شرح الأربعين النووية
21- قل: آمنت بالله ثم استقم
عن أبي عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي ، رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك ، قال : ( قل آمنت بالله ، ثم استقم) رواه مسلم
ترجمة راوي الحديث
هو سفيان بن عبدالله بن أبي ربيعة بن الحارث الثقفي، كان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه على الطائف، استعمله عليها حين عزل عثمان بن أبي العاص، ونقل عثمان إلى البحرين، وليس لسفيان بن عبدالله في صحيح مسلم غير هذا الحديث، كما ذكر النووي.
شرح الحديث
قوله : (قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك) أي: قولا لا أحتاج إلى أحد بعدك يفسره لي، فأعمل بما تقول، وأكتفي به.
وهذا من فقه الصحابي سفيان رضي الله عنه في سؤاله حيث سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهم أمر في الدين بحيث يكون وصية جامعة له يكفيه عن سؤال غيره ، وإذا أحسن طالب العلم صياغة السؤال نال جوامع العلم بأقل زمن وأيسر كلفة ، ومن رزق فقه السؤال فتح عليه في الفقه والفهم لمسائل الدين.
فأرشد النبي السائل إلى جملتين عظيمتين من جماع الخير وهما الإيمان والاستقامة وهذا من كمال نصحه وفصاحته وجوامعه صلى الله عليه وسلم وقد كان النبي يراعي مقام السائل وحاله وهذان الأمران يرجع إليهما صلاح العبد وهدايته وتوفيقه في الدنيا والآخرة ويترتب عليهما كل الخير والفلاح والفوز في الآخرة.
( قل آمنت بالله )
الوصية الأولى التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم هي الإيمان بالله وهو الإقرار الجازم بوجود الله وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
ولا يصح إلا بثلاثة أركان:
1- الاعتقاد بالقلب.
2- والإقرار باللسان.
3- والعمل بالجوارح.
والإيمان بالله يقتضي الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان له ستة أصول لا يصح إيمان العبد إلا بالإتيان بها جميعا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
(ثم استقم)
الوصية الثانية التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم: ( الاستقامة)
ما هي الإستقامة ؟
في الرياضيات الخط المستقيم هو: الخط الذي لا ميل فيه.
وعرفها العلماء بقولهم : الإستقامة هي سلوك الصراط المستقيم والدين القيم من غير تعريج أو ميلان عنه يمنة ويسرة ويشمل فعل الطاعات الظاهرة والباطنة وترك النواهي .
وقال النووي: الاستقامة ملازمة الطريق؛ بفعل الواجبات، وترك المنهيات؛ قال تعالى: ﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ﴾ [هود: 112]، وقال تعالى: ﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ﴾ [فصلت: 30].
ونخلص من هذا أن الاستقامة التزام المؤمن بفعل الطاعات الظاهرة والباطنة وترك المنهيات الظاهرة والباطنة، وهو ما يسميه البعض الالتزام ويقال: مسلم ملتزم والأصح مستقيم.
( ثم استقم ) فرتب الاستقامة على الإيمان ، فالاستقامة ثمرة ضرورية للإيمان الصادق .
ومن كلام السلف عن الاستقامة:
قال أبو بكر رضي الله عنه في تفسير: (ثم استقاموا). لم يشركوا بالله شيئا .
وقال عمر رضي الله عنه: ( استقاموا والله لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب.)
وقال ابن عباس رضي الله (استقاموا على أداء فرائضه).
وقال قتادة : (استقاموا على طاعة الله).
وكان الحسن إذا قرأ قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) قال: (اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة).
ومن معاني الإستقامة وخصائصها الوسطية والإعتدال بأن يتبع المؤمن الطريق الوسط ويلزم طريق أهل السنة في كل أبواب الدين من غير إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا جفاء ، وينبغي للمؤمن أن يدرك أنه إذا ورد الأمر من الله كان للشيطان فيه طرفان الزيادة والنقصان فليحذر كلا الطرفين وليسلك الوسط بينهما قال بعض السلف: (ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وتقصير وإما إلى مجاوزة وغلو ولا يبالي بأيها ظفر).
وقل من يوفق من الناس إلى سلوك الطريق الشرعي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا تغتر بكثرة من ضل عن الطريق.
حقيقة الاستقامة:
الاستقامة تكون بالقلب واللسان والجوارح، يقول ابن القيم – رحمه الله -: “والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال، والأحوال والنيات؛ فالاستقامة فيها وقوعها لله وبالله، وعلى أمر الله، قال بعضهم: كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة؛ فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالبك بالاستقامة؛ فالاستقامة للحال بمنزلة الروح من البدن، فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميت، فكذلك إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد… وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة”؛ [انظر: مدارج السالكين (2/103)].
ويقول ابن رجب رحمه الله: “أصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد… فمتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبته وإرادته ورجائه ودعائه والتوكل عليه والإعراض عما سواه – استقامت الجوارح كلها على طاعته؛ فإن القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان؛ فإنه ترجمان القلب، والمعبر عنه”؛ [انظر: جامع العلوم والحكم (193) بتصرف يسير].
