نعيش مع خاطرة إيمانية مع الآية الثانية من سورة البقرة ، وقد أوصانا رسول الله بقراءة هذه السورة في عدة أحاديث منها :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا تَجْعَلُوا بيوتكم قبورا فإن البيت الذي تقرأ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ» رواه مُسْلِمٍ
وقال عَبْدِ اللَّهِ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ الشيطان يفرّ من البيت يُسْمَعُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ. صححه الألباني
وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ولا يستطيعها الْبَطَلَةُ» «السحرة»)
وَالْبَطَلَةُ : السَّحَرَةُ، وَمَعْنَى لَا تَسْتَطِيعُهَا أَيْ لَا يُمْكِنُهُمْ حِفْظُهَا وَقِيلَ لَا تَسْتَطِيعُ النُّفُوذَ فِي قَارِئِهَا
يقول تعالى : -( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين )- [البقرة1/2]
لو فتحنا المصحف سنجد لفظة (لا ريب) فوقها ثلاث نقاط ، ثم لفظة (فيه) فوقها أيضا ثلاث نقاط وهذا يسمى تعانق الوقف ،ومعناه أنه يجوز الوقف على واحدة دون الأخرى .
فإما أن تقول (ذلك الكتاب لا ريب فيه ) وتقف ثم تبدأ (هدى للمتقين )فيكون المعنى ذلك الكتاب لا شك فيه أنه من عند الله .
أو تقول(ذلك الكتاب لا ريب ) وتقف ثم تبدأ (فيه هدى للمتقين )فيكون المعنى نفي الريب وهو الشك بكل أفراده فعليه يكون قوله : لا ريب محذوف الخبر فيأتي على البال كل ما يصلح خبرًا ، وكما هو معلوم أن حذف الخبر من الأساليب البلاغية المؤثرة .
لكن لا يقف على كلمة ( فيه) فيقرأ : ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ) ثم يقف ثم يقرأ ( فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) فيأتي بكلمة (فيه) في الفقرتين ، فهذا غيرُ مناسب .
تقع هذه الآية في صدر المصحف فهي من أوائل ما تقع عليه عينك من الآيات إذا فتحت كتاب الله، فكأنها توقيع منزل الكتاب ، وقاعدة ينطلق منها قارئ هذا الكتاب جعلها في أوله ، فهي تنبيه لكل من يقرأه أنه لن يجد أي خطأ، فلا يتكلف عناء البحث، فلن يقف على خلل أيًّا كان مهما حاول ذلك جاهدًا فلا يتعب نفسه، فقد نفى الله عن كتابه كل ريب .
وجدير بالذكر أن أحد الباحثين وهو الدكتور جاري ميلر قال: جرت عادة المؤلفين أن يعتذروا في أوائل كتبهم للقراء إذا وقع منهم خلل أو حصل عندهم سهو أو جرى لديهم خطأ علمي أو شكلي ونحو ذلك، وربما وضع عنوانه في مقدمة الكتاب أو آخره، ثم يقول : من وجد خطأ أو من لديه ملاحظة أو من عنده تنبيه فليتواصل معي على العنوان المذكور، أما هذا الكتاب ففي أوله إعلان عن كماله وإخبار عن تمامه وأنه لا خطأ فيه ولا خلل يعتريه، فعرفت أنه ليس من صنع البشر وأنه كلام الله .
المنهج هو عين المعجزة:
يقول الشيخ الشعراوي : وليس القرآن وحده تنزيلَ رب العالمين، إنما كل الكتب السابقة السماوية كانت تنزيلَ رب العالمين، لكن الفرق بين القرآن والكتب السابقة أنها كانت تأتي بمنهج الرسول فقط، ثم تكون له معجزة في أمر آخر تثبت صِدْقه في البلاغ عن الله.
فموسى عليه السلام كان كتابه التوراة، ومعجزته العصا، وعيسى عليه السلام كان كتابه الإنجيل، ومعجزته إبراء الأكمة والأبرص بإذن الله، أما محمد صلى الله عليه وسلم فكان كتابه ومنهجه القرآن ومعجزته أيضًا، فالمعجزة هي عَيْن المنهج.
لماذا؟ قالوا: لأن القرآن جاء منهجًا للناس كافّةً في الزمان وفي المكان فلابد إذن أن يكون المنهج هو عَيْن المعجزة، والمعجزة هي عَيْن المنهج، وما دام الأمر كذلك فلا يصنع هذه المعجزة إلا الله، فهو تنزيل رب العالمين.
ولو سئلت كمسلم ما هي الدلالة على صدق نبيك ؟
لقلت هذا القرآن فهو معجزة رسول الله الخالدة الذي أنزله الله على نبيه الأمي ، وحمل من دلائل الإعجاز العلمي والبياني والتشريعي والتاريخي الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم ، وهناك مؤلفات ضخمة تبرز عظمة القرآن الكريم وتدلل على أنه تنزيل من حكيم حميد .
