفرون بربنا جهارًا نهارًا، وهناك من يقول كلامًا في حق الله وذات الله مثل صفحات الملحدين، والله كلام مجرد قراءته ينتفض له القلب، نعوذ بالله سوء أدب مع الله لا تتخيله- وهم يعيشون في ملك الله، يأكلون ويشربون ويتمتعون.
لماذا يتركهم الله؟ لأن ربنا سبحانه وتعالى جعل الدنيا دار ابتلاء، فمنح كل واحد حرية الاختيار، حتى إذا جاء يوم القيامة وعاقب وحاسب، لا يكون قد ظلم أحدًا: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (سورة النساء: الآية 165).
لا يأتي أي أحد يشتكي: “يا رب، أنا ما أعرف، ما أخذت بالي”
كلا، فقد أرسل الله رسلا مبشرين ومنذرين، ثم وورثة الأنبياء من العلماء،لإقامة الحجة على الخلق.
كل هذا الله تكفّل به، ولو أن واحدًا نشأ بعيدًا عن كل هذا، لم يسمع لا بالإسلام ولا بالمسلمين ولا يعلم شيئًا، لا يحاسبه الله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (سورة الإسراء: الآية 15).
علم الله سابق وليس سائق
إذاً، الله لم يخلق أحدًا كافرًا، الله تعالى لا يُكره أحدًا على طاعته ولا يُكره أحدًا على معصيته.
الله تعالى خلق فينا القدرة على الاختيار، وعلى التمييز بين الحق والباطل. الله تعالى لا يعاقب المخطئ والناسي والمُكره، إنما يعاقب المختار المتعمد.
السؤال أيضًا الذي يتكرر هو: “ألم يسبق في علم الله أن هذا مؤمن وأن هذا كافر؟” نعم.
كيف سيحاسبهم ويجازيهم؟
علمه المحيط جل وعلا سابق وليس سائق، لأنه سبحانه عنده الكمال لا يجهل شيئًا، لكنه ليس سائقًا لعباده.
أمثلة توضيحية:
مثلاً، أنت كأب لأربعة أولاد مثلاً، وتعرف أولادك من أول ما كانوا بذرة صغيرة إلى أن صاروا كبارًا، تعرف أن هذا خلقه كذا وطبعه كذا وصفته كذا.
عندما ترى شيئًا بشكل معين في البيت، تقول: “فلان الذي فعلها”.
هل معنى ذلك أنك ظالم له؟ كلا أنت فاهم أن فلان هذا يحب كذا فهو الذي أخذ هذه القطعة أو هو الذي أكل كذا أو هو الذي كسر هذه.
لأنك أب وتعرف أولادك، فعندك علم بأن ابنك هذا فعل كذا وكذا.
فعلمك هذا لأنك أبوه، لأنك أنت الذي ربيته، لأنك أنت الذي تفهم قدراته وتفهم ميوله وتفهم غرائزه؛ لكن هل أنت أكرهته على الخطأ؟
هل أنت اضطررته أن يخطئ ويفعل هذا الكلام؟ كلا.
عندما يكون عندك ابن يلعب كثيرًا ولا يمسك كتابًا ولا يذاكر ولا غير ذلك، فيأتي يقول لك: “لقد حصلت على صفر”.
فتقول له: ” أنا أعلم أنك ستفشل”. هل كونك تعلم أنه سيفشل يعني أنك أكرهته على الفشل؟ كلا، فالمقدمات تقول إن هذا لن ينجح.
فعلمك هذا لأنك أبوه وتعرف أحواله جيدا، فلذلك تعرف أن المقدمة تقول إن النتيجة سيئة. ، إذاً أنا لم أًكرهه على الفشل.
شخص يسير مع صديق سوء. هذا الصديق السيء هو الذي سيعلمه الخمر أو المخدرات. ما الذي تتوقعه غير ذلك؟
هل صديق سوء سيأخذه إلى المسجد؟ هل صديق السوء سيهديه إلى حلقة تلاوة؟ لن يحدث هذا.
إذن ؛ علم الله سابق وليس سائق، وعلم الله لا يعرفه أنا ولا أنت.
إذاً، كيف ستحتج على الله بشيء أنت لا تعرفه؟ ولذلك من أضل الضلالة أن واحدًا لا يؤمن فيقول لك: “لو شاء ربنا أن أؤمن سأؤمن، لو شاء ربنا أن يهديني سيهديني، تماما كما قال المشركون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} (سورة الأنعام: الآية 107)”، ولكن أنتم فيكم رسول الله، ويُسمعكم آيات الله، ويدلكم على طريق الهداية والنجاح.
وكانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق وأنه لا يكذب ، لكنهم اختاروا الضلالة على الهدى. {اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (سورة فصلت: الآية 17).
وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا عندما قال الصحابة:
“يا رسول الله، إذا كان الأمر قد قُدر، ففيم العمل؟ قال: “اعملوا فكل ميسر لما خُلق له”. وتلا الآيات: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (سورة الليل: الآيات 5-10).
لو أنا ذاهب إلى مدينة في الشمال وسرت في الجنوب، فلن أصل أبدا!!
فالجنة على اليمين والنار على اليسار. لو أخذت اليسار وأقول أنا في طريق الجنة، فأنت كاذب، تكذب على نفسك.
العفو الإلهي والعدل
عندما نتحدث عن عفو الله وعدم المؤاخذة، نقول إن رب العالمين عندما يعفو، يعفو عن المعترف بخطئه، النادم، أوعن الناسي، أو المخطئ.
أما المعاند المستكبر المستعلي بكفره، هل يعفو عنه؟
إذاً الله سبحانه وتعالى لم يطلعنا على ما في علمه ومشيئته، وإنما بيّن لنا ما ما يجب علينا فعله.
فمن اختار راشدًا، مختارًا، عامدًا، لا يأتي ويلقي اللائمة على القضاء والقدر. فهذا احتجاج العاجز أو احتجاج الفاشل.
وصية جعفر الصادق:
يقول جعفر الصادق: “إن الله أراد فينا أشياء وأراد منا أشياء، فلو انشغلنا بما أراده منا عما أراده فينا لفلحنا”.
أراد فينا أشياء هي الحوادث التي تقع، وأراد منا أشياء هي التكليفات الشرعية، الحلال، والحرام، والطاعة، والمعصية، فانظر ماذا أراد الله منك، ودع المقادير تمضي حيث شاء الله عز وجل.
الخلاصة :
عندما تأخذ الطريق الصحيح: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (سورة الليل: الآيات 5-7).
وتجد عون الله ومدده: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ} (سورة يونس: الآية 9). أي بسبب إيمانهم.
أما الثاني: {وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (سورة الليل: الآيات 8-10) الله ييسر له العسرى لأنه سعى في طريقها؛ هذه هي سنن الله في الكون.
فرب العالمين لم يُلزم الله أحدًا بإيمان ولا كفر، لم يُلزم أحدا بطاعة أو معصية، ولذلك رب العالمين قال مطمئنًا عباده: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (سورة النساء: الآية 40).
نسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم والفهم والبصيرة، وأن يجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين. اللهم آمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.