شرح الدعاء “اللهُمّ إِنّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى …”
عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: “أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو فيقول: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى) رواه مسلم .
هذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها، وهو يتضمن سؤال خير الدين وخير الدنيا، فهو شامل لأربعة مطالب عظيمة، وجليلة، لا غنى عنها لأي عبد سائر إلى اللَّه عز وجل عنها
“الهدى” هو طلب الهداية، وهي كلمة شاملة تتناول كل ما ينبغي أن يُهتدى إليه من أمر الدنيا والآخرة من حسن الاعتقاد، وصلاح الأعمال، والأقوال، والأخلاق .
و”التقى”: أي التقوى: وهو اسم جامع لفعل ما أمر اللَّه به، وترك ما نهى عنه،وأصل الكلمة من التوقي، وهو أن تجعل بينك وبين عقوبة اللَّه تعالى وقاية, ويكون بفعل الطاعات، واجتناب المحرمات .
وبذلك يصلح الدين، فإن الدين علوم نافعة ، ومعارف صادقة فهي “الهدى”، وقيام بطاعة الله ورسوله فهو “التقى”،
أطلق الهدى والتقى؛ ليتناول كل ما ينبغي أن يهتدي إليه من أمر المعاش والمعاد ومكارم الأخلاق، وكل ما يجب أن يتقي منه من الشرك، والمعاصي، ورذائل الأخلاق.
“والعفاف”هو التنزُّه عما لا يُباح، والصيانة عن مطامع الدنيا، فيشمل العفاف بكل أنواعه العفاف عن الزنا، والتعفُّف عن الكسب، والرزق الحرام.
“والغنى” وهو غنى النفس بأن يستغني العبد عن الناس، وعمّا في أيديهم، فيستغني العبد بما أعطاه اللَّه، سواء أُعطي قليلاً أو كثيراً، وهذه الصفة يحبها اللَّه عز وجل قال النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ) رواه مسلم.
وسؤال اللَّه (العفاف والغنى)، وهما داخلان في الهدى والتقى من باب التخصيص بعد التعميم، وذلك لعظم شأنهما، وشدة احتياج الخلائق لهما.
وبذلك تتم سعادة الحياة الدنيا والراحة القلبية، وهي الحياة الطيبة فمن رُزق الهدى والتقى والعفاف والغنى، نال السعادتين، وحصل له كل مطلوب، ونجا من كل مرهوب.
سئل أحدهم عن حال الناس في بلده، فقال: “الخير كثير في أيديهم، ولكن الفقر كبير في قلوبهم”، فهذه عبارة مختصرة، لكنها معبرة، الفقر في قلوبهم، وإذا دخل الفقر في القلوب لا تسأل عن حال الإنسان، مهما أعطي يظل يلهث وراء الدنيا، يشعر أنه ناقص، وأنه أقل من الآخرين، فعليه أن يكثر الجري، ويلهث وراء هذه الدنيا، لعله أن يحصّل بعض ما فاته بكل طريق، فليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
لم قدم ” الهدى والتقى” على ” العفاف والغنى”؟
لأن الهدى والتقى قوام صلاح العبد في أمر دينه والعفاف والغنى قوام صلاحه في أمر دنياه . وأمر الدين مقدم على أمر الدنيا.
أو لأن “الهدى والتقى” فيهما شفاء الشبهات ، و”العفاف والغنى” فيهما شفاء الشهوات. وداء الشبهات أخطر من دعاء الشهوات.
وإن قيل: لم قدم”الهدى” على “التقى”؟
أجيب : ذلك لعله لأمور:
أحدها: أن “الهدى” هو العلم النافع، و”التقى” هو العمل الصالح ، والعلم مقدم على العمل في ضرورة تحصيله؛ قال تعالى:”فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك”. وبوب البخاري”باب العلم قبل القول والعمل”.
الثاني: أن “الهدى” سبب لتحصيل “التقى”؛ قال تعالى”والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم”.
الثالث: أن الهدى أخص بالظاهر، والتقى أخص بالباطن، وإصلاح الظاهر أيسر فقدم طلب تحصيله.
الرابع: أن”الهدى” عبارة عن اتباع الرسول ، والتقى مقتضٍ للإخلاص في الاتباع.
ولم قدم ” العفاف” على “الغنى”؟
لأن العبد أحوج إلى العفاف منه إلى الغنى.
أو لأن العفاف فيه من درء المفسدة ما ليس في الغنى.
أو لأن العفاف فيه كسر شهوة النساء، والغنى فيه كسر شهوة المال والتطلع.