الإعجاز في قوله تعالى :(في أدني الأرض)
يقول تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) فصلت . 53
وهذا وعد من الله تعالى أنه سيكشف للناس عن آياته في نواحي السموات والأرض وفي أنفسهم حتى يتبين لهم ويثقوا أن القرآن حق أنزله الله تعالى.
يعني مثلا قوله تعالى : (في أدني الأرض) فيه دلالة علمية على صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما يقول الدكتور زغلول النجار : وواضح من شروح المفسرين أن المقصود بالتعبير القرآني في أدني الأرض هو أقرب الأرض إلي مكة المكرمة أو إلي الجزيرة العربية أو إلي أرض الفرس.. ولكن الدراسات الحديثة تؤكد أن منطقة حوض البحر الميت, بالإضافة إلي كونها أقرب الأراضي التي كان الروم يحتلونها إلي الجزيرة العربية هي أيضا أكثر أجزاء اليابسة انخفاضا, حيث يصل منسوب سطح الأرض فيها إلي حوالي الأربعمائة متر تحت متوسط مستوي سطح البحر, وان هذه المنطقة كانت من مناطق الصراع بين إمبراطوريتي الفرس والروم, وأن المعركة الحاسمة التي أظهرت جيوش الفرس علي جيوش إمبراطورية روما الشرقية( الإمبراطورية البيزنطية) لابد أنها وقعت في حوض البحر الميت, وان الوصف بـ أدني الأرض هنا كما يعني أقربها للجزيرة العربية, يعني أيضا أنها أكثر أجزاء اليابسة انخفاضا, وهذه الإشارة القرآنية العابرة تعتبر من السبق العلمي في كتاب الله, لأن أحدا لم يكن يعلم هذه الحقيقة في زمن الوحي بالقرآن الكريم, ولا لقرون متطاولة من بعده.
ومن صور الإعجاز : الإخبار عن الغيب :
نزلت سورة المسد قبل وفاة أبي لهب بثلاث عشرة سنة. وكان أمامه كل يوم طوال هذه المدة أن يعلن إسلامه ولو كذبا أو نفاقا ويكون إسلامه فرصة لإثبات أن هذا القرآن غير صحيح ، ولكن لم يسلم أبو لهب ولو بالتظاهر، وظلت الآيات تتلى حتى اليوم دلالة على صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله في كتابه معجزة القرآن : حينما جاء القرآن تحدى في أشياء كثيرة، أولها انه مزق حواجز الغيب، مزق حواجز الزمان والمكان، كيف ذلك، حواجز الغيب ثلاثة، أولها حاجز المكان، أي أن أشياء تحدث في اللحظة نفسها، ولكن لا نعرف عنها شيئا، لأنها تحدث في مكان، ونحن موجودون في مكان آخر.
ثم هناك حاجز الزمن الماضي، وهو شيء حجب عن البشر، ولم نشهده، وحاجز المستقبل وهو ما سيحدث غدا، لأن حاجز الزمان المستقبل قد حجب فلم نشهده، إذن فحواجز الغيب ثلاثة، حاجز المكان وحاجز الزمن الماضي وحاجز الزمن المستقبل.
إذا قرأنا القرآن وجدنا انه يمزق حاجز الزمن الماضي، فيخبرنا بما حدث للأمم السابقة، ويروي لنا قصص الرسل السابقين، ويحكي لنا أشياء لم يكن أحد يعرفها، وعلى لسان من، على لسان نبي أمي، لا يقرأ ولا يكتب، يحكي إذن أسرار الماضي، ويتحدى الذين يكذبون، مزق له الله حجاب وحاجز الزمن الماضي، ويكفي أن تقرأ في القرآن «وما كنت.. وما كنت.. وما كنت» لتعرف كم أخبر الله رسوله بأنباء من غيب الماضي (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى) و(وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم)، أي انك لم تكن هناك يا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الله هو الذي أخبرك ومزق لك حجاب الزمن الماضي.
(وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك).
وهكذا نرى أن القرآن مزّق حجاب الزمن الماضي في اكثر من مناسبة ليخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بالأخبار الصحيحة عمن سبقوه من الرسل والأنبياء ويصحح ما حرف من الكتب السماوية التي أنزلها الله وحرفها الرهبان والأحبار.
بل إن الإعجاز هنا جاء في تصحيح ما حدث من تحريف الكتب السماوية التي سبقت القرآن، وكان محمد صلى الله عليه وسلم يتحدى بالقرآن أحبار اليهود ورهبان النصارى، يقول لهم هذا من عند الله، في التوراة أو الإنجيل، وهذا حرفتموه في التوراة أو الإنجيل، ولم يكونوا يستطيعون أن يواجهوا هذا التحدي أو يردوا عليه، ذلك أن التحدي للقرآن في تمزيق حجاب الزمن الماضي، وصل إلى أدق أسرار الرسالات السماوية الماضية فصححها لهم، وبين ما حرفوه منها وما أخفوه، وتحداهم أن يكذبوا ما جاء في القرآن فلم يستطيعوا، ومن ذلك قوله تعالى في سورة مريم: (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون).
ثم جاء الأمر الثاني، فمزق الله حجاب المكان لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجاء في أمر من أدق الأمور وهو حديث النفس.
