
تكلمنا في الأسبوع الماضي عن الحصار الذي أقامته قريش على النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، والحصار الذي يتم الآن تحت سمع وبصر العالم في غزة.
واجهني أحد الإخوة بسؤال طوال الأسبوع وأنا أفكر في إجابته:
هل يأثم المسلمون بما يحدث من تجويع لأهل غزة؟ وكيف نبرئ ذمتنا أمام الله عز وجل في هذه المشاهد التي تطاردنا في كل ساعة في نشرات الأخبار المتوالية؟
أطفال رضع يموتون، رجال أصبحوا جلدًا على عظم، يتسابقون للحصول على كيلو من الطحين، وفوق كل هذا : الضربات الصاروخية والغارات التي تتم ليل نهار بلا توقف، فالموت يحاصرهم من كل مكان، فمن لم يمت بغارات الطيران مات من الجوع، ومن أراد أن يفر من مكان طارده الموت إلى مكان.
ذنب حبس قطة موجب للنار:
توقفت في هذا المشهد الذي حكاه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن امرأة دخلت النار في هرة، في قطة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
لم يذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم هل هذه القطة آذت هذه المرأة، هل أكلت شيئًا من طير تربيه أو آذت طفلًا لها أو ما شابه ذلك، ولم يخبرنا النبي هل هذه القطة ماتت من الجوع أم أن المرأة بعد أن حبستها أخرجتها.
أخبرنا النبي عن هذا المشهد أن ذنب الذين يعذبون الناس ويحاصرونهم ويجوعونهم ذنبًا عظيمًا عند الله.
وهذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما يرحم الله من عباده الرحماء”، وقال: “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”، وقال: “من لا يَرحم لا يُرحم”.
فما بالنا بالذي يحدث في غزة؟
ذنب حبس قطة موجب للنار، فما ذنب من يشارك أو يساهم أو يدعم حصار 2 مليون نسمة؟
ما ذنب من يشارك في زيادة المأساة والجوع الممنهج الذي نراه على مرأى ومسمع العالم؟
لما رأيت صور إخواننا في غزة، الصورة المشهورة لأحد المؤذنين، في غزة، والله يا إخواني منظر مبكٍ ومخجل، الرجل الستيني صار لحمًا على عظم.
تذكرت معه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع”.
بئس الضجيع لأنه يلازم صاحبه فيجعله ضعيف الحركة، يجعله كليلًا لا طاقة ولا قدرة له، يجعله يلازم الفراش.
ونقلت إلينا الشاشات رجلًا يقسم أنه ثلاثة أيام لم يأكل كسرة خبز، ورأينا ورأينا ورأينا مواقف مخزية ومخجلة ومفجعة تتم تحت سمع وبصر العالم، مما يجعلنا نسأل السؤال الذي بدأت به:
هل نحن محاسبون على ما يحدث من تجويع لأهل غزة؟ كيف نعذر إلى الله سبحانه وتعالى فيما يجري؟
أولًا/ لن يختلف اثنان على أن ما يحدث هو أزمة إنسانية على مستوى العالم، وكل من يسكت على هذه المشاهد أو يدعم بقاءها أو يستفيد من ورائها، كتجار الأزمات، فلا شك أن يداه منغمسة في هذا الإثم وهذه الكبيرة.
والنبي صلى الله عليه وسلم حدد لنا درجات إنكار المنكر، فقال: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.
“من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده”، وهذا في زماننا الآن غير متاح للأفراد، وإنما هي مهمة الحكومات والجهات المنظمة العاملة في هذا المجال، ليس لنا أي سلطان على دخول أو خروج أو فتح أو إغلاق، لأن بعض الناس الحالمين يعطون هذه الحلول الخيالية، يقولون: “أهل الأردن يذهبون إلى الحدود وأهل مصر يذهبون إلى رفح فينكسر الحصار وتنتهي المسألة”.
يا أخي ليس بهذه السهولة التي تتخيلها، ليس بهذه السهولة وأنا لست من النوع الذي يحب التهرب وتزيين الكلام، الواقع يبين لنا حجم الدعم الكبير من جميع الدول التي يسمونها دول الطوق لإخوانهم الصهاينة.
هل تظن أن هؤلاء سيسمحون بمجرد تجمع ولو عدة رجال وليس مجموعات كبيرة للتوجه إلى الحدود؟ هل تظن أن هذا سيحدث؟ هل تظن أن هذه الحركة سيُسمح لها أن تولد أصلًا؟ فلا داعي لأمور خيالية لا نستطيع تحقيقها ولا سبيل إلى تحقيقها.
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنكار المنكر ألا يترتب عليه منكر أشد، فليس من الحكمة أن ندعو الناس لحلول تُراق فيها دماء أكثر، وليس من الحكمة أن نقدم خطوة لا ينبني عليها كبير عمل، ثم بعد ذلك تُوأَد من مهدها.
تقدير المفسدة والمصلحة، وتقليل المفاسد وتكثير المصالح، وفعل أهون الشرين وأخف الضررين، هذا ما تعلمناه من نبينا صلى الله عليه وسلم.
نعم هناك مفسدة وهناك منكر، لكن نحتاج لفقه المآلات إنكار هذا المنكر بهذا الشكل ما عاقبته وما نتيجته؟
إذًا لا بد من الحكمة في الأمور ولا بد من بيان السلبيات والإيجابيات إلى آخره .
فالتغيير بهذا الوجه الحالم، إن لم تُعد له خطة وترتيب وإعداد، فلن نستطيع.
أنتم رأيتم المسيرة التي انطلقت من تونس منذ شهرًا تقريبًا أو شهرين كيف حاصروها في ليبيا ثم حاصروها في مصر ثم سلطوا على من بقي منهم بلطجية لضربهم والاعتداء عليهم ولم يصلوا.
إذًا لا بد من التفكير بإيجابية من خلال الموازنة بين المصالح والمفاسد وما يترتب على ذلك من أمور.
لا ندعو إلى حركات موتورَة أو حماسة بلا بصيرة كما يفعل البعض، إنما ندعو إلى أن نسلك كل الطرق المتاحة وهي كثيرة جدًا، والتي تؤدي كوسيلة من وسائل الضغط كما حدث خلال الأسبوعين الماضيين وهذا هو الذي أريد أن أنتقل إليه، أن نغير باللسان.
كيف نغير باللسان؟
أكرمنا الله تعالى بمنابر إعلامية الآن، وسائل التواصل انتشارها أصبح أكبر مما نتخيل.
الناس زمان كانت تحلم بمن يوصل صوتها إلى قناة من القنوات الفضائية أو صحيفة من الصحف.
الآن واحد يكتب سطرًا أو سطرين على منصة “إكس” مثلًا (تويتر سابقًا) يراها ملايين، ملايين على مستوى العالم، وواحد يقوم بعمل مقطع فيديو على “إنستغرام” أو غيره يشاهده ملايين.
أنا أقصد أن هذه الوسائل صارت سريعة الانتشار بشكل لا نتخيله ويتلقفها الناس في العالم كله.
الناس لم يعد عندها صبر لمشاهدة النشرة ساعة وساعتين وثلاثة، هذه المقاطع الصغيرة المركزة الموجزة منبر من المنابر المؤثرة إعلاميًا الآن، لماذا لا نشتغل عليها لنشر الوعي بالقضية من الجانب الإنساني وهو أمر لا ينكره أي أحد على مستوى العالم فيه بقية إنسانية.
فهذا تغيير باللسان، كل من عنده خبرة ولو قليلة في أن ينشر، في أن يدعم، في أن يتحرك إعلاميًا عبر هذه الوسائل، هذا من الإنكار، هذا من الإعذار إلى الله عز وجل.
فنتحرك في هذا المجال يا إخواني وهو مجال يؤتي أكله ويؤتي آثاره وضغوطاته.
عندنا أيضًا من ضمن التحركات المظاهرات التي تتم والمسيرات السلمية.
هذه المظاهرات تدعم وترفع الصوت عاليًا، “نحن ضد هذا المنكر، هذا التجويع، هذا الحصار، هذا القتل”.
