السِّر: هوما تكتمه وتخفيه في النفس
وحفظ الأسرار التي يأتمنك غيرك باطلاعك عليها من الأمانات الَّتي أمرنا الله بحِفْظها وقد ذكر الله مَن صفات ورثة الفردوس (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) المؤمنون 8
ويحْرم إفْشاء الأسرار، فإفْشاؤها خيانةٌ للأمانة قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ الأنفال: 27.
وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}. سورة التحريم:10.
قال بعض المفسرين عن هذه الخيانة: إن امرأة نوح كانت تكشف سره فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، أما امرأة لوط فكانت إذا استضاف لوط أحدًا أخبرت أهل
المدينة ممن يعملون السوء حتى يأتوا ويفعلوا بهم الفاحشة
وخيانة الأمانة من صفات المنافقين؛ فعن أبي هُرَيرة أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال: (آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدث كذَب، وإذا وعد أخْلف، وإذا اؤتُمن خان)؛ رواه البخاري ومسلم
أنواع السر من حيث حكم الكتمان
السِّرُّ نوعان :
أ – مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِكِتْمَانِهِ.
ب – مَا طَلَبَ صَاحِبُهُ كِتْمَانَهُ.
النَّوْعُ الأَوَّل: مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِكِتْمَانِهِ:
مِنَ الأُمُورِ مَا يَحْظُرُ الشَّرْعُ إِفْشَاءَهُ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ حَسَبَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِفْشَائِهِ مِنْ ضَرَرٍ.
فَمِمَّا لاَ يَجُوزُ إِفْشَاؤُهُ:مَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَال الْوِقَاعِ، فَإِنَّ إِفْشَاءَ مَا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُل وَزَوْجَتِهِ حَال الْجِمَاعِ أَوْ مَا يَتَّصِل بِذَلِكَ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ من أشرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها) .
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الرجال فقال: « هل منكم الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه وألقى عليه ستره واستتر بستر الله ؟
قالوا : نعم ، قال : ثم يجلس بعد ذلك فيقول فعلتُ كذا ، فعلتُ كذا ؟
قال : فسكتوا ، قال : فأقبل على النساء ، فقال : هل منكن من تحدث ؟
فسكتنَ ، فجثت فتاة كعاب على إحدى ركبتيها وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها فقالت : يا رسول الله إنهم ليتحدثون ، وإنهن ليتحدثن
فقال : هل تدرون ما مثل ذلك ؟ فقال : إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيتْ شيطاناً في السكة فقضى منها حاجته والناس ينظرون إليه. «رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني
ولأهمية حفظ الأسرار الزوجية وأثرها في استقرار العلاقة بين الزوجين نصحت امرأة أعرابية ابنتها ليلة الزفاف نصيحة خالدة تبني عليها حياتها الزوجية فقالت لها: “لا تفشي له سرا, ولا تعصي له أمرا, فإنك إن أفشيت سره لم تأمن غدره وإن عصيت أمره أوغرت صدره “
إفشاء أسرار الأزواج بعد الطلاق :
ولا يتوقف حق كل من الزوج والزوجة في حرمة الأسرار الزوجية بانتهاء الزواج ولكن على كل منهما على حد سواء الحفاظ على هذه الأسرار والأمور التي كانت مشتركة فيما بينهما حتى بعد الطلاق، فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنه حدث بينه وبين زوجته صفية بنت أبي عبيد مشكلة، فجاء أصدقاؤه وأخته حفصة أم المؤمنين يسألونه عن هذه المشكلة التي بينه وبين زوجه، فقال: “سبحان الله! كيف أفضي بسر امرأة هي أقرب الناس إلي؟ هي زوجتي”، فلم يُفضِ إليهم بشيء من سره، ثم إنه طلقها فأتوه يسألونه عن السبب فقال: “سبحان الله! كيف أفضي بسر امرأة أجنبية لا علاقة بيني وبينها؟“.
