“العمل للقاء الله”
خاطرة إيمانية ألقيت في عزاء
هذه الحياة الدنيا دار ابتلاء، والله عز وجل قال: ﴿ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡغَفُورُ﴾ [الملك 2] فكلنا في دار الابتلاء وكل واحد منا له أجل محدد أجل مسمى قال تعالى:﴿هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن طِینࣲ ثُمَّ قَضَىٰۤ أَجَلࣰاۖ وَأَجَلࣱ مُّسَمًّى عِندَهُۥۖ ثُمَّ أَنتُمۡ تَمۡتَرُونَ﴾ [الأنعام 2] ، هذا الأجل إذا جاء انقطعت عنا الحياة، بلا تقديم ولا تأخير،كما قال الحق تبارك وتعالى ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلࣱۖ فَإِذَا جَاۤءَ أَجَلُهُمۡ لَا یَسۡتَأۡخِرُونَ سَاعَةࣰ وَلَا یَسۡتَقۡدِمُونَ﴾ [الأعراف :34]
ونزل جبريل الأمين على النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات قال: (يامحمد عش ماشئت فإنك ميت واعمل ماشئت فإنك مجزى به وأحبب من شئت فإنك مفارقه وأعلم أن شرف المؤمن صلاته بالليل وعزه استغناؤه عن الناس )
(عش ما شئت) ثم ماذا؟ فإنك ميت، وقد قالها الله لنبينا صلى الله عليه وسلم ﴿إِنَّكَ مَیِّتࣱ وَإِنَّهُم مَّیِّتُونَ﴾ [الزمر 30]، فكلنا حكم علينا بالفناء فلا خلود لأحد، قال تعالى:﴿وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرࣲ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِی۟ن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَـٰلِدُونَ ٣٤ كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَیۡرِ فِتۡنَةࣰۖ وَإِلَیۡنَا تُرۡجَعُونَ ٣٥﴾ [الأنبياء 34-35]
فكل نفس ستأتيها اللحظة التي قدرها الله عز وجل فتذوق الموت، حتى رسول الله أكرم الخلق على الله، ولذلك لما أخبر الصديق رضي الله عنه بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له منزل في عوالي المدينة في السنح ، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله قال بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا أما الموتة التي كتبها عليك فقد ذقتها ) فمات رسول الله ومات قبله الأنبياء والمرسلون وسيأتي الموت لكل نفس خلقها الله في الميعاد الذي قدره الله.
أيا عبد كم يراك الله عاصيا ***حريصا على الدنيا وللموت ناسيا
أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ***ويوما عبوسا تشيب فيه النواصيا
إذا المرء لم يلبس لباسا من التقى*** تجرد عريانا وإن كان كاسيا
ولو أن الدنيا تدوم لأهلها ***لكان رسول الله فيها حيا وباقيا
ولكنها تفنى ويفنى نعيمها ***وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا وأن ترحمنا وأن تستر عيوبنا وأن تجبر كسرنا وأن ترحم ضعفنا
فيا إخواني هذا صاحبنا قد لقي ربه وفق أجله الذي قدره الله له، ونحن جئنا هنا لنواسي أهله في هذا المصاب ولنذكر أنفسنا جميعا بهذه الحقيقة التي لا كذب فيها ولا غش ولا مبالغة وهي أن كل واحد منا له نهاية.
وفي الفترة الأخيرة كثر الكلام عن يوم القيامة وعلامات يوم القيامة واقتراب يوم القيامة ونسي الناس أن هناك ما هو أقرب من القيامة: أجلي وأجلك ، وهذا حق لا ريب فيه ، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبا ربه: ( أنت الحقُّ، ووعدك الحقُّ، وقولك الحقُّ، ولقاؤك الحقُّ، والجنَّة حقٌّ، والنار حقٌّ، والنَّبيون حقٌّ، ومحمدٌ ﷺ حقٌّ، والسَّاعة حقٌّ)
فهذه موعظة لنا جميعا نسأل الله أن نكون من الأنفس التي تستمع للقول فتتبع أحسنه.
فليسال كل واحد منا هل أنا مستعد للقاء الله؟
ماذا أعددت للقاء ربي؟
هل أنا هكذا على حالي وعلى عملي وعلى وضعي هذا أصلح أن ألقى الله عز وجل؟
والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ( أكثروا من ذكر هازم اللذات) لم يكن معناها أن يمسك أحدنا بمسبحة، ويقول مكررا: الموت الموت الموت ، كلا ، فإن المقصود أكثروا من ذكر هادم اللذات يعني أن تستعد ليوم ستلقى فيه الله، قال تعالى: ﴿وَٱتَّقُوا۟ یَوۡمࣰا تُرۡجَعُونَ فِیهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ﴾ [البقرة 281]
وهذا اليوم طوي في علم الله …لا يعلمه أحد إلا هو فإذا جاء الأجل لقيت الله سبحانه وتعالى… فماذا قدمت لهذا اليوم؟
نحن الآن نسمع مواعظ الموت وكل واحد يراجع نفسه بماذا ألقى ربي جل في علاه؟
ما هو عملي الصالح؟
ما أفعل بذنوبي؟ هل عندي حقوق للعباد أو مظالم؟
لو أن الله قضى في بأجله سيقع الأمر وأنا على حال خير؟ أم على حال سوء؟
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله؛ قالوا: وكيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت)
والله تعالى من رحمته أخفى علينا ميعاد الموت لأمرين:
الأمر الأول/ حتى نبقى على استعداد دائم للقاء الله:
أحد الإخوة اضطر أن يسافر فلم يجد أي طيران فلما تكلم مع الشركة قالوا وضعناك على قائمة الانتظار؛ قال: يعني أي ميعاد تقريبا؟ اليوم غدا صباحا مساء؟
قالواله : ضع حقيبتك وراء الباب وانتظر اتصالا منا.
