عظمة الله رب العالمين
5- نظر المؤمنين إلى وجه الله الكريم
جرير رضي الله عنه يذكر أنهم كانوا جلوسًا حول رسول الله ﷺ، والقمر كان بدرا نظر النبي ﷺ إلى القمر وقال لأصحابه: “أما إنكم سترون ربكم كرؤيتكم لهذا القمر ليلة البدر.” والتشبيه هنا لإمكانية الرؤية، وليس أن الله يشبه القمر، لأن الله: “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” (سورة الشورى: 11).
والعلماء قالوا إن الرؤية في الدنيا غير ممكنة للبشر، بدليل قول الحق جل وعلا لموسى عليه السلام لما قال: “رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ”، قال: “لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوْفَ تَرَىٰنِى” (سورة الأعراف: 143). فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًا، اندك الجبل، ومن قوة اندكاكه خر موسى صعقًا – أي أغمي عليه. فلما أفاق قال: “سُبْحَـٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ” (سورة الأعراف: 143).
والنبي ﷺ قال: “إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا.” وتكلمنا في درس أول أمس عن حديث: هل رأى النبي ﷺ ربه؟ فلما سئل عن هذا السؤال قال: “نورٌ أنى أراه.” ومعنى قول النبي ﷺ “نورٌ أنى أراه”، كما فُصّل في حديث آخر: “حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.” فالنبي ﷺ لم يرَ ربه، وإنما رأى حجابًا من نور حال بينه وبين الرؤية.
إذًا، فرؤية الله تعالى غير ممكنة في الدنيا. أما في الآخرة، فإن الله تعالى يخلق في عباده القدرة على رؤيته وعلى النظر إلى ذاته الكريمة جل جلاله. نحن في الدنيا لنا قوة أبصار محدودة، وهناك أشياء كثيرة لا نراها، والله تعالى قال: “فَلَآ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ” (سورة الحاقة: 38-39).
نحن مثلًا، على سبيل المثال، معنا في المسجد ملائكة تدعو لنا وتستغفر لنا، ونحن لا نراها، لكن هذه الملائكة سنراها غدًا في الجنة: “وَالْمَلَـٰٓئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍۢ. سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى ٱلدَّارِ” (سورة الرعد: 23-24). ومعنا الجن يعيشون بيننا لكننا لا نراهم، وسنراهم غدًا يوم القيامة.
كذلك النظر إلى ذات الله العلي ليس في قوة البشر أن ينظروا إليه جل جلاله في الدنيا، أما في الجنة، فإن الله ينشئنا خلقًا آخر.
ولذلك ورد في قول الله تعالى: “لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا۟ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ” (سورة يونس: 26). قال العلماء: الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم.
ومعنى: “لا تضامون في رؤيته”، التضام هو الازدحام، يعني كما يحدث أن الناس يريدون رؤية شيء فيزدحمون عليه.
والمعنى هنا أن من كان في هذه المدينة يرى القمر، ومن كان في مدينة أخرى يرى القمر، ومن كان في مدينة رابعة وخامسة، فالقمر يراه الجميع بلا تضام ولا ازدحام.
فجميع أهل الجنة سيرون ربهم سبحانه وتعالى بلا تضام ولا ازدحام؛ يخلق الله تعالى فيهم القدرة على رؤيته جل جلاله: “وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ” (سورة القيامة: 22-23).
ومن جميل ما يروى عن الشافعي ما ذكره عنه الربيع بن سليمان ـ وهو أحد تلاميذه ـ: قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عز وجل: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)؟ فقال الشافعي: ” لما أن حجب هؤلاء في السخط، كان في هذا دليلٌ على أن أولياءه يرونه في الرضى ”
ما تفسير قول الله تعالى: “لَا تُدْرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَـٰرَ” (سورة الأنعام: 103)؟
للعلماء في تفسيرها قولان :
القول الأول :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ في الدنيا لأنه وعد في القيامة الرؤية بقوله: ﴿ وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ﴾ والمطلق يحمل على المقيد،إذن فالمعنى لا تدركه الأبصار في الدنيا، وهو يرى في الآخرة.
القول الثاني : أن الإدراك غير الرؤية؛ لأن الإدراك هو الوقوف على حقيقة الشيء والإحاطة به والرؤية المعاينة، فنفى الإدراك مع إثبات الرؤية، فالله عز وجل يجوز أن يرى من غير إدراك وإحاطة كما يعرف في الدنيا ولا يحاط به، قال الله تعالى: ﴿ ولا يحيطون به علما ﴾ [طه: 110]، فنفى الإحاطة مع ثبوت العلم، قال سعيد بن المسيب: لا تحيط به الأبصار، وقال عطاء: كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به.
وقوله: وهو يدرك الأبصار، أي: لا يخفى على الله شيء ولا يفوته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :” وحينئذ فتكون الآية دالة على إثبات الرؤية ، وهو أنه يرى ولا يدرك ، فيرى من غير إحاطة ولا حصر ، وبهذا يحصل المدح ؛ فإنه وصف لعظمته أنه لا تدركه أبصار العباد وإن رأته ، وهو يدرك أبصارهم ، قال ابن عباس – وعكرمة بحضرته – لمن عارض بهذه الآية : ” ألست ترى السماء ؟ ” . قال : بلى ، قال : ” أفكلها ترى ؟ ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (16/88) .
وهذا القول الثاني هو الراجح .