لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
ما أكثر الظلمات التي أحاطت بِنَا هذه الأيام ظلمات المعاصي والآثام ، وظلمات فتن كقطع الليل المظلم، ظلمات الاستبداد والظلم ، ظلمات النفاق ، وظلمات الشبهات والشهوات ، وظلمات الجهل بالله والجرأة على أوامره، وظلمات الكفر والإلحاد ….الخ ، كل هذه الظلمات نحتاج معها ان ننادى رب العالمين متضرعين مستغفرين:
لا إله الا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين
هذه الكلمات الطيبات قالها نبي الله يونس وهو في بطن الحوت ؛ فما قصتها وما فضلها وما معناها ، نبدأ أولا بالتعريف بنبي الله يونس .
أولا / نسب يونس عليه السلام :
هو نبي الله يونس بن متى ،وقد ورد ذلك في قصة عداس الذي التقى به النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية رحلة الطائف حينما جلس بظل بستان من بساتينها من شدة ما لاقاه من أهل الطائف، فتحرّكت بعض العاطفة في قلبي ابنَي ربيعة صاحبي البستان للنبي صلى الله عليه وسلم، فدعوا غلامًا لهما نصرانيا اسمه عدّاس، وقالا له -كما ترويه كتب السير-: خذ قطفا من العنب، واذهب به إلى الرجل، فلما وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مد يده إليه قائلا: ( باسم الله ثم أكل، فقال عدّاس: إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : من أيّ البلاد أنت؟ قال: أنا نصراني من نينوى (بلدة بالعراق)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمِنْ قرية الرّجل الصّالح يونس بن متّى؟ فدُهِش عدَّاس وقال للنبي صلى الله عليه وسلم متعجبًا: وما يدريك ما يونس؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أخي، كان نبيّا وأنا نبيّ.
فأكبّ عدّاس على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجليه يقبلهما، فلمّا جاء عدّاس قالا له: ويلك يا عداس! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي [السيرة النبوية، لابن هشام].
ثانيا / دعوته عليه السلام:
أرسله الله إلى أهل نينوى الذين كانوا في أرض الموصل بالعراق ليدعوهم إلى أن يعبدوا الله وحده، وكان أهل نينوى عددهم أكثر من مائة ألف كما قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ سورة الصافات 147.
وكانوا قد انتشرت فيهم عبادة الأصنام ، فذهب نبي الله يونس فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام، فكذبوه وتمردوا وأصروا على كفرهم ولم يستجيبوا لدعوته، وبقي يونس عليه السلام بينهم صابرًا على الأذى يدعوهم ، ولكنه مع طول مكثه معهم لم يلق منهم إلا عنادًا وإصرارًا على كفرهم ووجد فيهم آذانًا صُمًا وقلوبًا غلفا.
ولما أصروا على كفرهم ، ووقفوا معارضين لدعوة نبي الله يونس عليه السلام، يأس يونس عليه السلام منهم بعدما طال ذلك عليه من أمرهم وخرج من بين أظهرهم مغاضبًا لهم لكفرهم قبل أن يأمره الله تعالى بالخروج وظنّ أن الله تعالى لن يؤاخذه على هذا الخروج من بينهم ولن يضيق عليه بسبب تركه لأهل هذه القرية وهجره لهم قبل أن يأمره الله تبارك وتعالى بالخروج، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87].
ثالثا / إيمانُ قوم يونس عليه السلام ورفع العذاب عنهم:
ولما خرج عليه السلام ، وافتقده قومه فلم يجدوه، أيقنوا بوقوع العذاب والهلاك بهم عندها ألهمهم الله التوبة والإنابة ، عند ذلك آمنوا بالله وبرسوله فاستجاب الله منهم وكشف عنهم بقدرته ورحمته العذاب الذي كان قد صار قريبًا جدًا منهم ، يقول الله عز وجل: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ سورة يونس 98.