أما ما يحدث الآن عندما يلقي المطلق بكل العيوب على مطلقته أو يقوم بالأمر نيابة عنه بعض أهله وكذلك المطلقة أو أهلها هذا كله مخالفة {وان يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيماً} فيغني الله الزوج عن مطلقته، بخير منها، ويغني الله المطلقة بخير من زوجها السابق، المهم إلا نجعل الطلاق سببا للعداوة والبغضاء والقطيعة، وخاصة إذا كانت الزوجة ابنة الخال أو الخالة أو العم أو العمة ، ولذلك يجب علينا ألا نجعل من تنفيذ أحكام الله سببا في التفرق والقطيعة، وان نحفظ للزوجة وأهلها أسرارهم، وكذلك نحفظ للزوج أسراره ونمسك ألسنتنا عن الكلام في هذه الأمور، وان يكون الطلاق بالمعروف ويبقى الود والاحترام، ويعتبر كل طرف ما مضى وانتهى أمرا في طي الكتمان، أما التحدث بالقيل والقال ففيه غيبة وقد يكون بهتانا كبيرا والذين ينشرون الأسرار ويخوضون في الأعراض هم السفهاء سواء كانوا من الرجال أو النساء.
دوافع إفشاء الأسرار الزوجية :
وهناك مجموعة من الدوافع وراء إفشاء المرأة لأسرارها الزوجية ومنها:
1-المرأة – إلا من رحم الله – بطبعها محبة للفضفضة والثرثرة والترويح عن النفس في مجالس الصديقات, ولا تجد المرأة المتزوجة غالبا مادة دسمة للحديث غير ما يخص أمورها الشخصية وعلاقتها بزوجها, وهناك حكمة تقول ” إذا أردت أن تروج لرأي فخاطب به النساء”, ولهذا أيضا كثرت الأمثال الشعبية التي تحذر الرجل من إفشاء سره لزوجته ومن هذه الأمثال “لا تعط سرك لامرأة”, “السر في قلب المرأة كالسم إن لم يخرج منها قتلها“.
2-غياب التفاهم بين الزوجين و انعدام الحوار والبعد العاطفي فيما بينهما يدفع الزوجة إلى الفضفضة مع المعارف والصديقات وزميلاتها في العمل, أملا ورغبة في إشباع حاجة نفسية لديها ومحاولة الشكوى والظهور بمظهر المجني عليها من قبل زوجها
3- قد يكون التباهي والتفاخر أمام الآخرين سببا في إذاعة وإفشاء الزوجة لأسرارها الزوجية وأسرار العلاقة الخاصة مع زوجها
4- الجهل بنهي الشرع عن إفشاء الأسرار لما يترتب عليه من إثم كبير
5- سوء التربية فعندما تبوح الزوجات بأدق تفاصيل حياتها, فهذا يعد خللا في التنشئة الاجتماعية وعدم التربية على حفظ الأسرار منذ الطفولة, وكذلك عدم التأهيل الجيد للحياة الزوجية والمعرفة بالحقوق والواجبات الزوجية
نتائج إهمال هذا الحق :
إفشاء الزوجة لأسرارها الزوجية غالبا لا يأتي بالصالح, فإلى جانب ما ذكرناه من أنها تعد من أقبح واشد الخيانات, تعمل على تعكير الصفو بين الأزواج وزعزعة الثقة فيما بينهما وتؤثر على تماسك الأسرة, وعندما يعلم الزوج بما أفشته زوجته يحرص على إخفاء الكثير من الأمور عنها إلى جانب ما تسببه له من إحراج أمام الآخرين …. وبالتالي يحاول جاهدا حفظ ماء وجهه والظهور بمظهر الأفضل أو التملص من العيوب التي ألصقتها زوجته به أمام الآخرين ….. وقد يعصف بالحياة الزوجية وينتهي بالطلاق, فقد أسر النبي صلى الله عليه وسلم أمرا إلى زوجته حفصة (مع اختلاف بين المفسرين حول هذا السر)وقال لها لا تخبري أحدا بهذا الحديث فما كان منها إلا أن أخبرت عائشة رضي الله عنها, فأطلعه الله على ما فعلت وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم و طلقها حتى قال له جبريل :
” إن الله يقرئك السلام ويقول لك راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وهي زوجتك في الجنة “
ويتضح ذلك في قوله تعالى : “وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ” التحريم 3
حالات استثنائية :
وهذه الحالات هي :
1- إذا لجأت أحد الزوجين إلى طبيب بسبب مشاكل في الحمل والانجاب مثلا فهنا تطرح الأمور بوضوح وصراحة بغرض الوصول إلى العلاج .
2- قد يبوح أحد الزوجين بأسرار حياته الخاصة إلى أحد الناس العقلاء أو الشيوخ المعروفين بالتقوى والعدل والحكمة بنية طلب الفتوى أوالمشورة أو حل المشكلة وليس بنية الفضفضة أو إفشاء الأسرار ، فعن عائشة قالت: دخلتْ هندُ بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل شحيح؛ لا يُعطيني من النَّفقة ما يَكفيني ويكفي بنيَّ إلاَّ ما أخذتُ من ماله بغير علمه، فهَل عليَّ في ذلِك من جُناح؟ فقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (خُذِي من مالِه بالمعْروف ما يكفيكِ ويكْفي بنيكِ)؛ رواه البخاري ومسلم.