وهنا وقبل أن نبدأ، يجب أن نعتبر في أذهاننا جيدا أن القرآن هو كلام الله المتعبد بتلاوته، وانه يبقى بلا تعديل ولا تغيير لا يجرؤ احد على أن يمسه أو يحرفه، ومن هنا فإن هذا الكلام حجة على محمد صلى الله عليه وسلم مأخوذة عليه، فإذا اخبر القرآن بشيء واتضح انه غير صحيح كان ذلك هدما للدين كله.
يأتي القرآن وقد بينت خطورة ما يقول (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله)، ما معنى هذا؟
معناه إمعان في التحدي، فالقرآن هنا لا يقول لهم: لقد هتكت حاجز الماضي، وأخبرتكم بأنباء الأولين، ولا يقول لهم: سأهتك حاجز المكان وأخبركم بما يدور في بقعة قريبة لا ترونها بل يقول: سأهتك حاجز النفس، وأخبركم بما في أنفسكم، بما في داخل صدوركم، بما لم تهمس به شفاهكم، وكان يكفي لكي يكذبوا محمدا أن يقولوا لم تحدثنا انفسنا بهذا، لو لم يقولوها بالفعل داخل انفسهم لكان ذلك اكبر دليل لكي يكذبوا محمدا ويعلنوا انه يقول كلاما غير صحيح، إذن فالقرآن في هتكه لحجاب المكان دخل إلى داخل النفس البشرية، وإلى داخل نفوس من.. إلى داخل نفوس غير المؤمنين الذين يهمهم هدم الإسلام، وقال في كلام متعبد بتلاوته لن يتغير ولا يتبدل، قال: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير) صدق الله العظيم، قال ما يدور في أنفس غير المؤمنين، فهل هناك اكثر من هذا تحديا لحجاب المكان؟ انه تحد فوق قدرة كل الاختراعات البشرية التي وصل إليها العلم الآن لاختراق حجب المكان.
بل إن التحدي ظهر فيما يحرص غير المؤمنين على إخفائه، فالإنسان حين يحرص على إخفاء شيء ويكون غير مؤمن يأتي إليك فيحلف لك بأن هذا صحيح، وهو غير صحيح في نفسه فقط، ولكن حرصه في أن يخفيه على الناس يجعله يؤكد انه صحيح بأغلظ الأيمان.
فهذا القرآن المجيد أضاف إلى معجزاته السرمدية إعجازا يتحدى المشركين بما تجول به خواطرهم تجاه سيد الخلق عليه وآله الصلاة والتسليم وتجاه المسلمين، فأخرج ما في صدورهم وعراهم أمام الناس، وفضح كذبهم، وبين للإنس والجن ما يخفون في صدورهم من كذب ورياء ونفاق.
فالقادر على ذلك في غابر الزمن لن يخفى عليه ذات الشيء في نفوس خلقه في كل مكان وزمان محذرا بقوله لعلنا نتعظ: (ويحلفون على الكذب وهم يعلمون).أ.هـ
والتحدي باق لا ياتون بمثله :
جاءت كل معجزات الأنبياء قبل محمد – صلى الله عليه وسلم – مادية في عالم المحسوس، أما بالنسبة للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقد كانت معجزته الخالدة في القرآن الكريم الذي لا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بمثله، أو حتى بأصغر سورة من سوره.
فسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – كانت معجزته الخالدة هي القرآن نفسه؛ أي أن القرآن هو التصديق وهو النبوة معا، ولم تأته النبوة والآيات البينات منفصلا بعضها عن بعض، وبما أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – خاتم الأنبياء، فيجب أن تبقى معجزته خالدة، وكلما تقدمت الإنسانية في المعارف والعلوم يظهر إعجاز القرآن بشكل أوضح.
وسجل التاريخ عجز أهل اللغة أنفسهم من العرب في عصر نزول القرآن أن ياتوا بمثله، وتحداهم القرآن أفرادا وجماعات، وكرر التحدي في صور شتى ، فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور من مثله، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم – بل ورمى العالم كله – بالعجز في غير مواربة فقال عز وجل: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) (88)(الإسراء)، وقال عز وجل: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة)، حتى استيأسوا من قدرتهم، واستيقنوا عجزهم.
إن هذا هو التحدي الذي ذكره الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن شاعرا ولا أديبا، بل إنه حتى لم يكن يعرف القراءة أو الكتابة، ومع ذلك تحدى جميع مفكري العالم من الأدباء والشعراء والعلماء والحكماء.. أن يتكاتفوا سويا ويجمعوا جهدهم ويوحدوا طاقتهم ليأتوا بسورة قصيرة.. تتكون من عشر كلمات تماثل أقصر سورة من سور القرآن الكريم، ثم يقول لهم بكل جرأة وبأتم يقين: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) البقرة 24.
وإلى الآن.. التحدي الذي ساقه القرآن منذ أربعة عشر قرنا لا يزال قائما…. فهل يجرؤ أحد على قبول تحدى القرآن الكريم؟