رابعا / يونس في بطن الحوت:
سار يونس حتى وصل إلى شاطئ البحر فوجد قومًا في سفينة ، فطلب من أهلها أن يركبوه معهم فتوسموا فيه خيرًا فأركبوه معهم ، وسارت بهم السفينة ، فلمّا توسطوا البحر جاءت الرياح الشديدة وهاج البحر بهم واضطرب بشدة ، فقال من في السفينة: إنّ فينا صاحب ذنب، فأسهموا واقترعوا فيما بينهم على أنّ من يقع عليه السهم يلقونه في البحر، فلمّا اقترعوا وقع السهم على نبيّ الله يونس عليه الصلاة والسلام، ولكن لما توسموا فيه خيرًا لم يسمحوا لأنفسهم أن يلقوه في البحر، فأعادوا القرعة ثانيةً فوقعت عليه أيضًا، فشمّر يونس عليه السلام ليلقي بنفسه في البحر فأبوا عليه ذلك لما عرفوا منه خيرًا، ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت القرعة عليه أيضًا، فما كان من يونس عليه السلام إلا أن ألقى بنفسه في البحر لأنه كان يعتقد أنه لا يصيبه هلاك بالغرق، فلا يجوز أن يظن أن ذلك انتحار منه.
وعندما ألقى يونس عليه السلام بنفسه في البحر وكّل الله تبارك وتعالى به حوتًا كبيرًا فالتقمه ابتلاء له على تركه قومه الذين أغضبوه دون إذن من الله، فدخل نبي الله يونس عليه السلام إلى جوف الحوت تحفُّهُ عنايةُ الله، حتى صار وهو في بطن الحوت في ظلمات حالكة ثلاث وهي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت.
ثم إن الحوت بقدرة الله تعالى لم يضر يونس ولم يجرحه ولم يخدش له لحمًا ولم يكسر له عظمًا، فما كان من نبي الله يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت وفي تلك الظلمات إلا أن أخذ يدعو الله عز وجل ويستغفره ويسبّحه تبارك وتعالى قائلًا ما ورد عنه في القرءان: ﴿ لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87].، واستجاب الله تعالى دعاءه ونجاه من الغمّ والكرب والضيق الذي وقع فيه لأنه كان من المُسبّحين له في بطن الحوت والذاكرين، وأمر الله تعالى الحوت أن يلقيه في البرّ فألقاهُ الحوت بالعراء وهو المكان الذي ليس فيه أشجار والأرض التي لا يُتوارى فيه بشجر ولا بغيره، ويونس عليه السلام مريض ضعيف.
وقد مكث نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، وقيل غير ذلك والله أعلم.
ولولا أنه سبح الله وهو في بطن الحوت للبث في بطن الحوت إلى يوم القيامة ولبُعث من جوف الحوت، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وإنَّ يونسَ لَمِنَ المُرسلينَ * إذْ أبَقَ إلى الفُلكِ المَشحون * فساهَمَ فكانَ مِنَ المُدحضين * فالتقمهُ الحوتُ وهُوَ مُليمٌ * فلولا أنَّهُ كانَ مِنَ المُسبِّحين * للَبِثَ في بطنِهِ إلى يومٍ يُبعثون * فنبذناهُ بالعراءِ وهُوَ سقيمٌ * وأنبتنا عليهِ شجرةً مِن يقطين * وأرسلناهُ إلى مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ * فآمنوا فمَتَّعناهُم إلى حين﴾ سورة الصافات(139-148).
خامسا / الاعجاز في قوله تعالى : فالتقمهُ الحوتُ :
حكى الدكتور محمد راتب النابلسي موقفا لأحد العلماء فقال: يقول أحد العلماء: كنت أقرأ لعشرات المرات ولعشرات السنين قصة سيدنا يونس، ومنذ سنتين فقط توقفت عند قول الله تعالى في الآية 142 من سورة الصافات: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}، فقلت في نفسي: لماذا قال الله تبارك وتعالى {فَالْتَقَمَهُ الحُوتُ}؟
وتابع النابلسى قائلاً: فبدأت أدرس طبيعة الحيتان فوجدت أن هناك مجموعة من الحيتان اسمها الحيتان الزرقاء، والحوت الأزرق أضخم حيوان خلقه الله تبارك وتعالى على وجه الأرض، فهو أضخم من الديناصورات، وأضخم من الفيلة، فطوله يمكن أن يصل إلى أكثر من 35 متراً، ويمكن أن يصل وزنه إلى أكثر من 180 طنا.. وهذا الحيوان على ضخامته لا يأكل إلا الكائنات الميكروسكوبية الضئيلة التي تسمى (البلانكتون) الكائنات الطافية الهائمة، فهو لا يملك أسنانا إطلاقاً، وله ألواح رأسية يصطاد بها هذه الكائنات الطافية.
وأوضح فضيلته أن هناك طريقة لتناول الحوت لطعامه: يأخذ بفمه عدة أمتار مكعبة من الماء فيصطاد ما فيها من كانت طافية، ويخرج الماء من جانبي الفم، يعني لا تفلت منه واحدة من هذه (البلانكتون).
وأضاف النابلسى أن الشاهد في القصة عن الحوت الأزرق وسيدنا يونس: أن هذا الحوت على ضخامته، بلعومه لا يبلع إلا هذه الكائنات الدقيقة فإذا دخل فمه أي شيء كبير لا يُبتلع، ولذلك بقي سيدنا يونس عليه السلام في فمه كاللقمة.
ولهذا قال الله عزّ وجل: {فَالْتَقَمَهُ الحُوتُ}؛ يعني لا هو قادر على بلعه، ولا مضغه، لأنه (أهتم) أي: ليس له أسنان، والمعروف أن الحوت يتنفس بالأكسجين ولذا فهو يرتفع فوق سطح الماء مرة كل 15 دقيقة.
واستعرض فضيلته رأى علماء الحيوان فى الحوت: أن لسان الحوت يستطيع أن يقف عليه أكثر من رجل والفم مغلق، مرتاحين بدون أي مضايقة!؛ بمعنى: أن سيدنا يونس كان جالساً بما يشبه الغرفة الواسعه المكيفة؛ ولهذا قال ربنا تبارك وتعالى: {فَالْتَقَمَهُ الحُوتُ} ولم يقل ابتلعه أو هضمه.
وتابع قائلاً: لقد قرأت الآية مئات المرات ولم تستوقفني أبداً إلا حينما تأملت فيها ولذلك أقول: كلما تأمل الإنسان في القرآن الكريم يرى العجب ويفهم ما يجعله على يقين تام بالله رب العالمين سبحانه جلَّ وعلا، وصدّق كل حرف بالقرآن المجيد، ولقد تأملت وراجعت المصادر العلمية، وكذلك عدت للعهد القديم باللغة الإنجليزية وهو التوراة فوجدتهم يقولون: (ابتلعته سمكة كبيرة)، وطبعاً هناك فرق كبير جداً، لأنه لو اُبتلِع لهلك بعملية الهضم.
يعني الدلالة القرآنية هنا دقيقة تماماً، بل فى غاية الدقة {فَالْتَقَمَهُ الحُوتُ}، تعني: بقي كلقمة في فم الحوت، لا يستطيع أن يبلعها، ولم يلفظها مباشرة.
ما الفائدة في إنبات شجرة اليقطين عليه دون غيرها؟
وأوضح الشيخ فيما يخص نفس القصة فى القرآن الكريم أن الله تعالى يقول : {وأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ}، أي: بعد خروجه، فلماذا اليقطين؟
اليقطين: هو القرع بأنواعه المختلفة، ومنه القرع العسلي وهو يملك أكبر حجم لورقة نبات، ولأن الله تبارك وتعالى يريد أن يستر عبده ونبيه فستره بشجرةٍ من يقطين تملك أكبر حجم لأوراق الشجر.
ثم بدراسة متأنية لشجرة اليقطين وجدت: أن اليقطين ساقه وفروعه وأوراقه وثماره مليئة بالمضادات الحيوية، ولهذا لا تقربه حشرة!!؛ أي: أن كل كلمة وكل حرف في القرآن الكريم له حكمة بالغة تثبت صدق القرآن بكل حرف منه، وذلك لأنني عندما عدت إلى العهد القديم أيضاً، وجدت أنهم يقولون فظللته شجرة من العنب، والعنب مليء بالحشرات ولا يملك أن يظلل سيدنا يونس؛ لأن أوراقه صغيرة ولا يملك أن يشفي جراح سيدنا يونس؛ لأنه لا يملك الكم الهائل من المضادات الحيوية الموجودة بشجرة اليقطين.
