(6) مع قوله تعالى “أفعيينا بالخلق الأول “

ثم يقول ابن القيم: ثم عاد سبحانه إلى تقرير المعاد بقوله {أفعيينا بالخلق الأول} يقال لكل من عجز عن شيء عيي به وعيي فلان بهذا الأمر قال الشاعر:
عيوا بأمرهم كما … عييت ببيضتها الحمامة
ومنه قوله تعالى {ولم يعي بخلقهن} قال ابن عباس يريد أفعجزنا وكذلك قال مقاتل قلت هذا تفسير بلازم اللفظة وحقيقتها أعم من ذلك فان العرب تقول أعياني أن أعرف كذا وعييت به إذا لم تهتد له لوجهه ولم تقدر على معرفته وتحصيله فتقول أعياني دواؤك إذا لم تهتد ولم تقف عليه ولازم هذا المعنى العجز عنه والبيت الذي استشهدوا به شاهد لهذا المعنى فان الحمامة لم تعجز عن بيضتها ولكن أعياها إذا أرادت أن تبيض أين ترمي بالبيضة فهي تدور وتجول حتى ترمي بها فإذا باضت أعياها أين تحفظها وتودعها حتى لا تنال فهي تنقلها من مكان إلى مكان وتحار أين تجعل مقرها كما هو حال من عي بأمره فلم يدر من أين يقصد له ومن أين يأتيه وليس المراد بالإعياء في هذه الآية التعب كما يظنه من لم يعرف تفسير القرآن بل هذا المعنى هو الذي نفاه سبحانه عن نفسه في آخر السورة بقوله {وما مسنا من لغوب}
شرح الفائدة
تقرير عقيدة البعث والنشور
ثم عاد سبحانه وتعالى إلى تقرير المعاد بقوله: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ﴾ [ق: 15] يعني بعد ما بين قدرته سبحانه وتعالى على إحياء الأرض بعد موتها وما أنعم به علينا في هذا الكون من خلق السماوات والأرض وما بث فيها من دواب وما أنعم علينا فيه من نعم الأطعمة والخضروات والفاكهة ومختلفة الأصناف والطعوم إلى آخر ذلك بين أنه كذلك الخروج هذا برهان على قدرة الله عز وجل على إحياء الموتى كذلك الخروج كما أحيينا الأرض بعد موتها سنحييكم بعد موتكم، وهذا البرهان الأول.
البرهان الثاني: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ۚ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: 15]. أعياه الشيء تأتي بمعنيين في اللغة العربية:
- أعياه بمعنى أعجزه، ونقول أعيته الحيلة يعني لم يهتدِ إلى حل لمشكلته
- وأعياه بمعنى لم يهتدِ إليه.
يقول ابن القيم: “يقال لكل من عجز عن شيء عيَّ به وعيَّ فلان بهذا الأمر” قال الشاعر: عيوا بأمرهم كما … عيت ببيضتها الحمامة
الحمامة لما تريد أن تبيض تبقى حيرانة لا تعرف أين تبيض؟ فيقال: عيت ببيضتها الحمامة يعني لا تهتدي إلى مكان تضع فيه بيضها.
يقول ابن القيم: ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أنّهم (فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أَي أَنهم الْتبس عَلَيْهِم إِعَادَة الْخلق خلقا جَدِيدا.
ثمَّ نبههم على مَا هُوَ من أعظم آيَات قدرته وشواهد ربوبيّته وأدلّة الْمعَاد وَهُوَ خلق الْإِنْسَان فَإِنَّهُ من أعظم الْأَدِلَّة على التَّوْحِيد والمعاد وَأي دَلِيل أوضح من تركيب هَذِه الصُّورَة الآدميّة بأعضائها وقواها وصفاتها وَمَا فِيهَا من اللَّحْم والعظم وَالْعُرُوق والأعصاب والرباطات والمنافذ والآلات والعلوم والإرادات والصناعات كل ذَلِك من نُطْفَة مَاء فَلَو أنصف العَبْد ربه لاكتفى بفكره فِي نَفسه وَاسْتدلَّ بِوُجُودِهِ على جَمِيع مَا أخْبرت بِهِ الرُّسُل عَن الله وأسمائه وَصِفَاته
يقول تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ يعني عندهم حالة من التخبط وعدم الوصول إلى هدى في أن يؤمنوا أن الله قادر على أن يبعث الناس من قبورهم بل هم في لبس من خلق جديد عقلياً عندهم استحالة لكنهم لو آمنوا بالله وقدرته لصدقوا أنه قادر على البعث.
والله عز وجل قرب إلى الأذهان مسألة البعث أيهما أصعب؟ وليس على الله سهل وصعب كله على الله هين إنما هذا لتقريب المعنى أيهما أصعب أن يخلق الشيء من العدم أو أن يعيده مرة أخرى؟
من المؤكد أن إعادة الخلق أسهل من إنشائه من العدم هذا يقولون عليه بالمقياس العقلي إذا كان الأمر في إيجاده سهلاً فإعادته أسهل ولذلك قال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: 27] أهون عليه يعني أيسر عليه وإن كان الكل سهل يسير على الله لا يعجزه شيء لكن هذا برهان من البراهين التي يسوقها الله دلالة على إحياء الموتى.
المقصود من هذا أن الله تعالى هو الذي خلق من العدم، وأمات من حياة، إذن فهو قادر على أن يحيي الإنسان بعد موته وليس قادراً فقط بل قادر وعالم من أين يخرجه وقادر على تسويته وإعادته إلى خلقته وهيئته الأولى كما في الآية الأخرى: ﴿بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ [القيامة: 4].
ويعلم سبحانه وتعالى كيف يحشر الناس؟ وكيف يساقون؟ وأين سيكون موقفهم يوم العرض على الله سبحانه وتعالى؟ وكيف يكون الحساب والجنة والنار؟
والمقصود هنا أن كل شيء مقدر ومحسوب عند الله لا يعييه الله تعالى ذلك؛ فلا يعييه لا الخلق الأول ولا إعادة هذا الخلق.
مناظرة مع ملحد حول الخلق:
كان أحد المشايخ يحاور رجلاً ملحدًا، فقال الملحد: لا يوجد إله والكون وجد هكذا. فقال له الشيخ: هذا مستحيل؛ فمن خلق هذا الكون؟ إن كل مخلوق لا بدّ له من خالق.
فقال الملحد: أنا أستطيع أن أخلق!
فقال له الشيخ: وكيف ذلك؟
قال: هذه قطعة اللحم سأضعها في هذه العلبة، وبعد ثلاثة أيام سترى خَلقي، وما الذي خلقتُه.
وبعد ثلاثة أيام إذا باللحم قد عَفَنَ، وانتَن، وظهرت فيه الديدان. فجاء الملحد بالعلبة، وقد امتلأت بالدود، وقال للشيخ: أرأيتَ ما خلقت؟
فقال له الشيخ: أأنت خلقتَ هؤلاء كلهم؟
قال: نعم.
قال: وكم عددهم؟
قال: لا أدري.
فقال له الشيخ: لكن ربي يعلم من خلق، ويعلم عدد خلقه، ويعلم من منهم ذكر ومن منهم أنثى، ويعلم حياتهم وموتهم، ورزقهم ومستقرهم ومستودعهم.
كل شيء عند الله سبحانه وتعالى مُفصّل معلوم، لم يخلقنا ثم يتركنا، حاشا لله عز وجل، وإذا أماتنا، فإنه يعلم ما تنقص الأرض منا، وكيف نتحلّل، وأين ومتى يكون ذلك. ثم إذا أعادنا، يسوقنا إلى أرض المحشر، ويكون هناك البعث والجزاء والنشور.
إذن لا يوجد عجز عند الله سبحانه وتعالى، ولا حيرة، ولا عدم اهتداء؛ جلّ ربنا عن ذلك؛ إنما هو سبحانه يفعل كل شيء بحكمة، ويقضي كل شيء بحكمة، سبحانه وتعالى.
الاستدلال بخلق الإنسان ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ﴾
ثم أخبر سبحانه وتعالى أنهم في لبس من خلق جديد أي أنهم التبس عليهم إعادة الخلق خلقاً جديداً ثم نبههم على ما هو أعظم آيات قدرته وشواهد ربوبيته وأدلة المعاد وهو خلق الإنسان فإنه من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد.
يقول: الإنسان صنعة الله سبحانه وتعالى وهو دالّ على عظمته وقدرته جل وعلا
يعني: أن الإنسان بما فيه من إحكام الصنع، ودقة التكوين، وكمال الخِلقة، هو دليل باهر على قدرة الخالق سبحانه، كما يدل كلُّ صنعٍ متقنٍ على براعة صانعه.
فإذا خلق الله الإنسان بهذه الهيئة وهذه الكيفية ويسّر له حياته ومعاشه وسعيه وأرزاقه
أي: أن الله تعالى أوجد الإنسان على صورة كاملة:
- أعطاه الجسد المتناسق
- وركّب فيه الحواس
- وهيّأ له الأرض
- ويسّر له الرزق
- وعلّمه السعي ووجوه الانتفاع
وهذا كله عناية عظيمة من الله بالإنسان.
ما الذي جعل عقولكم تستبعد أنه قادر على إحيائه بعد موته؟
استفهام للتوبيخ: كيف تعجب عقول بعض الناس من إحياء الله للناس بعد موتهم، مع أن الذي خلقهم أول مرة من العدم قادر على إعادتهم؟
فالإحياء الثاني ليس أعجب من الإحياء الأول.
وأي دليل أوضح من تركيب الصورة الآدمية بأعضائها وقواها وصفاتها
أي: يكفيك دليلاً على قدرة الله أن تنظر إلى تكوين الإنسان:
- تكامل أعضائه
- تناسق حواسه
- القوى التي أودعها الله فيه (كالسمع والبصر والعقل والإرادة)
- صفاته التي تميّزه عن سائر الخلق
فهذا التكوين وحده آية كبرى.
وما فيها من اللحم والعظم والعروق والأعصاب والرباطات والمنافذ والآلات
هذه تفصيلات دقيقة لخلق الإنسان: لحم وعظم، وعروق تجري فيها الدماء، وأعصاب تربط المحسوسات بالعقل، وأربطة تُمسك العظام، ومنافذ للهواء والغذاء والفضلات، وآلات: أي أعضاء تؤدي وظائف محدّدة، كالقلب والرئتين والكبد والكلى…كل هذا البناء المحكم من أين جاء؟ كما قال بعض العلماء نظرك فيك يكفيك.
كم تكون فاتورة نعمة التبول؟
رجـل بلغ من العمـر سبعين عـاما ،عـانى من مشكلة عـدم التبـول لعدة أيام ،
وبعد ازديـاد الألم زار طبيـب وأقتـرح عليـه أن يعمل عمليـة في المثـانة ، ووافق الرجـل على الفـور للتخـلص من الألم الكبير الناتج عن احتباس البول …
وبعد نجـاح العمليـة حضـر الدكتـور إلى المريـض وأعطاه بعض الأدوية وكتـب له الخـروج مع فـاتـورة المستشفى ، وعندمـا نظـر لها الرجـل بدأ في البكـاء..
فقـال له الطبيب: إذا كانت الفـاتورة باهظـة السعـر عليـك فمن الممكن أن نعمـل لك تخفيـض ينـاسبك !!!
قـال الرجـل: ليس هذا ما يبكيني؛ ما يبكيني هو أن الله أعطاني نعمـة التبـول سبعين عـام ولم يرسـل لي فـاتورة مقـابل ذلـك !!!
والعلوم والإرادات والصناعات
ليس الجسد فقط دليلاً على القدرة، بل ما أودعه الله في الإنسان من: علوم ومعارف، وإرادة وتمييز واختيار، وقدرة على التعلم والصناعة والاختراع، وهذا مما يعجز البشر عن تفسيره لولا قدرة الله.
كل ذلك من نطفة ماء
هذا هو موضع العجب: كل هذا التكوين العظيم، بجسده وأجهزته وقدراته العقلية، أصله قطرة ماء مهينة لا شكل فيها ولا حياة.
فإذا كان الله قد أخرج هذا الخلق العظيم من تلك النطفة الضعيفة، فكيف يُستبعد عليه أن يعيده مرة أخرى؟
يقول: فَلَو أنصف العَبْد ربه لاكتفى بفكره فِي نَفسه وَاسْتدلَّ بِوُجُودِهِ على جَمِيع مَا أخْبرت بِهِ الرُّسُل عَن الله وأسمائه وَصِفَاته
لو كان العبد عادلاً ومنصفًا في تفكيره تجاه ربه، أي لو لم يكن متأثرًا بالشهوات أو الجهل أو التهاون، بل استخدم عقله في النظر إلى وجود الله وأعماله.
“لاكتفى بفكره فِي نَفسه“أي: لا يحتاج إلى دليل خارجي من النوع المادي أو المعجزات، بل يكفيه استخدام عقله وفكره المتأمل في نفسه وما حوله؛ أي أن التأمل في النفس البشرية وما فيها من قدرات وتعقيد يكفي لفهم وجود الله وقدرته.
وَاسْتدلَّ بِوُجُودِهِ على جَمِيع مَا أخْبرت بِهِ الرُّسُل عَن الله وأسمائه وَصِفَاته“
يعني: من تأمل وجوده، ونظر إلى ذاته وعقلها وقدراتها وصفاتها، وجد فيها أدلة على ما أخبرت به الرسل عن الله من وجوده وكماله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى فيمكن للعبد أن يعرف أن الله: خالق، عليم، قدير، حكيم، رحيم… أي معرفة الله بأسمائه الحسنى وصفاته، حتى قبل أي دليل شرعي خارجي.
يقول ابن القيم: ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ عَن إحاطة علمه بِهِ حَتَّى علم وساوس نَفسه ثمَّ أخبر عَن قربه إِلَيْهِ بِالْعلمِ والإحاطة وَأَن ذَلِك أدنى إِلَيْهِ من الْعرق الَّذِي هُوَ دَاخل بدنه فَهُوَ أقرب إِلَيْهِ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالْعلم بِهِ من ذَلِك الْعرق وَقَالَ شَيخنَا المُرَاد بقول نَحن أَي ملائكتنا كَمَا قَالَ (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قرآنه( أَي إِذا قَرَأَهُ عَلَيْك رَسُولنَا جِبْرِيل قَالَ وَيدل عَلَيْهِ قَوْله (إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان) فقيد الْقرب الْمَذْكُور بتلقّي الْملكَيْنِ وَلَو كَانَ المُرَاد بِهِ قرب الذَّات لم يتَقَيَّد بِوَقْت تلقي الْملكَيْنِ فَلَا حجة في الْآيَة لحلولي وَلَا معطّل
ثم أخبر سبحانه عن إحاطة علمه به حتى علم ما توسوس به نفسه، فالله تعالى عالم بالعبد علمًا تامًا، لا يغيب عنه شيء، حتى الخواطر والوساوس الدقيقة في النفس البشرية؛ أي أن العلم الإلهي شامل لكل ما في الإنسان من نوايا، أفكار، وساوس، حتى ما قد يختفي عن العبد نفسه، وهذا دليل على الكمال المطلق في العلم الإلهي، فلا يخفى عليه شيء.
فَهُوَ أقرب إِلَيْهِ بِالْقُدْرَة عَلَيْهِ وَالْعلم بِهِ من ذَلِك الْعرق
أي: كل ما في الإنسان من أمور دقيقة، الله أعلم بها وأقدر على إدارتها، وهذا دليل على قربه من العبد بحكم القدرة والعلم.
وَقَالَ شَيخنَا المُرَاد بقول نَحن أَي ملائكتنا كَمَا قَالَ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قرآنه}“
وقال شيخنا [1]: أي ملائكتنا كما قال: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 18] والمراد هنا جبريل لما كان ينزل بالآيات على الرسول صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قوله: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ﴾ [ق: 17] فقيد القرب المذكور بتلقي الملكين
خلونا نوضحها الآية تقول: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ هي لها تفسيران: التفسير الأول ونحن المتكلم هو الله هنا هو الله عز وجل وجاء بضمير الجمع دلالة على عظمة الله وقدرته.
والشيخ الشعراوي رحمه الله عليه كان له لفتة جميلة في تفسير سورة القدر قال: وسبب ذكر الله تعالى نفسه بضمير الجمع الدال على العظمة (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ) لأن إنزال القرآن دال على صفات عديدة لله منها القدرة والعلم والحكمة والرحمة فالفعل إذا دل على مجموعة من الصفات جاء بصيغة الجمع كقوله ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، لكن إذا تكلم الله عن ذاته جل في علاه جاء الكلام على صيغة الإفراد كما في قوله (إنني أنا الله) فلم يقل نحن الله لأن ذاته جل جلاله واحدة.
ونفس المعنى هنا ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ قرب الله عز وجل هنا من العبد قرب قدرة وعلم؛ فهو عليم يعلم أين أنت وعلمه محيط فهو وقادر أن ينزل بك ما يشاء فإذا أراد الله أمراً في عبد من عباده فعلمه محيط فهو العليم بنا ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 115] لا يخفى عليه شيء من خلقه وهو قادر علينا.
إذن هنا هذا القرب الذي فسره السلف قرب القدرة والعلم.
والقرب نوعان:
الأول: قرب العلم والقدرة وهذا لجميع الخلق أن الله تعالى يعلم خلقه جميعاً وهو قادر عليهم.
القرب الثاني: قرب المكانة أن يكون لك مكانة عند الله سبحانه وتعالى وقد جاءت الأدلة بأن الله قريب من عباده في ثلاثة أحوال:
- عند الدعاء: حينما يدعونه كما في الآية ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 186] فمجرد قولك: يا رب الله قريب منك يسمعك لا تحتاج أن تصرخ يا رب يا رب، ولما ظن الصحابة ذلك قال الرسول لهم: “ارْبَعُوا علَى أنْفُسِكُمْ؛ إنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولَا غَائِبًا، إنَّما تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا، إنَّ الذي تَدْعُونَ أقْرَبُ إلى أحَدِكُمْ مِن عُنُقِ رَاحِلَتِهِ“.
فالله تعالى أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته والقرب هنا قرب الله من الداعي إذا دعا.
- عند الذكر: الذاكرين الله عز وجل قال في الحديث القدسي: “أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه
- عند السجود: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا فيه من الدعاء“ هذا ما ورد في القرب الخاص.
فأنت حينما تقول أنا قريب من الله يعني أنا أطيع الله عز وجل واستشعر معنى القرب من الله.
ونقول هذا شخص بعيد عن الله أي بعيد عن الهداية والطاعة وطريق الاستقامة.
يقول: فَلَا حجة في الْآيَة لحلولي وَلَا معطّل
فالآية لا تفيد حلول الله في خلقه، ولا تدل على تعطيل صفاته.
ومعنى حلولي نسبة إلى الذين قالوا أن الله يحلّ في خلقه أو يمتزج بالمخلوقات، مثل: ابن عربي والحلاج كان يقول: ما في الجبة إلا الله، وأن الله حل في وأنا حليت في ربنا، وكان أحدهم يقول سبحاني؛ أي كأن الله جزء من الكون أو يحل في مخلوقاته ويتحد بهم تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ويُعتبر هذا المذهب مُنحرفًا عن عقيدة أهل السنة ومعتقده كافر، لأنه يتعارض مع عقيدة التنزيه التي تؤكد أن الله مُباين لخلقه (أي منفصل عنهم)، وأنه ليس كمثله شيء.
والمعطّلة: الذين ينفون أو يلغون صفات الله التي أثبتها لنفسه في القرآن الكريم والسنة النبوية، كالسمع، والبصر، واليد، والوجه، والاستواء على العرش، وغيرها، بحجة التنزيه المطلق، وتعد الجهمية والمُعتزلة من أبرز الفِرق التي وُصفت بالتعطيل، حيث ذهبوا إلى أن إثبات الصفات الأزلية لله (كالقدرة، والعلم، والإرادة) يؤدي إلى تعدد القدماء مع الله، فعطّلوا الصفات وأولوها إلى ذات الله (فقالوا: هو عالم بذاته وقادر بذاته، لا بعلم وقدرة قديمين، وقالوا: سميع بلا سمع بصير بلا بصر) وهذا كلام مضطرب وفهم أعوج.
وأهل السنة والجماعة يرفضون التعطيل، ويُثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، مع نفي التشبيه والتكييف.
إذن القرب نوعان:
- قرب الله تعالى العام: بمعنى علمه وقدرته سبحانه وتعالى، وهذا في جميع الخلق.
- وقرب الخلق من الله عز وجل وهذا ورد في النصوص قربه من الداعي وقربه من الذاكر وقربه من الساجد؛ فهذا قرب خاص بمعنى القرب في المكانة أنت قريب من الله يعني لك مكانة عند الله فلازم قربك أن يسمع الله لدعائك فيجيبك لازم قربك في الذكر أن تشعر بالأنس بالله والسكينة وتذهب عنك الوحشة وهكذا
فالآية ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ لها تفسيران:
التفسير الأول: أن المعنى المقصود هو الله عز وجل أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد بعلمه وقدرته.
المعنى الثاني ونحن أقرب إليه من حبل الوريد أي ملائكة الله عز وجل ونسب الفعل إلى الله لأنهم جنود الله ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31]. فالملائكة جنود الله، مثل: ولله المثل الأعلى الملك أو السلطان يأمر بأمر فيقول أمرنا نحن بكذا باعتباره أنه يمثل دولة لها جهاز ورئاسة ومستشارين ومعاونين وجنود وكذا فالأمر هنا جاء بالصيغة الجمعية لأنه لا يتكلم عن نفسه هو إنما يتكلم عن الدولة التي يحمل عنوانها أو رئاستها.
ولله المثل الأعلى فالله تعالى عندما يقول: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) فسرها ابن تيمية كما ذكر ابن القيم بملائكتنا أي ملائكتنا أقرب إليه أقدرهم الله تعالى عليه لقبض روحه.
رقابة الملائكة وكتابة الأعمال
يقول ابن القيم: ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَن على يَمِينه وشماله ملكَيْنِ يكتبان أَعماله وأقواله وَنبهَ بإحصاء الْأَقْوَال وكتابتها على كِتَابَة الْأَعْمَال الَّتِي هِيَ أقل وقوعا وَأعظم أثرا من الْأَقْوَال وَهِي غايات الْأَقْوَال ونهايتها.
يشير إلى قوله تعالى : ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] هل الأفعال أيضا تكتب أم لا؟
كلمة من قول يعني وإن دق وصغر حتى ولو كان قولاً صغيراً كده الملائكة ترصده وتكتبه فعبر عن الشيء الصغير للدلالة على رصد الكبير من باب أولى يعني إذا كان ما يصدر عن العبد من قول أي قول يصدر عنه يسجل؛ فمن باب أولى أن يسجل كل فعل؛ فنبه على كتابة الصغير إشارة إلى أنه من باب أولى أن يكتب الكبير قال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49] فإذا كانت الكلمة الصغيرة تكتب فمن باب أولى الأفعال الكبيرة
ومن باب الفائدة هناك قول ثان في الآية الكريمة: وهو أن العرب أحياناً تعبر عن الفعل بالقول مثلاً:
في بعض روايات الحديث يقول “فقال بيده هكذا” واليد لا تتكلم فالإشارة هنا معبرة يعني اذهب مثلاً، وغمز بعينه؛ فقال بعينه هكذا أي لما غمز فهذه إشارة إلى فعل الاستهزاء أو وقف الجدال مع هذا الشخص….
فأفعال الجوارح تنزل منزلة الأقوال فمعنى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] أي سواء كان قولاً باللسان أو قولاً بالجوارح وهي الأفعال المعبرة عن أقوال؛ الجميع يرصد ويدون.
[1] المراد ابن تيمية لأن هو شيخه في هذا الوقت.