جبر النقص بالاستغفار والتوبة:
لا يشترط في ثبوت وصف الإستقامة للمؤمن لزوم الشرع في جميع الأوقات والأحوال لأن الإنسان معرض للخطأ والتقصير والنفس تضعف والشيطان يتسلط والعبرة بغالب الحال ولا يؤثر الأمر العارض ولا يكاد يسلم المؤمن من التفريط.
ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرص على لزوم الإستقامة على حسب القدرة والتوفيق فإن تعذر ذلك فليحرص على المقاربة من حال الإستقامة فقال: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) متفق عليه.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها). رواه الترمذي.
ولما أثنى الله على المتقين ذكر أنه يقع منهم وقوع الفاحشة وظلم أنفسهم فقال تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) ولكن حال أهل الإستقامة عدم الإصرار على الذنوب والإنابة والتوبة والرجوع إلى الله وفعل الحسنات إذا حصل منهم تقصير وتفريط.
من ثمرات الاستقامة
1- تنزل السكينة على أهل الاستقامة :
قال تعالى: ﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ﴾ [فصلت: 30]؛ فالملائكة تتنزل عليهم بالسرور والحبور والبشرى في مواطن عصيبة، قال وكيع: “البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث”
2- الطمأنينة والسكينة:
حيث قال تعالى: ﴿ ألا تخافوا ولا تحزنوا ﴾ [فصلت: 30]؛ أي: لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمور الآخرة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا، وقال عطاء – رحمه الله -: “لا تخافوا رد ثوابكم؛ فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم؛ فإني أغفرها لكم”
3- البشرى بالجنة:
فقال تعالى: ﴿ وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ﴾ [فصلت: 30]، وهذا هو الهدف الذي ينشده كل مسلم، نسأل الله من واسع فضله.
4- سعة الرزق في الدنيا:
قال تعالى: ﴿ وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ﴾ [الجن: 16]؛ أي: كثيرا، والمراد بذلك سعة الرزق، وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أينما كان الماء كان المال”
5- الانشراح في الصدر والحياة الطيبة:
قال تعالى: ﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾ [النحل: 97]
سبل تحقيق الاستقامة
1- فعل الطاعات، والاجتهاد فيها، ومجاهدة النفس عليها:
وأهم ما يحافظ عليه العبد الصلوات الخمس، وكذلك بقية الفرائض، ويستزيد من النوافل، ويكثر منها، وفي الحديث القدسي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – مرفوعا: قال الله عز وجل: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) رواه البخاري.
فيحفظ الله عز وجل جوارحه، فلا يصدر منها إلا ما يرضيه سبحانه، وبهذا يكون حقق الاستقامة.
2- الإخلاص في العلم والعمل:
فلا بد من مجاهدة النفس على الإخلاص؛ فهو روح كل عبادة، وبه تستقيم النفس، وتصدق مع الله في الأقوال والأعمال؛ قال تعالى: ﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا ﴾ [الروم: 30].
3- الدعاء:
من مقويات الإيمان: دعاء الله تعالى تحقيق الاستقامة والثبات عليها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه الثبات على الدين، وقد أمرنا بقراءة الفاتحة في كل ركعة، وفيها نسأل الله تعالى فنقول: ﴿ اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ [الفاتحة: 6، 7]، فندعو الله تعالى؛ لأن الاستقامة والثبات عليها بيد الله تعالى.
4- الإكثار من قراءة القرآن:
ومحاولة حفظه أو ما تيسر منه، وكذلك تدبره والعمل به من أهم الأمور في تحقيق الاستقامة؛ فقد جعله الله تعالى سبيلا لمن أراد الاستقامة، فقال: ﴿ إن هو إلا ذكر للعالمين * لمن شاء منكم أن يستقيم ﴾ [التكوير: 27، 28]، وقال: ﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ﴾ [الإسراء: 9]، وعلى العبد ألا يترك ملازمة القرآن، سواء من حفظه أو من تلاوته تلاوة نظر، فمع تدبره ينال العبد نصيبا من زيادة الإيمان الذي هو سبب كل استقامة.
5- الصحبة الصالحة:
لأن صحبة البطالين وأهل المعاصي تضعف الاستقامة، تأمل كيف أن الله تعالى بعد أن أمر بالاستقامة حذر من الركون إلى أهل المعاصي؛ لأن هذا يؤثر على الاستقامة، فقال تعالى: ﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ﴾ [هود: 112، 113].
6- التوسط والاعتدال:
لا إفراط وغلو وتشديد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه)؛ متفق عليه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون)؛ أي: المتشددون، قالها ثلاثا، والحديث رواه مسلم من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وسلم: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون)؛ رواه البخاري، وأيضا لا تفريط، باتباع الرخص والهوى في الفتاوى ونحوها، ولكن الوسط في ذلك، وهو اتباع سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
من فوائد الحديث :
1- حرص الصحابة رضوان الله عليهم على أن يتعلموا ويسألوا عن أمور دينهم.
2- سؤال الله الثبات على دينه وكان النبي دائما يقول ” اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ”.
3- استقامة القلوب استقامة للجوارح.
3- الثبات على الإستقامة يعني بإذن الله خاتمة حسنة .
4- الحديث دليل على أن جماع الخير في الاستقامة بعد الإيمان.