من فينا ليس كهذا المسافر ضع حقيبتك وراء الباب وانتظر اتصالا منا، فإذا جاء منادي الله تلبي النداء، فيبقى كل واحد منا على استعداد دائم للقاء الله سبحانه وتعالى.
لما حانت ساعة وفاة بلال رضي الله عنه صرخت ابنته وقالت: وامصيبتاه واكرب أبتاه !!
فقال لها: (انظروا إلى اليقين يا إخواني) لا كرب على أبيك بعد اليوم غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه.
يقين مؤمن كبير من قامة كبيرة كبلال رضي الله عنه ؛ غدا هي روح ستخرج ثم اجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام.
أحزان قلبي لا تزول*** حتى أبشر بالقبول
وأرى كتابي باليمين ***وتقر عيني بالرسول
الأمر الثاني/ أن الله تعالى أراد بنا خيرا أن أخفى علينا ميعاد الموت:
تخيلوا لو أن الواحد فينا مثل عمر بطارية الهاتف تبدأ في أول النهار100 % ثم تبدأ تقل حتى يغادر الحياة 0 % هذه هي أعمارنا سبحان الله تخيل لو أنك تعلم أن باقي في حياتك 20 % 10% 3% تخيل كيف تكون الحياة؟ أصعب ما تكون وأشد ما تكون.
أذكر وأنا شاب صغير كان معنا رجل طيب أحيل للمعاش (للتقاعد) و ما شاء الله عليه إلتحى وأصبح مواظبا على صلاة الجماعة في الصف الأول خمس صوات كأنه كان يجهزنفسه لله سبحانه وتعالى هذا الرجل رأى في منامه أنه يقرأ سورة النصر (إذا جاء نصر الله والفتح) فقعد في جلسة الإخوة كبار السن في المسجد وحكى لهم عن الرؤيا.. قالوا له فلان عنده كتاب تفسير الأحلام ، يافلان هات الكتاب من عندك وكان فيه أن من رأى أنه يقرأ سورة النصر فقد اقترب ميعاد موته!!!
طبعا الاستدلال بقصة ابن عباس مع عمر معروفة لما قال : ما أرى إلا أن الله نعى نبيه لنفسه!!!
وأصيب الرجل بالمرض ولم يستطع مغادرة الفراش وجاؤوا بالطبيب إلى البيت … الطبيب قال ما في أي شيء … طيب نذهب به للمستشفى ؟ قال والدكم ما فيه ولا شيء… هل أحد زعله ؟ لا والله ، هل أحد من أقاربكم مات؟ لا والله …. والرجل كان لا يتكلم ويرفض الطعام أو يأكل قليلا جدا بالكاد وظل هكذا أسبوع طريح الفراش لا يدرون ما به ….كل ما هنالك ساعة الصلاة يقوم يصلي ويرجع لفراشه لا يتكلم ، في آخر يومين نادى على ابنه الكبير وهو من أخبرنا القصة وقال له: أسمع يا محمد أنا حصل كذا وكذا وحكى له الرؤيا وتفسيرها وعاش بعدها يومين وتوفاه الله رحمة الله عليه.
فهذا الرجل لما عرف مجرد معرفة بقرب موعد الموت زهد في كل شيء.
فمن رحمة الله تعالى أن أخفى علينا ميعاد الموت لنبقى دائما على استعداد ورحمة من الله بنا حتى تطيب لنا الحياة فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل .
أختم بتعزيتي لأخي وحبيبي في الله في وفاة والده، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لوالدنا الكريم، وأنا قد عشت هذه اللحظات العام الماضي عندما توفي والدي، فهذا مصاب شديد وصعب وألم الموت في أعز الأحباب في الوالدين لا يبرد القلوب ولا يلقي عليها السكينة إلا بالتسليم لقضاء الله عز وجل.
قد يبكي الإنسان لفراق صديق أو حبيب أو قريب لكن أشد ألم فراق الوالدين، نسال الله تعالى أن يرحم والدينا وأن يربط على القلوب.
ووصيتي لمن كان والديه على قيد الحياة فز ببرهما فز ببر والديك أنت عندك كنز باب من أبواب الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الوالد (الأب أو الأم) أوسط أبواب الجنة) وفي الحديث لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم وقال آمين فقال : قد أتاني جبريل وقال: خاب وخسر من أدرك والديه أحدهما أو كلاهما ولم يغفر له قل آمين فقلت آمين .
فكل من كان أبويه أو أحدهما على قيد الحياة بالله عليك لا تبخل باتصال على والديك ؛ لا تبخل بصلتهما، أو بالإحسان إليهما أوبزيارتهما وودهما، وفز بالدعوات الصالحة منهما قبل أن يتوفيا وتفقدهم.
ومن توفى منهم يتوفى وهم عنك راضين حتى تلقى الله عز وجل بهذا الفضل العظيم باب بر الوالدين.
ورحم الله تعالى جميع أمواتنا
ونسال الله سبحانه وتعالى
اللهم اغفر لوالدنا الكريم وارحمه رحمة واسعة
وأسكنه فسيح جناتك وألحقه بالصالحين
برحمتك يا ارحم الراحمين
ربنا اتنا في الدنيا حسنة
وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا المصطفى وعلى آله وصحبه أجمعين
وجزاكم الله خيرا ولا أراكم الله مكروها في عزيز لديكم