3- إذا كان لهذا الإفشاء ضرورة في المحاكم عند النزاع ويتطلب إفشاؤها لمصلحة ومنفعة لصاحبها فيجوز إفشاؤها, فقد ذهب الفقهاء، ومنهم الشوكاني إلى أن التصريح بأمور اللقاء الجنسي إن كان إليه حاجة أو ترتبت عليه فائدة فلا كراهة في ذكره، وذلك نحو أن تنكر المرأة نكاح الزوج لها وتدعي عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك كما روى أن الرجل الذي ادعت عليه امرأته العنة (يعني عضوه لا ينتصب) والحديث في البخاري عن ابن عباس أنَّ رِفاعَةَ طلَّق امرأتَه، فتزوَّجَها عبدُ الرحمنِ بنُ الزُّبَيرِ القُرَظِيُّ، وأَتَتْ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجاء ومعَه ابنانِ له من غيرِها
قالتْ : واللهِ ما لي إليه من ذَنبٍ، إلا أن ما معَه ليس بأغنَى عني من هذه، وأخذَتْ هُدبَةً من ثَوبِها
فقال : كذبَتْ واللهِ يا رسولَ اللهِ، إني لأنفُضُها نَفضَ الأديمِ ، ولكنها ناشِزٌ، تُريدُ رِفاعَةَ .
فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( فإنْ كان ذلك لم تَحِلِّي له، أو : لم تَصْلُحي له، حتى يذوقَ مِن عُسَيلَتِكِ ) . قال : وأبصَر معَه ابنَينِ له، فقال : ( بَنوكَ هؤلاءِ ) . قال : نعم، قال : ( هذا الذي تَزعُمينَ ما تَزعُمينَ، فواللهِ، لهم أشبَهُ به من الغُرابِ بالغُرابِ)
فهنا جرت الفاظ واضحة في أخص المسائل الزوجية نوضح معناها :
مثل هدبة الثوب : هدبة بضم الهاء وسكون الدال هو طرف الثوب وفِيهِ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ شَبَّهَتْهُ بِذَلِكَ لِصِغَرِهِ.
وَالثَّانِي : أَنْ تَكُونَ شَبَّهَتْهُ بِهِ لِاسْتِرْخَائِهِ ، وَعَدَمِ انْتِشَارِهِ .
وأما قوله : “والله لأنفضها نفض الاديم” يقصد أنه يجامعها بقوة وكانه ينفض قطعه جلد او قماش من شدة وقوة جماعه وقد قال هذا حتى يثبت انه شديد وقوي في الجماع ، ولم ينكر النبي قولها ولا قوله لأن هذا في باب التحاكم .
عسيلته : العسيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج ، شبه لذته بلذة العسل، فاستعار لها ذوقا، وإنما أنث لأنه أراد قطعة من العسل.
قال الجمهور : ذوق العسيلة كناية عن المجامعة ، وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة .
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا طَلَبَ صَاحِبُهُ كِتْمَانَهُ: مَا اسْتَكْتَمَكَ إِيَّاهُ الْغَيْرُ وَائْتَمَنَكَ عَلَيْهِ، فَلاَ يَجُوزُ بَثُّهُ وَإِفْشَاؤُهُ لِلْغَيْرِ.
عن جابر رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا حدَّث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة) رواه الترمذي بسند حسن .
ثم التفت أي: غاب عن المجلس، أو التفت يمينًا وشمالًا، فظهر من حاله بالقرائن أنَّ قصده أن لا يطَّلع على حديثه غير الذي حدَّثه به فهي أي: الكلمة التي حدثه بها أمانة عند المحدث أودعه إياها .
متى يشرع كشف الأسرار ؟
1- كشف السر لاجتناب المفاسد:
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الـْمَجَالِسُ بِالأَمَانَةِ إِلاَّ ثَلاَثَةَ مَجَالِسَ: سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ، أَوْ فَرْجٌ حَرَامٌ، أَوِ اقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ»رواه أبو داود عن جابر وحسنه الحافظ ابن حجر .