سادسا / عودة يونس إلى قومه:
ولما أصاب نبي الله يونس ما أصابه علم أنّ ما أصابه حصل له ابتلاء له بسبب استعجاله وخروجه عن قومه الذين أُرسل إليهم بدون إذن من الله تعالى، وعاد عليه الصلاة والسلام إلى قومه أهل نينوى في العراق فوجدهم مؤمنين بالله تائبين إليه منتظرين عودته عليه السلام ، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وأرسلناهُ إلى مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ* فآمنوا فمَتَّعناهُم إلى حين﴾ سورة الصافات.
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
أولا / فضل هذا الذكر
1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “دعوةُ ذي النون إذ دعا ربهُ وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدْعُ بها رجل في شيء قطُّ إلا استجاب له” رواه الترمذي وصححه الألباني.
2- عن سعد رضي الله عنه قَالَ : ” كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْكُمْ كَرِبٌ ، أَوْ بَلَاءٌ مِنْ بَلَايَا الدُّنْيَا دَعَا بِهِ يُفَرَّجُ عَنْهُ ؟ ) فَقِيلَ لَهُ : بَلَى ، فَقَالَ: ( دُعَاءُ ذِي النُّونِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) وصححه الألباني .
3- عن سعد بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ” هل أدلكم على اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ؟ الدعوة التي دعا بها يونس حيث ناداه في الظلمات الثلاث ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ” . فقال رجل : يا رسول الله ، هل كانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ” ألا تسمع قول الله عز وجل : ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين “رواه الطبراني وصحح الألباني
ثانيا / شرح معانيها :
قوله تعالى: ﴿وذَا النُّونِ﴾ يعني يونس بن متى عليه السلام و”النُّونِ” أي الحوت وأضيف عليه السلام إليه لابتلاعه إياه.
وقوله تعالى: ﴿إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا﴾ أي ذهب مغاضبًا لقومه من أهل نينوى لأنهم كذبوه ولم يؤمنوا بدعوته وأصروا على كفرهم وشركهم وأبطؤوا عن تلبية دعوته والإيمان به بما جاء به من عند الله، ولا يجوز أن يُعتقد أن نبي الله يونس عليه السلام ذهب مُغاضبًا لربه هذا كفر وضلال، بل كان مغاضبا لقومه .
وأما قوله تعالى: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أي ظنَّ أن الله تعالى لن يُضيّق عليه بتركه لقومه قبل أن يؤمر بذلك، ولا يجوزأن يعتقد أن نبي الله يونس عليه السلام ظن أن الله تعالى لا يقدر عليه من القدرة؛ بل هي هنا بمعنى يضيق عليه وهذا كقوله تعالى : ” ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ” الطلاق 7.
قوله تعالى : “فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ” في ظلمات حالكة ثلاث وهي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت.
قوله تعالى : “أن لا إله إلا أنت”: اعتراف بألوهية الله تعالى ووحدانيته، وتوحيد الله تعالى من أهم وأقوى أسباب السعادة والراحة النفسية والبدنية .
(سبحانك) مأخوذة من ” السَّبْح ” : وهو البُعد : ” العرب تقول : سبحان مِن كذا ، أي ما أبعدَه .فتسبيح الله عز وجل إبعاد القلوب والأفكار عن أن تظن به نقصا ، أو تنسب إليه شرا ، وتنزيهه عن كل عيب نسبه إليه المشركون والملحدون .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : سبحان الله ” : تنزيه الله عز وجل عن كل سوء .
إذن فمعنى سبحان الله : أنزه الله عن كل نقص ،فالله جل وعلا لا يغفل ولا ينام ولا يمرض ولا يتعب ولا يضعف ولا يعجز ولا يفتقر ، ولا يحتاج إلى ولد أو زوجة ، ولا يظلم مثقال ذرة ، ولا يغيب عنه شيء ….الخ ، مما يعجز اللسان عن إحصائه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك )
(إني كنت من الظالمين)الظلم هو وضع الشيء في غير محله ، و العاصي ظالم فهو وضع في محل الطاعة و الاذعان العصيان و المخالفة و هذا ظلم لنفسه وظلم لدينه ، و الذي يظلم الناس و لا يعدل معهم وضع مكان العدل البغي و التكبر و سلب الحقوق و الايذاء وهذا ظلم للناس و مخالفة للشرع ، و قد سمى الله تعالى الشرك ظلم { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان : 13]، لأن المشرك وضع مكان التوحيد لله الاشراك به و هو ذنب عظيم لأنه أكبر الظلم وأشده فالاعتراف بالظلم سواءا كان شركا أو كبيرة من الكبائر أو صغيرة من الصغائر ثم اتباع الاعتراف به بتوبة و ندم وإقلاع عنه سبب للمغفرة و للخروج من الأثر السيء الناتج عنه ، و كذلك باب من أبواب الرحمة و السعادة وإجابة الدعاء ولهذا قال سبحانه بعدما وجه إليه نبيه يونس هذا الدعاء و الرجاء .
اعتراف بالذنب وندم :
وفي هذا الدعاء أقر نبي الله يونس ظلمه لنفسه ، ولم يطلب من اللَّه بصيغة الطلب الصريح أن يغفر له ذنبه؛ لاستشعاره أنه مسيء ظالم، وهو الذي أدخل الضر على نفسه، وأنه تعالى لم يظلمه، فتضمّن الطلب على ألطف وجه، فكأنه يقول: إن تعذبني فبعدلك، و إن تغفر لي فبرحمتك.
وأيضا فيه معنى الندم على ما فعل، والندم شرط رئيسي أو هو ركن التوبة الأعظم ، ولهذا قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (النَّدَمُ تَوْبَةٌ) صححه الألباني في “صحيح ابن ماجة” .
حتى قال بعض أهل العلم :” يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ تَحَقُّقُ النَّدَمِ ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْلَاعَ عَن الذنوب ، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ؛ فَهُمَا نَاشِئَانِ عَنِ النَّدَمِ لَا أَصْلَانِ مَعَهُ ” .انظر: “فتح الباري” (13/ 471) .
ومعنى “الندم” الأسف ، أو المبالغة في الحزن .
ومعنى هذا : أن كل من حزن لكونه فعل المعصية ، فقد حصل منه الندم المقصود في التوبة .
فإذا كان هذا الندم صادقا فإن العاصي سوف يترك المعصية ، ويعزم على عدم فعلها مرة أخرى ، وبهذا تكمل التوبة وتتحقق شروطها كلها .
وعلى هذا ؛ فكل من ترك المعصية لكونها معصية لله تعالى – أي خوفا من الله وطاعة له- وكره وقوعه فيها ، ومعصيته لرب العالمين ، وأحب أن لو كان قد أطاع الله ، بدلا من معصيته ، وعزم على عدم فعلها : فقد حصل منه الندم قطعا ، وهو الذي حمله على ترك المعصية .
و قوله: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾: بـ(الفاء): التي تفيد التعقيب دون مهلة،إشارة لسرعة الاستجابة.
ثم قال: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾: يقول جلّ ثناؤه: وكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر إذ دعانا، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا، ودعونا.
وهذه البشارة، والوعد العظيم الذي لا يتخلف من اللَّه ربّ العالمين لكل مؤمن ومؤمنة إذا وقع في الشدائد والهموم ، فدعا ربه القدير بهذه الدعوة العظيمة بصدقٍ وإخلاصٍ أن ينجيه ويفرج عنه كما في الحديث السابق عن سعد بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ” هل أدلكم على اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ؟ الدعوة التي دعا بها يونس حيث ناداه في الظلمات الثلاث ، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ” . فقال رجل : يا رسول الله ، هل كانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ” ألا تسمع قول الله عز وجل : ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين “رواه الطبراني وصحح الألباني.
ثالثا/ وفي هذا الدعاء فوائد كثيرة، منها:
1- حفظ الله لأوليائه وعباده الصالحين حتى في أوقات ابتلائهم.
2- أن هذه الصيغة جمعت آداب الدعاء، وأسباب الإجابة، فيحسن بالعبد أن يكثر منها حال دعائه، وكربه، وغمومه، وشدائده .
3- هذه الدعوة فيها من كمال التوحيد، والإيمان باللَّه تعالى، الذي ينبغي لكل داع أن يضمن هذه المضامين في أدعيته .
4- فيه دلالة على أن التسبيح سبب للإنجاء من الكرب والهمّ، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾سورة الحجر، الآيتان: 97- 98.
5- إن ما يوقع على العبد من المصائب فإن سببها تقصيره في حق ربه تعالى.
6- المسارعة إلى الابتهال إلى الله وقت البلاء، وفضل التضرع بين يديه والتوسل بتوحيده وتنزيهه، والاعتراف بالذنوب بين يدي الله، فذلك من وسائل إجابة الدعاء، وكشف الضراء.
أخيرا / ومن عظات هذه الآيات:
1- أهمية الصبر في الدعوة إلى الله تعالى وأنه من أسباب مراضي الله، فقد يضيقُ صدر الداعية بتصرفات الناس، ويقل احتماله لصدودهم، ولكنَّ الصبر والكظم أليق به، وبدعوته؛ لأن ذلك من آداب الدعوة، ووصول الأثر الحسن إلى قلوب المدعوين .
قال تعالى لنبينا الكريم (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)) القلم ،ففي هذه الآيات يأمر الله عز وجل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى قومه وتكذيبهم له؛ فإن الله سيحكم له عليهم، ويجعل العاقبة له ولأتباعه في الدنيا والآخرة، ونهاه سبحانه أن يكون في الغضب على قومه والعجلة عليهم كيونس عليه السلام الذي التقمه الحوت حينما غاضب قومه فخرج من بينهم من غير أن يصبر عليهم، فلما كان يونس في بطن الحوت مغمومًا مكروبًا دعا الله تعالى بالنجاة، فتداركه الله برحمته فنجاه من غمه وجعله من عباده المرسلين الصالحين.
2- ومنها: أن ترك الصبر قد يكون سببًا للبلاء، وأن ابتلاء الله لعبده المؤمن وعتابه له لا يدعو إلى نقصه، وإنما هو تأديب من الله ليرقِّيَ عبده المؤمن إلى المراتب العالية؛ فإن البلاء قد يرد العبد إلى ربه، بل ربما رده إلى أفضل مما كان عليه، قال تعالى: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
3- بيان سعة علم الله تعالى وسمعِه وعظمة قدرته؛ فقد علم بموضع نبيه يونس ، وسمع دعاءه وتسبيحه وتوبته، وهو في تلك الظلمات الثلاث. وبقدرته تعالى حفظ حياته وهو في تلك المهلكة، وأعاد إلى جسده رونق الحياة بعد حرِّ بطن الحوت، كما فيه بيان أن الكون كله مسخر لله تعالى يأمره بما شاء، كما أمر الحوت بالتقام يونس وحفظه ثم نبذه في العراء بعد ذلك.
4- استدل بعض العلماء بمساهمة يونس ومشاركته في الاقتراع على جواز استعمال القرعة، وذلك جائز عند الأمور المشكلة والمتساوية التي لا يوجد ترجيح لبعضها على بعض، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً أو غزواً أيتهن خرج سهمها كانت معه
وهذا الاستدلال لجواز القرعة من قصة يونس إنما هو استدلال بأصل المسألة لا بجواز القرعة في مثالها الذي حصل؛ فإنه في شريعتنا لا يجوز إلقاء مسلم قصداً في الهلاك من أجل حياة غيره؛ فالنفوس عند الله كلها كريمة، ولذلك قال العلماء: الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز، فكيف المسلم؟ فإنه لا يجوز أن يُقتل العاصي، ولا يرمى به في النار والبحر، وإنما تجري عليه الحدود والتعزير على مقدار جنايته، وظن بعض الناس أن البحر إذا هاج على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم، فيطرح بعضهم تخفيفاً. وهذا فاسد؛ فإنها لا تخف برمي بعض الرجال، وإنما ذلك في الأموال، وإنما يصبرون على قضاء الله”أحكام القرآن لابن العربي (7/ 46)، بتصرف.
غير معروف
في تفسيركم للحوت والتقامه لنبي الله يونس علية السلام وعدم ابتلاعه
الله تعالى يقول “﴿لَلَبِثَ في بَطنِهِ إِلى يَومِ يُبعَثونَ﴾ [الصافات: ١٤٤]
؟!