
تكلمنا في الخطبة الماضية عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا”.
ويأتي هنا سؤال تتمة لهذا الحديث المبارك:
كيف يرضى الله عني؟ وما علامات رضا الله عن العبد؟
رضا الله هدف من أعظم الأهداف، وغاية من أعظم الغايات، رضا الله عز وجل هو الفوز الأكبر كما قال تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (سورة التوبة: 72)، فلا أعظم ولا أفلح ولا أنجح من الفوز برضا الله سبحانه وتعالى.
كثير منا له أهداف، لكن الأهداف الدنيوية تنتهي بانتهاء الدنيا…فالبعض يبحث عن الشهادات العلمية، أوعن المكانة، أو يتطلع لسداد الديون، وسعة الرزق، ونجاح التجارة، إلى آخر هذا.
لكن هذا كله سينتهي بخروجك من هذه الدنيا، فلا ينفع لا أموال ولا شهادات ولا أي شيء.
هذا سعي، أما الباقي فهو أن تفوز في هذه الدنيا برضا الله سبحانه وتعالى.
ما أطيبها من كلمات حينما تقرأ قول الله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )(سورة المائدة: 119).
كيف يرضى الله عني؟
1- التوحيد والإخلاص:
الله تعالى يرضى بأن تخلص العبادة كلها لله، أكبر ذنب هو الشرك بالله عز وجل.
لما سئل النبي أي الذنب أعظم قال: “أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك”؟
الله هو الذي خلق، هو الذي رزق، ثم بعد ذلك تعبد غيره؟ فهذا من أعظم الذنوب.
ثم يليه الشرك الأصغر، وهو الرياء، أن تقوم بعمل العبادة ابتغاء وجه الناس، فيكون كل هدفك أن يرضى الناس عنك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما المؤمن الراضي عن الله فإنه يتوجه بكليته إلى الله، إلى الله وحده.
قال تعالى: (وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى) (سورة الليل: 19 – 20)، وقال: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (سورة الحشر: 8).
فأول طريق لنيل رضا الله أن تُخلص لله في كل عملك، وجهتك إرضاء الله، قال تعالى ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ) (سورة الأنعام: 162 – 163).
هذه هي وجهة المسلم في كل أعماله، يبتغي وجه الله، يتحرك لإرضاء الله، يغضب لإرضاء الله، يرضى لما رضي الله.
وهذا الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أحبَّ لله، وأبغضَ لله، وأعطى لله، ومنعَ لله، فقد استكمل الإيمان”.
الهدف الذي تنطلق منه: حبٌّ في الله وبغضٌ في الله، تعطي لله، تمنع لله، هذه هي البوصلة التي بها تتحرك: إرضاء الله عز وجل في كل أهدافك، في كل غاياتك، في كل نياتك.
والله سبحانه وتعالى قال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) (سورة الزمر: 29). والمعنى: أن عندنا عبد لمجموعة من السادة، كل سيد يأمر بشيء: افعل، لا تفعل، تعالى، تحرك يمين، شمال. عنده تنازع، لا يعرف من يرضي ومن يسخط، إذا رضي هذا سخط هذا.
وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ يعني عبد لسيد واحد.
أيهم أهدأ بالًا؟
العبد الذي يسمع ويطيع لسيد واحد.
فالإسلام جمع لنا الهموم فجعلها همًّا واحدًا، وجمع لنا الغايات فجعلها غاية واحدة هي إرضاء الله عز وجل.
أنت ترضي الله وحده، رضي الناس سخط الناس، مدح الناس ذم الناس، أنت ترضي الله عز وجل وحده.
فهذا أول باب من أبواب الرضا.
2- الإيمان والعمل الصالح:
نقرا دائمًا في آيات القرآن: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ثم بعد بيان العاقبة: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) مثال سورة البينة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(سورة البينة: 7 – 8).
لماذا رضي الله عنهم ورضوا عنه؟
لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات.
فمن أسباب نيل رضا الله: الإيمان والعمل الصالح، وفي المقابل أن تترك ما نهى الله عنه، فأوامر الله ترضاها فتعملها، ونواهي الله لا تقربها. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات رضي الله عنهم بإيمانهم وعملهم الصالح لما بذلوا وقدموا لله عز وجل.
3-الرضا بقضاء الله وقدره:
- أن تخلص لله، فلا شرك ولا رياء.
- أن تطيع الله فيما أمر، وتنتهي عما نهى. آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
- أن ترضى بقضاء الله عز وجل وقدره، خيرًا كان أو شرًّا، في النعماء شاكر، وعند البلاء صابر.
ما علامات رضا الله عني؟
كيف أعرف أن الله راض عني؟
أول علامة: التلهف لطاعته:
عندك شوق لله ولطاعة الله ولأمر الله عز وجل، لا تجد ثقلًا في العبادة.
الله عز وجل تكلم عن المنافقين: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (سورة التوبة: 54).
فالمنافق -نعوذ بالله- همته لا تتحرك إلا في سبيل الدنيا، همته تتحرك عند المنفعة.
طيب طاعة الله بالنسبة له ليس فيها منفعة، فهو إذا جاء إلى الصلاة جاء كسلانًا؛ لأنه يراها عبئًا، وإذا انفق رأى النفقة غرامة. هؤلاء لا يحبهم الله ولا يحب أن يراهم في صفوف المطيعين. قال جل شأنه: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (سورة التوبة: 46).
التوفيق أن يوفقك الله لعبادته، أن يحبب الله إليك العبادة، أن يزين الله لك العبادة.
- “وجعلت قرة عيني في الصلاة”،
- “أرحنا بها يا بلال”.
- رجل قلبه معلق بالمساجد.
أما المنافق فهو يرى أن النفقة غرامة، أن الصلاة التزام غير محدود، أن التعفف عن الحرام ربما يكون فيه خسارة، إلى آخر هذه الحجج والعلل التي تكلم الله عنها: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (سورة محمد: 28).
اتبعوا ما أسخط الله، يعني المعاصي والذنوب والكبائر، عداوة الله ورسوله، وكرهوا رضوان الله.
هل هناك من يكره رضوان الله؟ نعم، هؤلاء المنافقين.
إذًا، فأول علامة: الشوق لعبادة الله عز وجل.
العلامة الثانية: العزة:
العزة في هذه الدنيا من الصفات التي ينبغي أن يتصف بها المسلم؛ لأني لا أُرضي إلا الله، لست حريصًا على إرضاء الناس، أنا أُعامل الناس بالحسنى كما تعلمت من ديني، لكن أُرضي الله عز وجل.
لست منافقًا ولا متلونًا ولا من النوع الذي يتقي شر ذوي المال أو ذوي السلطان، وأسعى: أهون ما عندي ديني، وأبيع ديني بعرض من الدنيا، نسأل الله العافية.
أغلى ما عندي ديني، رزقي وحياتي وروحي بيد من خلقني.
إذًا، فأنا عزيز بالله. الراضي عن الله عز وجل عنده توازن في حركة الحياة، يرى كل شيء يصيبه من خير أو شر هو من قدر الله، وهو مأجور في الخير، ومحتسب فيما يقع من بلاء.
قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (سورة البقرة: 155 – 157).
الراضي عن الله آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر؛ لأن عنده غيرة على حدود الله وعلى محارم الله عز وجل، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قدر ما يستطيع، لا يترك لله مقالًا في مكان أو في موقف إلا ويقول، لا يستحي ولا يُحرج ولا يُؤخر، إنما يقولها لله، إرضاء لله عز وجل، كلمة يبتغي بها وجه الله.
العلامة الثالثة: كثرة ذكره:
فمن أحب شيئًا أكثر من ذكره.
وذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله في الفوائد :
أن العبد يستطيع أن يتلمس أثر حب الله في قلبه في مواطن عديدة منها:
“الموطن الأول : عند أخذ المضجع حيث لا ينام إلا على ذكر من يحبه وشغل قلبه به.
الموطن الثاني : عند انتباهه من النوم ، فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه.
الموطن الثالث : عند دخوله في الصلاة ، فإنها محكُ الأحوال وميزان الإيمان … فلا شيء أهم عند المؤمن من الصلاة ، كأنه في سجن وغمّ حتى تحضر الصلاة ، فتجد قلبه قد انفسح وانشرح واستراح ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال : “أرحنا بها يا بلال“.
الموطن الرابع : عند الشدائد والأهوال ، فإن القلب في هذا الموطن لا يذكر إلا أحب الأشياء إليه ولا يهرب إلا إلى محبوبه الأعظم عنده” .
إذًا هذه أربع مواطن، إذا كنت يجري على لسانك ذكر الله تعالى فيها، فهذا من علامات حبك لله سبحانه وتعالى.
نسأل الله العظيم الكريم جل وعلا أن يرضى عنا وأن يتوفنا وهو راض عنا، وأن يجعلنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم. اللهم آمين.
د.خالد الطويل
جزاك الله خير الجزاء معالى الاستاذ الدكتور حسين
abojannah
رضي الله عنك وبارك فيك