القانون الثاني: “ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها” (سورة الأنعام: الآية 160):
وهذا من لطف الله ورحمته؛ إذ لا يضاعف السيئة كما يضاعف الحسنة، إنما السيئة تكتب سيئة واحدة كما هي.
هل تضاعف السيئة؟
الذي عليه جمهور العلماء أنها لا تضاعف، ولا حتى في مكة، خلافاً لمن قال من أهل العلم: إنها تضاعف في مكة؛ لأن القواطع في القرآن قائمة على أن السيئة لا تضاعف، قال الله جل وعلا: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160].
لكن نقول من باب العلم -والعلم عند الله-: إنها قد تعظم لشرف المكان، لكنها لا تتعدد، بل تبقى سيئة واحدة، لكنها بتعبير علمي سيئة مغلظة وسيئة عظيمة؛ لشرف الزمان كالمعصية في رمضان، أولشرف المكان كالمعصية داخل الحرم، فلا نستطيع أن نعددها؛ لأن الله يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، لكن كذلك نقول: إنها تعظم لشرف المكان، أو شرف الزمان.
قال تعالى: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25]، وكان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم خشية ارتكاب الذنوب فيه، منهم: ابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو؛ وكان يقول: “الخطيئة فيه أعظم“.
قال مجاهد: “تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات“.
قال إسحق بن منصور: “قلت لأحمد في شيء من الحديث: هل السيئة تُكتب بأكثر من واحدة؟ قال: لا، ما سمعنا إلا في مكة لتعظيم البلد“.
وقال ابن القيم – رحمه الله –: (تضاعف مقادير السيئات فيه لا كميتها فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن سيئة كبيرة) ثم يقول: (فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه) انتهى. [زاد المعاد 1-51]
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: “أما السيئات فالذي عليه المحققون من أهل العلم أنها لا تضاعف من جهة العدد، ولكن تضاعف من جهة الكيفية، أما العدد فلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام: 160]، فالسيئات لا تُضاعف من جهة العدد لا في رمضان ولا في الحرم ولا في غيره، بل السيئة بواحدة دائمًا، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى وإحسانه”
لتقريب المعنى، لو أن شخصًا ارتكب خطأ، وكان العقاب غرامة مالية. فإن الغرامة قد تكون مخففة بحيث تُسدد بالتقسيط على سنة أو سنتين، أو تكون مخففة في مبلغها.
أما العقوبة المشددة، فهي التي يكون فيها الدفع فوريًا أو أن المبلغ مضاعف، أو تُفرض عقوبات إضافية عند التأخير. مثال آخر: السجن قد يكون سجنًا عاديًا، أو سجنًا انفراديًا مشددًا.
هذا هو المقصود بأن المضاعفة تكون في الكيف وليس في الكم.
فالله تعالى وصف أن من يهم بالإلحاد بظلم في بيت الله الحرام ينال عقابًا شديدًا بسبب قدسية المكان، وليس لأن السيئات تضاعف عددًا.
فالله تعالى قال: “ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم” (سورة الحج: الآية 25). هذا يعني أن مجرد الهمِّ بالإلحاد أو الظلم في بيت الله الحرام يُعتبر جريمة عظيمة تُستوجب عقابًا أليمًا من الله عز وجل.
لكن هذه العقوبة ليست من باب مضاعفة السيئات عددًا، وإنما هي من باب شدة العقاب بسبب حرمة المكان وقداسته.
فالمضاعفة هنا، كما ذكرت، تكون في الكيف وليس في الكم.
وعلى سبيل المثال، إذا اعتدى شخص على أحدٍ خارج الحرم قد تكون العقوبة مخففة، أما إذا ارتكب نفس الاعتداء في بيت الله الحرام فإن العقوبة تكون أشد بسبب شرف المكان.
هل تضاعف السيئات في الأشهر الحرم؟
ولكن يشيع الآن عند الناس – بمناسبة أننا في شهر رجب – أن الأشهر الحرم تتضاعف فيها الحسنات وتتضاعف فيها السيئات، وهذا كلام غير صحيح يا إخواني من الناحية الشرعية والتأصيلية.
يرجع ذلك لتفسير قوله تعالى: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} فيه قولان:
أحدهما: لا تظلموا أنفسكم في الشهور كلها.
الثاني: المراد بذلك الأشهر الحرم فقط.
واختلف في المراد بالظلم على قولين أيضا:
أحدهما: لا تظلموا فيهن أنفسكم بتحليلهن ، يعني قلبها من شهر حرام إلى شهر حلال كما كان يفعل العرب .
الثاني : لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب فيهن .
فإن الله إذا عظم شيئا من جهة صارت له حرمة واحدة ، وإذا عظمه من جهتين أو من جهات صارت حرمته متعددة بعدد جهات التحريم ، ويتضاعف العقاب بعمل السيئات فيها، كما ضاعف الثواب بالعمل الصالح فيها ؛ فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام والمسجد الحرام ليس كمن أطاعه في شهر حلال في بلد حلال في بقعة حلال، وكذلك العصيان والعذاب مثله في الموضعين .
وهذا كله اجتهاد في فهم الآية لا يرقى أن يكون دليلا قطعيا في المسألة وأرى أن الحديث القدسي (وإن هم عبدي بسيئة فعملها فاكتبوها له واحدة) يفصل في المسألة بشكل واضح وأن ما يساق من شأن المضاعفة من باب الترهيب من الوقوع في السيئات والترغيب من الإكثار من الحسنات، لكن الحقيقة الشرعية لم يأت دليل قطعي في مضاعفة السيئات في بعض الأزمان وإنما هو اجتهاد من أهل العلم.