أي إذا حصل في المجالس أن شخصًا تكلم بأنه سيفعل فعلاً من الأفعال القبيحة، وأنه يهم بفعل من هذه الأفعال، فإن مثل ذلك يمكن أن يفشى؛ حتى يحال بينه وبين ما يقصده ويريده، كما لو كان يريد أن يقتل إنسانًا أو يريد أن يزني بفلانة، أو ما إلى ذلك من الأمور المحرمة، فإن مثل هذا السر يفشى منعا للفساد وإراقة الدماء ، وذلك طبعا بعد نصحه وتحذيره ، فإذا لم يرجع هذا الشخص عن ما نوى فعله فإنه يفشى هذا الخبر عند أولي الأمر وعند من يكون له علاقة مثلاً بالشخص الذي هدده أو المرأة التي فكر بها أو قصدها، حتى يكون كل منهم على حذر، وتنبه لما يجري.
فالحاصل: أن المجالس بالأمانة، ولكن يستثنى منها ما إذا كان ذلك الذي حصل أمرًا خطيرًا سيئًا، فإنه لا يمكن السكوت عليه، ولا ينبغي أن يسكت عليه؛ لأنه يترتب على ذلك ضرر كبير، فعند ذلك لا يكتم مثل هذا الخبر؛ لأن صاحبه أعلن السوء وأعلن عزمه بالسوء، فلا بأس أن ينبه من يهمه الأمر ممن له علاقة بالموضوع، سواء كان فيما يتعلق بسفك الدم أو بالزنا أو غير ذلك، فينبه على ما يريده هذا الشخص، حتى لا يحصل منه الإقدام على ما لا تحمد عقباه.
2- الإعلان لمصلحة شرعية راجحة :
في حديث معاذ رضي الله عنه شاهد لإفشاء ما أمر بكتمانه لأجل المصلحة فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ عز و جل أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» فقال: أفلا أبشر الناس، قال: «لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا». وأخبر بذلك في آخر حياته خوفًا من كتم العلم ووصولاً لمصلحة نشره.
ولعل من أوضح أمثلة هذا الباب ما طبقه علماء الحديث من الكشف عن أحوال الرواة من أحوال تبين فسق الراوي، أو قلة دينه، أو ضعف حفظه، وهذا لدفع مفسدة نسبة حديث للنبي صلى الله عليه وسلم لم يقله.
نماذج للصحابة في كتمان السِّرِّ
– روى البخاري عن عبد الله بن عمر، أنَّ عمر رضي الله عنه حين تأيمت بنته حفصة من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدرًا، توفي بالمدينة، قال عمر: فلقيت عثمان ابن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا.
قال عمر: فلقيت أبا بكر، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئًا، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال:
لعلك وجدت عليَّ حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك؟
قلت: نعم
قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت، إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها) .
– وعن عائشة قالت: (كنَّ أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فلما رآها رحَّب بها فقال: مرحبًا بابنتي.
ثم أجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثم سارها فبكت بكاء شديدًا، فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت.
فقلت لها: خصَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار، ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها، ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: ما كنت أفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرَّه.
قالت: فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت عزمت عليك بما لي عليك من الحقِّ لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقالت: أما الآن فنعم، أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني: أن جبريل كان يعارضه القرآن في كلِّ سنة مرة أو مرتين، وإنَّه عارضه الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك.
قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية، فقال: يا فاطمة، أما ترضي أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة؟
قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت .
– وعن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: (أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم- وأنا ألعب مع الغلمان- قال: فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة. قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سرٌّ. قالت: لا تحدثنَّ بسرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا. قال أنس: والله لو حدثت به أحدًا لحدثتك يا ثابت) .
مثال لكشف السر :
رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب قبل معركة بدر :
قبل معركة بدر .. لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم .. بقافلة قريش مقبلة وأراد قتالها .. خرج صلى الله عليه وسلم إليها مع أصحابه .. فلما شعر بهم أبو سفيان .. استأجر رجلاً اسمه ضمضم بن عمرو الغفاري .. وقال اذهب وأخبر قريشاً بالخبر ..فمضى ضمضم .. مسرعاً إلى مكة .. كان وصوله مكة يحتاج أن يسير أياماً ..وأهل مكة لا يدرون عن شيء من ذلك ..
وفي ليلة من الليالي رأت عاتكة بنت عبد المطلب .. رؤيا أفزعتها .. فلما أصبحت بعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب .. فقالت له : يا أخي .. والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني .. وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ..
فاكتم عليَّ ما أحدثك .. ولا تحدث به أحداً ..
قال لها : نعم .. وما رأيت ؟
قالت : رأيت راكباً أقبل على بعير .. حتى وقف بوادي “الأبطح” .. ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ..!
فأرى الناس قد اجتمعوا إليه .. ثم مضى فدخل المسجد والناس يتبعونه ..
فبينما هم حوله .. إذ صعد به بعيره فوق الكعبة .. ثم صرخ بمثلها : انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث .
ثم صعد به بعيره على رأس جبل أبي قبيس ..فصرخ بمثلها :
انفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ..
ثم أخذ صخرة فقذفها من أعلى الجبل .. فأقبلت تهوي من فوق الجبل ..حتى إذا كانت بأسفل الجبل تكسرت ..
فما بقي بيت من بيوت مكة إلا دخلته كسرة من الصخرة .. فاضطرب العباس وقال : والله إن هذه لرؤيا !
ثم خشي أن تنتشر فيصيبه أذى .. فقال لها محذراً : وأنت فاكتميها لا تذكريها لأحد ..
ثم خرج العباس منشغل البال بأمر هذه الرؤيا .. فلقي الوليد بن عتبة وسط الطريق .. وكان له صديقاً ..فحدثه بالرؤيا .. وقال له : اكتمها .. فلا تخبر بها أحداً ..فمضى الوليد ..فلقي أباه عتبة فحدثه بها ..ثم لم يمض سويعات .. حتى حدث بها عتبة .. ثم تناقلها الناس .. وفشا الحديث بها في أهل مكة .. حتى تحدثت بها قريش في مجالسها ..
وفي الضحى ذهب العباس ليطوف بالكعبة .. فإذا أبو جهل جالس في رَهْط من قريش .. في ظل الكعبة .. يتحدثون برؤيا عاتكة !!
فلما رأى أبو جهل العباسَ قال : يا أبا الفضل .. إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ..
فلما أقبل إليه العباس وجلس معهم ..قال له أبو جهل : يا بني عبد المطلب ..متى حدثت فيكم هذه النبية ؟
قال : وما ذاك ؟
قال : تلك الرؤيا التي رأت عاتكة ..
قال العباس : وما رأت ؟
قال : يا بني عبد المطلب ..أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟
قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث .. فسننتظر بكم ثلاثة أيام ..
فإن يك حقاً ما تقول .. فسيكون ..وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شئ نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت العرب .. فاضطرب العباس .. وما رد عليه شيئاً .. وجحد الرؤيا .. وأنكر أن تكون رأت شيئاً ..ثم تفرقوا ..
فلما أقبل العباس إلى بيته ..لم تبق امرأة من بني عبد المطلب .. إلا جاءت إليه غاضبة .. تقول : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ..ثم قد تناول النساء وأنت تسمع .. أما فيكم حمية ..فاحتمى العباس .. وثار .. وقال : والله .. لئن عاد أبو جهل إلى مثل كلامه .. لأفعلن وأفعلن ..فلما كان اليوم الثالث .. من رؤيا عاتكة .. ذهب العباس إلى المسجد .. وهو مغضب ..
فلما دخل المسجد رأى أبا جهل .. فمشي نحوه يتعرضه ليعود لبعض ما قال فيقع به ..فإذا بأبي جهل يخرج من باب المسجد يشتد مسرعاً ..فعجب العباس من سرعته ..!! فقد كان مستعداً لخصومة وعراك .. فقال العباس في نفسه : ماله لعنه الله ؟! أكلّ هذا خوفٌ مني أن أشاتمه ؟!
وإذا أبو جهل قد سمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري الذي أرسله أبو سفيان ليستعين بأهل مكة ..
وإذا ضمضم يصرخ في الوادي واقفاً على بعيره ..قد جدع أنف بعيره .. والدم يسيل على وجه البعير ..وقد شق ضمضم قميصه وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة .. اللطيمة ..أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها ..ثم صاح بأعلى صوته : الغوث .. الغوث ..
عندها تجهزت قريش وخرجت .. وكان من أمرها في معركة بدر ما كان ..
فتأمل كيف انتشر السر في لمحة عين .. مع قوة الحرص وشدة الاستئمان ..!!
ومن نشر السر أيضاً ..أن عمر رضي الله عنه لما أسلم .. أراد أن ينشر الخبر ..
فأقبل إلى رجل يدعى جميل بن معمر الجمحي هو أعظمهم نشراً للإشاعة ..
فقال : يا فلان .. إني محدثك بسرٍ .. فاكتم عني ..!
قال : ما سرك ؟
قال : إني قد أسلمت .. فانتبه .. لا تخبر أحداً ..