طيب هي “لن تؤدي نتيجة”، هذا في ظنك! الكل يراقب، الإعلام يراقب، السياسيون يراقبون، المخابرات والأجهزة الأمنية يراقبون عبر العالم.
ما الذي يؤثر؟
مظاهرة في أستراليا حدثت الأسبوع الماضي، يتحدث عنها العالم أجمع، لماذا؟
لأنها مظاهرة تجاوزت مئة ألف، فهي تعد أكبر مظاهرة في تاريخ أستراليا،على جسر كبير في سيدني ؛ خرجت دعمًا لغزة ولكشف الحصار عن غزة.
هذه المظاهرة أقلقت الحكومة الإسرائيلية، وسارعت بالتعليق عليها، ونتج عنها السماح بدخول المساعدات، كذلك بعض الدول الأوروبية أرسلت طائراتها لإسقاط المساعدات إلى غزة.
احذروا المخذلين:
إذًا مسألة التخذيل الموجودة لدى البعض، “إيه المشكلة يعني؟ هل ستنصر غزة ببوست على الفيسبوك ولا على إكس؟ هل ستنصر غزة بمظاهرة فيها كم ألف؟” يا أخي كفاية تخذيل، أدِ دورك حسب استطاعتك وحسب طاقتك ولا تخذل من سعى بجهد قليل.
قديما المنافقون لما أتى بعض الصحابة بقليل من التمر صدقة، لمزوهم وقالوا: “ما هذا؟ هل هذا يطعم أحد؟” فالله تعالى أنزل قرآنًا يُتلى، قال: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة التوبة: 79].
احذر هؤلاء المخذلين ولا تكن واحدًا منهم، لا تقلل من أي جهد يصب في هذه القضية وفي نصرتها وفي دعمها وفي تخفيف الضغط عن إخواننا.
الحصار خلال الأسبوعين الماضيين كان 100%، كان محكم الحلقات، الآن المساعدات بدأت تدخل لا أقول 100% لكن أقول 20%، 30%.
إذًا نجحنا، إذًا نستمر، هذا ما نستطيع، هذه هي طاقتنا، هذا ما نعذر به إلى الله عز وجل.
فلا ينبغي أن نكون مخذلين، “إن لم تشارك في الحق فلا تصفق للباطل”.
السكوت عن المنكر جريمة:
سريعًا في مشهد في سورة الأعراف لقوم من اليهود، حرم الله عليهم العمل يوم السبت، تحايلوا على العمل يوم السبت وصيد السمك.
نهاهم بعض إخوانهم عن هذا الفعل وأنه يغضب الله.
جاءت طائفة المخذلين تقول لهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [سورة الأعراف: 164]. جاء الجواب: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [سورة الأعراف: 164].
“نعذر إلى الله يا رب، هذا جهدنا، هذا ما استطعناه، معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون”.
في سياق الآيات، رب العالمين أخبر أنه أهلك الواقعين في المنكر وأنجى الذين ينهون عن السوء وسكت عن المخذلين.
من العلماء من رأى أنهم هلكوا مع الهالكين، ومن العلماء من قال إن الله أهمل ذكرهم لأنهم لا قيمة لهم أصلًا.
قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة الأعراف: 165].
إذًا الإنكار باللسان ميدانه واسع، كل واحد منا على قدر جهده وطاقته وخبرته أن يكون عنده هم، يهتم ويبلغ ويدعم بكل السبل المتاحة في زماننا.
الهواتف في أيدي الجميع الآن، وسائل التواصل متاحة للجميع الآن، التأثير على هذه المنابر الإعلامية كبير جدًا.
التعليق على المواقع والشخصيات المؤثرة سياسيًا وإعلاميًا وثقافيًا إلى آخره كثيرة جدًا.
سهولة الوصول إلى كل هؤلاء لم يعد مستحيلًا.
إذًا ماذا لو أنا بحكم تخصصي أو خبرتي المتواضعة خصصت ساعة لغزة، لنصرة غزة، هذا من تغيير المنكر باللسان، إما بنشر المقاطع المؤثرة أو الأخبار أو ترجمة لبعض المقاطع للغات الحية الإنجليزية الفرنسية إلى آخره، حتى أكون بذلك أعذر إلى الله عز وجل.
وقد ذكرت في الأسبوع الماضي أن حركة كان الكثير يعدُّونها ساذجة لشاب مصري في هولندا قام بإغلاق السفارة المصرية بالقفل. والكثير قالوا : هذه حركة ساذجة، ماذا يفعل غلق السفارة؟ وما شأن مصر بهذه المسألة عند إسرائيل؟
فصارت عدوى في الخير، كل السفارات في العالم تُغلق تُغلق، فكان سببًا للتحرك، كان سببًا لفك الضغط والحصار.
إذًا فأنا أريد أن أقول: إياك أن تكون مخذلًا وإياك أن تحتقر جهدًا ولو ضعيفًا يصب في مصلحة مساعدة إخواننا بأي شكل كان.
ثم الإنكار بالقلب:
والإنكار بالقلب أن يطلع الله على قلبك أنك كاره لما يحدث ومنكِر لما يحدث، وأنك لا تملك شيئًا تجاه تغييرما يحدث.
النبي قال: “وذلك أضعف الإيمان”، فالمخذلون والمستهزئون والمنكرون، سواء بثوب ديني ولحية طويلة كما يحدث من “صهاينة المشايخ”، أو كان ببدلة وكرافات من “صهاينة الساسة العرب”، أو كان في شكل مذيع في نشرة إخبارية أو مؤثر في موقع من مواقع التواصل، كل هؤلاء الرسول قال: “وليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل”، في رواية الإمام مسلم.
فلا بد أن يكون لي موقف، لا بد أن يكون لي شعور تجاه ما يحدث.
والذي يحدث أقسم بالله أمر يفوق التصور البشري والوعي والإدراك.
ولا أدري كيف يسجل التاريخ أن مجاعة تحدث في هذه البقعة عن عمد على مستوى العالم، والعالم يتفرج ويشارك ويدعم ويساهم فيها! هذا كلام والله لا أحد يستطيع أن يتخيله، لكن نبذل ما في وسعنا لنعذر إلى الله عز وجل.
التغيير باللسان متاح، الدعم، المقاطعة الاقتصادية، أن نفعل كل جهد يصب في اتجاه التخفيف عن إخواننا والتخفيف عن الحصار. الإنفاق والدعم المالي: هيئات الإغاثة موجودة ومنتشرة، موجودة على الأرض، ولهم قدرة على الدخول بالمساعدات من حين لآخر، ليس كما نرجو ونتمنى، لكن يحدث.
فابذل جهدك واستطاعتك لتعذر إلى الله سبحانه وتعالى.
من بذل جهده وما في وسعه ابتغاء وجه الله وليخفف عن إخوانه، فاللهم لك الحمد.
أما من قعد متفرجًا لا يفعل شيئًا، أو من قام مخذلًا يحتقر كل جهد وكل حركة أو عمل في سبيل التخفيف عن إخواننا، فهذا كما قال النبي: “وليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل”.
***************
اللهم يا كاشف الغم، اللهم يا مجيب دعوة المضطر،
يا سامعًا لكل نجوى، يا كاشفًا للضر والبلوى،
يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، يا ذا الجلال والإكرام،
يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أغث إخواننا المستضعفين في غزة،
اللهم أغث إخواننا المحاصرين في غزة،
اللهم أنزل عليهم رحمتك، اللهم أنزل عليهم سكينتك،
اللهم غشهم بلطفك،اللهم اجعلهم من أهل العافية،
اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم،
اللهم أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف،
اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم،
ونعوذ بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم.
اللهم انصرهم وأنت خير الناصرين،
اللهم احفظهم بحفظك وأنت خير الحافظين،
اللهم اشف مرضاهم وداوِ جرحاهم وأطعم جائعهم
وآوِ مشردهم وآمن خائفهم واجعل لهم فرجًا مما هم فيه
برحمتك يا أرحم الراحمين.
أنت حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير