أسباب اختلاف الفقهاء ونشأة المذاهب الفقهية

تاريخ الإضافة 7 أكتوبر, 2023 الزيارات : 11085
أسباب اختلاف الفقهاء
 
ما هو علم الفقه ؟
عَرَّف الفقهاءُ علمَ الفقه لغة بأنه :الفهم الدقيق .
واصطلاحاً : العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) متفق على صحته .
وسئل ابن عباس ما أفضل عمل صالح أعمله ؟ قال ابنِ مسجدا وعلم الناس فيه الفقه .
ويقول الشافعي -رحمه الله – من درس الفقه زادت فطنته
وقال ابن الجوزي -رحمه الله -: لو كان في العمر بقية لجعلتها في دراسة الفقه
فهذا الحديث العظيم يدلنا على فضل الفقه في الدين.
والفقه في الدين هو: الفقه في كتاب الله عز وجل، والفقه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهنا سؤال دائما ما يتبادر لذهن إخواننا ؛ خاصة الذين يبدؤون في دراسة الفقه وهو :
لماذا اختلف الفقهاء ؟
أولا مما ينبغي التأكيد عليه أن العلماء لما اختلفوا لم يختلفوا على الأصول في الدين والعقيدة ،وإنما اختلفوا في الجزئيات والفروع فلا يعقل أبدا أن نختلف في الثوابت والمعتقدات .
ولذلك قال ابن تيمية : البدعة مقرونة بالفرقة كما أن السنة مقرونة بالجماعة فيقال أهل السنة والجماعة كما يقال أهل البدعة والفرقة .
 
الاختلاف في الفقه :
شاء الله من باب الرحمة بعباده والتوسيع عليهم أن يحدث الاختلاف في بعض الفرعيات والمسائل الفقهية ،ولذلك فإن من لم يعرف اختلاف العلماء فليس بعالم ولم تشم أنفه رائحة الفقه ،وينبغي على من أراد دراسة الفقه أن يبتعد عن التعصب للرجال والجمود والميل إلى الهوى .
 
وقد أسس الشيخ القرضاوي ثلاثة قواعد للاختلاف :
1-نفي العصمة عن كل واحد في الأمة عدا رسول الله بالغاً ما بلغ حتى لو كان صحابياً أو تابعياً .
2-وزن ما جاء عن السلف من أقوال وأفعال بالميزان الذي لا يخطئ الكتاب والسنة .
3-ألا نتجاوز نقد الآراء في المسائل الخلافية إلى تجريح أصحابها بل نكلهم إلى نياتهم وقد أفضوا إلى ما قدموا . من كتاب كيف نتعامل مع التراث ص12 باختصار 
 
وقد جاءت نصوصٌ ومأثوراتٌ تضع مبادئ وأصولاً للاختلاف المحمود ترتقي به في كثيرٍ من الأحيان إلى درجة الوجوب العملي، ومن المثير للعجب أن توجد في أوساط المسلمين بين الحين والحين تياراتٌ تنفِّر من الاختلاف وتضيق به وتعدُّه بكل صوره رجزًا من عمل الشيطان، بل تتعدى ذلك فتسعى جاهدةً للقضاء عليه وإزالته من الوجود، متأثرةً بأمورٍ كثيرةٍ أهمها في نظري هو عدم -أو قلة- فهم النصوص المحذرة من الاختلاف، أو وضعها في غير مواضعها، أو الخلط بين ما هو مطلقٌ وما هو نسبيٌّ من الحقيقة، وقد كانت هذه التيارات -وما تزال- من أخطر ما تواجهه الأمة الإسلامية، لما تحمله أطروحاتها من دواعي الفتنة والتناحر، ولما تجسِّده ممارساتها من حجر على الفكر وكبت للحريات.
 
وقد أحسن الدكتور يوسف القرضاوي في وصف فئةٍ من هذه التيارات حين قال:“ونحن نشاهد على الساحة الإسلامية أناسًا لا هَمّ لهم إلا الجدل في كل شيء، وليس لديهم أدنى استعدادٍ لأن يعدلوا عن أي رأيٍّ من آرائهم، وإنما يريدون للآخرين أن يتبعوهم فيما يقولون، فهم على حقٍّ دائمًا، وغيرهم على باطل أبدًا؛ منهم من يجادل في كلماتٍ أعطاها اصطلاحًا خاصًّا خالفه فيه غيره، ويريد أن يلزم الآخرين برأيه مع أن علماءنا قالوا: لا مشاحة في الاصطلاح؛ ومنهم من يذمُّ التعصُّب للمذاهب، وهو يقيم مذهبًا جديدًا، يقاتل الآخرين عليه! ومن يحرِّم التقليد ويطلب من الناس أن يقلدوه! أو يمنع تقليد القدامى وهو يقلِّد بعض المعاصرين ، ومن يقيم معركةً من أجل مسائل فرعيَّةٍ وجزئيَّة، اختلف السلف فيها وفي أمثالها، ولم تعكِّر لعلاقاتهم صفوًا”.
والسبب الرئيسي، في نظري، لمثل هذه المواقف هو قلَّة الفقه بوجهٍ عام، وقلَّة الفقه بما يمكن أن يطلق عليه “فقه الاختلاف” بوجهٍ خاصٍّ،ومن المحزن أن تكون هذه حال المسلمين، وموروثهم الفقهي زاخرٌ بالمصنفات التي أفردت لقضايا الاختلاف وشرح أسبابه ودواعيه،وتاريخهم في كثيرٍ من جوانبه هو في حقيقة الأمر ثمرةٌ من ثمرات الاختلاف.
وفقه الاختلاف فقهٌ يحتاج إلى عنايةٍ خاصَّة ، وغني عن القول أنَّ حاجة الأمة لهذا النوع من الفقه اليوم هي أعظم من أيِّ وقتٍ مضى، ولكن يبقى أن هناك أصولاً ينبغي التنبيه عليها في توضيح تصوُّرنا لهذا الفقه، ومن أهمِّ الأصول التي يمكن أن يبنى عليها التصوُّر الإسلامي للاختلاف على المستوى الإنساني ما يلي:
1- أنَّ الاختلاف كما كان سنَّةً ماضيَّةً في الخلق وناموسًا من نواميس الوجود، فهو كذلك ماضٍ في المسلمين في معظم شؤون حياتهم.
 
2 -أنَّ الاختلاف نوعان: – نوعٌ مذمومٌ، وهو ما كان نتيجةً للهوى والقول بغير علم، أو ما كان متضمنًا بغيًّا بأيِّ صورةٍ من الصور.
– ونوعٌ محمودٌ، وهو ما كان نتيجةً للاجتهاد المنضبط بجميع مستوياته.
 
3- أنَّ من القضايا ما لا يجوز الاختلاف فيه، ومنها غير ذلك، وما لا يجوز الاختلاف فيه هو جملة الأمور القطعية الثبوت القطعية الدلالة، وكلُّ معلومٍ من الدين بالضرورة مما لا يحتمل إلا رأيًّا واحدًا.
أما ما سوى ذلك فهو محل اجتهادٍ ونظرٍ واختلاف، واختلاف الآراء فيه سائغ.
 
4- أن الاجتهاد في طلب الحقِّ فرضٌ على جميع المسلمين كلّ حسب استطاعته، وهو بالنسبة لأصحاب الأهليَّة الفقهيَّة إمَّا أن يكون اجتهادًا مطلقًا أو اجتهادًا ترجيحيًّا، أو اجتهادًا جزئيًّا؛ وبالنسبة لغير أصحاب الأهلية الفقهية يكون اجتهادًا في اختيار الفقيه المقلَّد.
ولابد هنا من التفريق بين مسائل الاختلاف، ومسائل الاجتهاد، فليست كلُّ مسائل الخلاف من مسائل الاجتهاد، بل كثيرٌ من مسائل الاختلاف إنَّما نشأت على غير دليلٍ، إمَّا لهوىً أو لقلَّة علم.
 
5- أنَّ التجرُّد وبذل الوسع في طلب الحق لا يؤدِّيان بالضرورة إلى معرفة الحقِّ دائمًا، فقد يتجرَّد الإنسان ويبذل وسعه ولا يوفقه الله إلى الحقِّ لحكمةٍ يراها.
 
6- أنَّ الحقيقة المطلقة هي من علم الله عزَّ وجلَّ وحده؛ وما نقطع به منها هو ما جاء به الوحي القطعي الثبوت القطعي الدلالة؛ وما سوى ذلك فليس مبنيًّا إلا على غلبة الظنِّ ورجحان الدليل.
 
7- أنَّ اختلاف المسلمين فيما يسوّغ الاختلاف فيه هو في جانبٍ ابتلاءٌ لهم، وفي جانبٍ آخرٍ رحمةٌ بهم، وهو ابتلاءٌ لما يشكِّله من تحدٍّ معرفيٍّ ومعاشي، وهو رحمةٌ من حيث عدم المؤاخذة على الخطأ فيه، ولما فيه من توسيعٍ عليهم.
 
8- أنَّ أهليَّة الاجتهاد قد تكون مطلقة، وقد تكون للترجيح بين المذاهب، وقد تكون في المذهب الواحد أو المسألة الواحدة، ومن المؤسف أنَّ التصوُّر الإسلامي للاجتهاد لدى كثيرٍ من المسلمين المتأخرين قد تشوَّه حتى أصبح لا يرى من الاجتهاد إلا الاجتهاد المطلق، وأصبح لذلك كلُّ اجتهادٍ صادرٍ عن غير مجتهدٍ مطلقٍ اجتهادًا مرفوضًا غير معترفٍ به، بل انحرافًا يجب محاربته.
 
ثانيا / فما هي أسباب الاختلاف الفقهي؟
1-طبيعة الدين :
فقد أراد الله تعالى، أن يكون في أحكامه المنصوص عليه والمسكوت عنه، ولو شاء الله لجعل الدين كله وجها واحدا، وصيغة واحدة، لا تحتمل خلافا ولا تحتاج إلى اجتهاد، من حاد عنها قيد شعرة فقد كفر.
أجل لو شاء الله تعالى أن يتفق المسلمون على كل شيء، ولا يقع منهم اختلاف في شيء، ولو كان فرعا من الفروع، أو أصلا من الأصول غير الضرورية لأنزل كتابه كله نصوصا محكمات قاطعات الدلالة، لا تختلف فيها الأفهام ولا تتعدد التفسيرات، ولكنه جل شأنه أراد أن يكون في كتابه المحكمات ـ وهن أم الكتاب ومعظمه ـ وفيه المتشابهات، وهن أقله، وفي ذلك ابتلاء من ناحية، وشحذ للعقول لتجتهد من ناحية أخرى.
فالدين الإسلامي ليس ديناً محلياً قومياً ؛ إنما دين عالمي وشريعته شريعة خالدة ومن هنا حملت الشريعة محاوراً ارتكازية وثوابت ، ومعها نقاط مرنة كما في الحديث (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان منه فلا تسألوا عنها ) ومن أراد أن يجمع الناس على مذهب واحد فإنه يريد ما لا يمكن وقوعه
ولذلك لما أراد أبو جعفر المنصور أن يجمع الناس على كتاب الموطأ قال له لإمام مالك – رحمه الله – : يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم .
 
2-الاختلاف في الفهم :
فبعد انتهاء غزوة الأحزاب قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ) فأدركتهم الصلاة في الطريق فمنهم من صلى وفسر أمر النبي بالجدية في المسير إلى بني قريظة ، ومنهم من أخذ النص على ظاهره فلم يصلِّ إلا في بني قريظة ….فأخبر النبي بذلك فلم يعنف أحداً
فمن هنا يختلف الفقهاء على وفق اختلاف فهمهم للنص .
 
ومن الطريف أن سليمان بن الأعمش (وهو من أعلام المحدثين ) سأل أبا يوسف مرة في مسألة فأجابه فقال وما دليل قولك هذا ؟ قال من حديث كذا وكذا الذي سمعته منك فقال الأعمش متعجباً : والله الذي لا إله إلا هو إني لأعلم هذا الحديث قبل أن يجتمع والداك ولم أفقه معناه إلا الآن !!!
 
3- طبيعة اللغة :
القرآن الكريم نصوص قولية لفظية، وغالب السنة كذلك أقوال ونصوص لفظية وهذه النصوص القرآنية والنبوية يجري عليها ما يجري على كل نص لغوي عند فهمه وتفسيره، ذلك أنها جاءت على وفق ما تقتضيه طبيعة اللغة في المفردات والتراكيب، ففيها اللفظ المشترك الذي يحتمل أكثر من معنى، وفيها ما يحتمل الحقيقة والمجاز
، كما حدث حينما سألت زوجات النبي من أسرع نسائك لحوقاًبك ؟ فقال : أطولكن يداً …. فلما مات جعلت كل واحدة ذراعها على الحائط يقسن أذرعهن فكانت أطولهن ذراعاً سودة لكنهن فوجئن بأن أولهن زينب بنت جحش ( التي كانت تلقب بأم المساكين لكثرة إحسانها عليهم ) ؛فعلمن أن الرسول ما أراد اللفظ على حقيقته وإنما أراد المجاز فكنى بطول اليد إشارة إلى كثرة الإنفاق .
 
نأخذ مثلا آية كآية الطهارة من سورة المائدة، وهي قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنبا فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) المائدة: 6.
كم في هذه الآية من آراء وأقوال للفقهاء اختلفت أفهامهم وتعدد تفسيراتهم، وجلها يتعلق بأمور لغوية.
هل الترتيب بين هذه الأعضاء الأربعة ـ مغسولة وممسوحة ـ فرض أو لا؟
وهل الغاية في قوله “إلى المرفقين” وقوله “إلى الكعبين” داخلة أو لا؟
وهل الباء في قوله “برؤوسكم” تفيد الإلصاق أو التبعيض أو هي زائدة؟
وما تأويل قراءة “وأرجلكم” بالجر؟
وما المراد بقوله تعالى “أو لامستم النساء” لمس البشرة للبشرة أم كناية عن الجماع كما يقول ابن عباس؟
وما المراد بالصعيد في التيمم؟ أهو التراب أم كل ما كان من جنس الأرض؟
وما المراد باليد في قوله “فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه” أهي مجرد الكفين أم ما ذكر في الوضوء، وهو ما يصل إلى المرفقين؟
وما معنى قوله “فلم تجدوا”؟ أيدخل فيه فقدان الماء حكما وإن وجد حقيقة؟ كما إذا كان محتاجا إليه لشرب أو عجن أو طبخ؟
وهل قوله (أو لامستم النساء )على الحقيقة فينتقض الوضوء بمجرد الملامسة أم على المجاز فيكون المقصودبالملامسة الجماع كما قال ابن عباس –رضي الله عنهما
إلى غير ذلك من الاحتمالات التي أخذ بكل منها إمام من الأئمة .
 
4 – اختلاف طبيعة البشر :
وأما طبيعة البشر، فقد خلقهم الله مختلفين، فكل إنسان له شخصيته المستقلة، وتفكيره المتميز، وطابعه المتفرد ،وإن من العبث كل العبث أن يراد صب الناس كلهم في قالب واحد في كل شيء، وجعلهم نسخا مكررة، ومحو كل اختلاف بينهم، فهذا غير ممكن، لأنه مخالف لفطرة الله التي فطر عليها الناس .
ثم إن هذا الاختلاف إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، والتنوع دائما مصدر إثراء وخصوبة، وهو آية من آيات الله الدالة على عظيم قدرته وبديع حكمته: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) سورة الروم:22.
فمن الناس من يميل إلى التشديد، ومنهم من يميل إلى التيسير، منهم من يأخذ بظاهر النص، ومنهم من يأخذ بفحواه وروحه، منهم من يسأل عن الخير ومنهم من يسأل عن الشر مخافة أن يدركه، منهم ذو الطبيعة المرحة المنبسطة ومنهم ذو الطبيعة الانطوائية المنكمشة.
وهذا الاختلاف في صفات البشر، واتجاهاتهم النفسية، يترتب عليه ـ لا محالة ـ اختلافهم في الحكم على الأشياء، والمواقف والأعمال، يظهر ذلك في مجال الفقه وفي غيره من المجالات.
 
من أبرز الأمثلة لهذا الاختلاف ما عرف واستفاض عن كل من الصحابيين العالمين الجليلين: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم جميعا.
فقد كان ابن عمر يبعد الأطفال عنه حتى لا يسيل شيء من لعابهم عليه، تحرزا مما يشتبه في نجاسته، وابن عباس يضمهم إليه، ويقول: إنما هم رياحين نشمها.
وكان ابن عمر يغسل باطن عينيه في الوضوء، ويرى أن لمس المرأة ينقض الوضوء، وابن عباس لا يرى ذلك.
وأزيد على هذا موقفهما من مناسك الحج، مثل موقفهما من الحجر الأسود والمزاحمة عليه، فقد روى سعيد بن منصور عن القاسم بن محمد قال: رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمى. (أي يجرح ويسيل منه الدم).
وفي رواية أنه قيل له في ذلك، فقال: هوت الأفئدة إليه، فأريد أن يكون فؤادي معهم!
وفي مقابل هذا روى الفاكهي من عدة طرق عن ابن عباس كراهة المزاحمة، وقال: لا يؤذي ولا يؤذى.
وقبل ابن عمر وابن عباس، نجد موقف الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقد كان لكل منهما اتجاهه، وطريقته في معالجة الأمور، فأبو بكر يمثل الرفق والرحمة، وعمر يمثل القوة والشدة، وهذا ينعكس على رأي كل منهما في المواقف والأحداث.
ومن أظهر الأمثلة لذلك ما كان منهما في شأن أسرى بدر:
روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال: “إن الله قد أمكنكم منهم” فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم! فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس!” فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك. فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء. قال: فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء،
قال: وأنزل الله عز وجل: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
إن طبائع الناس وأمزجتها تختلف من شخص لآخر، فتختلف لذلك مواقفها، حتى بين الأخوين الشقيقين، وأبرز مثال لذلك من الأنبياء موسى، وهارون، عليهما السلام ومن الصحابة الحسن والحسين رضي الله عنهما.
 
5-الاختلاف في قدر العلم وقواعد المذهب :
فمنهم من بلغه الحديث ومنهم من لم يبلغه الحديث ،ومنهم من صح الحديث عنده ومنهم من لم يصح الحديث عنده ، وقد يكون في الحديث زيادة لم تبلغ الآخر …وهكذا…. يصحح هذا حديثا،، وغيره يضعفه، لأنه يشترط في ثبوت الحديث عنده ما لا يشترط الآخر، إما بصفة عامة، أو فيما تعم به البلوى، وينتشر بين الناس، وإما لاختلافهم في توثيق الرواة، وتجريحهم. فهذا يعدل روايا، وآخر يعتبره مجروحا.
وقد يقوي أحدهم الحديث بتعدد الطرق الضعيفة التي يروى بها، ولا يسلم غيره له بذلك.
وقد يرى أحدهم الاحتجاج بالمرسل، ولا يرى آخرون ما يراه، وهكذا.. انظر إلى أحاديث مثل الأحاديث التي وردت في تحريم الذهب على النساء، فقد صححها بعض العلماء وضعفها آخرون، والذين صححوها ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة، وبعضهم إلى أنها متأولة، وذلك لإجماع الأمة بجميع مذاهبها على إباحة التحلي بالذهب للنساء، وهو ما استقر عليه عمل الأمة بالفعل طوال أربعة عشر قرنا من الزمان.
وقد ينازعهم المخالفون على افتراض صحة الحديث الذي يعتمدون عليه، بأن الحديث ليس في أمر تشريعي، بل في أمر عادي من أمور الدنيا، مثل حمل العصا في الخطبة أو الأكل باليد، أو على الأرض،
ومثل قوله عليه الصلاة و السلام: “عليكم بالإثمد (نوع من الكحل)، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر”، فالمسلم إذا لم يعارض بهذا، وعمل بتوصية طبيب العيون المختص، لم يكن مخالفا لنص، ولا معارضا لسنة.
وقد يكون الحديث في أمر تشريعي، ولكنه تشريع مما ثبت للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصفة الإمامة والرئاسة، لا بصفة التبليغ والفتوى عن الله عز وجل كما قال ابن القيم في حديث “من قتل قتيلا فله سلبه”.
وقد يكون الحديث في أمر تشريعي عام دائم، ولكن الخلاف واقع، في دلالته على الحكم، كما إذا اشتمل على أمر أو نهي، فهل الأمر للوجوب، أم للاستحباب أم للإرشاد؟ وهل النهي للتحريم أم للكراهة، وهل الكراهة تحريمية أم تنزيهية؟
هذه الاحتمالات كلها قائمة، وهي أقوال وآراء لعلماء الأصول في دلالة الأمر والنهي، ولكل قول منها دليله ووجهته.
وفي كل من دلالة الأمر والنهي سبعة أقوال على ما ذكر الأصوليون في مبحثي الأمر والنهي.
وقد رأينا الصحابة يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم، أوامر، ومع هذا يترخصون في تركها، لعلمهم أنها لم تكن عازمة جازمة، فإذا ثبت لهم ذلك باللفظ، أو بالقرينة، كانوا أسرع الناس إلى تنفيذها.
وفي أحد الأسفار للغزو، كانوا صائمين في رمضان، فأمرهم بالإفطار، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، متأولين أنه إنما أراد الرفق بهم، ولم يكن في الأمر ما يدل على الإلزام الجازم، فلما اقتربوا من التلاحم مع العدو، قال لهم: “إنكم مصبحوا عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا” فكانت عزمة، فأفطروا.
ورأيناهم في حديث “إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم وأصبغوا” يرون الأمر هنا لمجرد الإرشاد أو الاستحباب، فلهذا امتثل بعضهم وصبغ، وبعضهم لم يصبغ، ومنهم من صبغ بالحناء، وبغيرها، ومنهم من صبغ بالسواد.
وكذلك حديث: لا تسم ابنك ولا غلامك، نافعا ولا يسارا ولا رباحا..الخ، رأيناهم يسمون نافعا ويسارا، كما هو ثابت في أسماء التابعين، مثل نافع مولى ابن عمر، وسليمان بن يسار، وعطاء بن رباح، وغيرهم.
ولهذا رأينا إماما مثل ابن تيمية، يحمل حديث “من مس فرجه فليتوضأ” على الاستحباب.
وكذلك الوضوء من أكل لحوم الإبل، يراه للاستحباب لا للوجوب، خلافا لمذهب إمامه أحمد في المثالين.
وكذلك أصول المذهب والأقيسة تختلف من مذهب إلى مذهب على تفصيل معروف في كتب أصول الفقه
وكم من صحابي انفرد عن سائر الصحابة برأي لم يوافق عليه سائرهم، ولا يضره ذلك.
وكم من فقهاء التابعين من كان له رأي خالفه آراء الآخرين. ولم يسقط ذلك قوله. فالمدار على الحجة لا على الكثرة.
وكم من الأئمة الأربعة من انفرد عن الثلاثة بآراء وأقوال، مضى عليها اتباع مذهبه، مؤيدين ومصححين.
ومذهب أحمد بن حنبل ـ وهو مذهب المشهور باتباع الأثر ـ قد عرف بـ (مفرداته) التي نظمها من نظم، وألف فيها من ألف، وغدا من المألوف أن يقرأ الباحث فيه هذه العبارة: وهذا من مفردات المذهب.
والمذاهب الأربعة ـ على مالها من اعتبار وتقدير لدى جمهور الأمة ـ ليست حجة في دين الله، إنما الحجة ما تستند إليه من أدلة شرعية، منقولة أو معقولة.
وما يقال عن بعض الآراء: إنها شاذة أو مهجورة أو ضعيفة، فهذا لا يؤخذ على إطلاقه وعمومه، فكم من رأي مهجور أصبح مشهورا، وكم من قول ضعيف في عصر جاء من قواه ونصره، وكم من قول شاذ في وقت هيأ الله له من عرف به وصححه وأقام عليه الأدلة، حتى غدا هو عمدة الفتوى.
وحسبنا هنا آراء شيخ الإسلام ابن تيمية، التي لقي من أجلها ما لقي في حياته، وظلت بعد وفاته قرونا، وظل من العلماء من يعتبرها خرقا للإجماع، حتى جاء عصرنا التي وجد فيها سفينة الإنقاذ للأسرة المسلمة من الدمار والانهيار.
 
6-اختلاف الأماكن والأزمان :
فالعادات والطباع تختلف من بلد إلى بلد ومن زمن إلى زمن ،ونعلم أن الشافعي له مذهبه القديم بالعراق فلما هاجر إلى مصر غير كثير من فتاواه فيما عرف بالمذهب الجديد .
وكل عصر تجدّ فيه مسائل وقضايا لم يعرفها من قبلهم فيكون الاجتهاد وتختلف الاجتهادات كل ٌحسب رؤيته للأمور ،ومثال ذلك:مسألة نقل الأعضاء ،بنوك الحليب ،المعاملات البنكية المختلفة ………..الخ
كيف نشأ التعصب ؟
كان بداية ذلك حينما يتولى منصب كبير القضاة في الدولة قاض حنفي المذهب فحينئذ كل من يتولى القضاء أو الإفتاء أو التدريس ينبغي أن يكون حنفي المذهب حتى بلغ الأمر مع الجمود والتقليد المتوارث بدون فهم وبصيرة إلى حد اختراع حديث في أبي حنيفة (أبو حنيفة سراج أمتي )
وآخر في ذم الشافعي (يكون رجل من أمتي أضر عليها من إبليس يدعى محمد بن إدريس )
وبلغ الأمر أن بعض قضاة دمشق كان يقول “لو كان الأمر بيدي لفرضت الجزية على كل شافعي!!! “
ووصل الأمر إلى إحداث أسئلة منها :
ما حكم صلاة شافعي وراء حنفي مس ّذكره ؟!!
ما حكم زواج شافعي من حنفية ؟ وذلك لأن الشافعي يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله ،وعند أبي حنيفة أن هذا لا يجوز لأن هذا شك في الإيمان .
ولعلنا لا يخفى علينا أن ابن تيمية ما سجن إلا من أجل معاداته للجمود والتقليد وثورته على الجامدين على المذاهب في عصره .
 
الفقهاء كانوا بعيدين عن التعصب ومن أقوالهم :
– يقول عمر بن عبد العزيز (ما يسرني أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة .)
-الإمام أحمد كان يرى الوضوء من سيلان الدم فقيل له :إذا كان الإمام خرج منه الدم وصلى ولم يتوضأ هل تصلي خلفه ؟ قال : ومالي لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب ؟!
– وأفتى الشافعي فتوى فقال بعضهم : إن جاءك عن رسول الله ما يخالف فتواك أتأخذ به ؟فقال غاضبا :
أتجدني في كنيسة ؟ أتجدني في بيعة ؟أيأتيني حديث رسول الله ولا أعمل به ؟!
-ومن كلامه أيضاً “إذا رأيتم قولي يخالف قول رسول الله فخذوا بقول رسول الله واضربوا بقولي عرض الحائط .”
-أبو حنيفة يقول : “قولي صواب يحتمل الخطأ و قول غيري خطأ يحتمل الصواب .
-الإمام مالك يقول “كل الخلق يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر (ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم )
-ابن تيمية يقول :”وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إليه و يوالي ويعادي عليه غير النبي وليس لأحد ان ينصب للأمة كلاما غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة “
-ويقول من تعصب لواحد من الأئمة يعادي عليه و يوالي عليه دون الباقين فهو كمن تعصب لواحد من الصحابة بعينه دون الباقين كالرافضي الذي يتعصب لعليّ ويكفر الصحابة أو خارجي يكفر عثمان وعليّ ، وهذه طرق أهل البدع والأهواء .
 
وسئل عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد فهل ينكر عليه ؟
فأجاب : مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لا ينكر عليه ولا يهجر ،ومن عمل بالرأي الذي يظهر له رجحانه فلا ينكر عليه ؛وإلا قلد العلماء المعتمد عليهم في بيان أرجح القولين
 
شغل المسلم بهموم أمته الكبرى
إن أكثر ما يوقع الناس في حفرة الاختلاف، وينأى بهم عن الاجتماع والائتلاف: فراغ نفوسهم من الهموم الكبيرة، والآمال العظيمة . وإذا فرغت الأنفس من الهموم الكبيرة، اعتركت على المسائل الصغيرة، واقتتلت ـ أحيانا ـ فيما بينها على غير شيء!
ولا يجمع الناس شيء كما تجمعهم الهموم والمصائب المشتركة، والوقوف في وجه عدو مشترك، وما أصدق ما قاله أحمد شوقي:
إن المصائب يجمعن المصابينا!
وإن من الخيانة لأمتنا اليوم أن نغرقها في بحر من الجدل حول مسائل في فروع الفقه أو على هامش العقيدة، اختلف فيها السابقون، وتنازع فيها اللاحقون، ولا أمل في أن يتفق عليها المعاصرون. في حين ننسى مشكلات الأمة ومآسيها ومصائبها التي ربما كنا سببا أو جزءا من السبب في وقوعها.
وهذا ما حدا بابن عمر رضي الله عنهما، حينما سأله من سأله من أهل العراق عن دم البعوض في حالة الإحرام، فأنكر على السائل هذا التنطع والتعمق في السؤال عن هذه الدقائق. على حين أن قومه خذلوا الحسين رضي الله عنه. حتى سفك دمه، ولقي ربه شهيدا مرضيا.
وهكذا قال ابن عمر: هؤلاء يسألون عن دم البعوض، وقد سفكوا دم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
 
لهذا كان من الواجب على الدعاة والمفكرين الإسلاميين أن يشغلوا جماهير المسلمين بهموم أمتهم الكبرى، ويلفتوا أنظارهم وعقولهم وقلوبهم إلى ضرورة التركيز عليها والتنبيه لها، والسعي الجاد ليحمل كل فرد جزءا منها، وبذلك يتوزع العبء الثقيل على العدد الكبير، فيسهل القيام به.
إن العالم يتقارب بعضه من بعض على كل صعيد، رغم الاختلاف الديني، والاختلاف الأيديولوجي، والاختلاف القومي واللغوي، والوطني والسياسي.
لقد رأينا المذاهب المسيحية ـ وهي أشبه بأديان متباينة ـ يقترب بعضها من بعض، ويتعاون بعضها مع بعض.
بل رأينا اليهودية والنصرانية ـ على ما كان بينهما من عداء تاريخي ـ يتقاربان، ويتعاونان في مجالات شتى حتى أصدر الفاتيكان منذ سنوات وثيقته الشهيرة بتبرئة اليهود من دم المسيح!
إن الأمة المسلمة لا تزرع ما تأكل من القوت الضروري، ولا تصنع ما تستخدمه من السلاح اللازم للدفاع عن الحرمات، ولا من الآلات ما يجعل لها وزنا واعتبارا.
فهي كلها ضمن العالم الثالث، ولو كان هناك عالم رابع لنسبت إليه! وكثيرا ما اتهم الإسلام ظلما بأنه سبب تخلفها، مع أنها يوم تمسكت به كانت سيدة الأمم وأستاذة البشرية! إن مشكلة الأمة الآن تكمن في تضييع المتفق عليه رغم كثرته وتضخيم الاختلافات حتى جعلناها أكبر همنا ومبلغ علمنا .
لماذا لا نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ؟؟!!
 
نقلا عن الشيخ القرضاوي من كتابه (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) بتصرف واختصار.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 9 ديسمبر, 2024 عدد الزوار : 13941 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع