الحسنات والسيئات في الحرم المكي

تاريخ الإضافة 20 يناير, 2022 الزيارات : 12677

الحسنات والسيئات في الحرم المكي

د. صالح بن عبدالعزيز سندي

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن للحرم المكي -الذي يضم بين جنباته بيت الله العظيم والمشاعر المشرفة- مكانة عظمى ومنزلة كبرى، ومن المسائل التي تتعلق بهذه المنزلة الجليلة وتفصح عنها: مضاعفة الحسنات والسيئات وتعظيمها فيه، وفي هذه الأسطر ذكر نبذة مختصرة في هذا الموضوع، وتلخيص جملة من كلام أهل العلم فيه؛ لمسيس الحاجة إليه.

مضاعفة الحسنات في الحرم

لقد دلت الأدلة على أن ثواب الصلاة في المسجد الحرام مضاعف، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام, وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا)

وهل هذه المضاعفة تختص بالمسجد المعهود، أم تعم سائر الحرم؟ في هذا خلاف مشهور بين أهل العلم يضيق المقام عن بسطه.

فهذا القدر متفق عليه، وبقي البحث في تعميم التضعيف لسائر الحسنات بمكة وليس الصلاة فقط.

قد روي عنه عليه الصلاة والسلام ما يفيد ثبوت هذه المضاعفة؛ غير أني لم أقف على حديث صحيح في هذا الباب؛ ومن ذلك: ما رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال عن حسنات الحرم: (بكل حسنة مائة ألف حسنة)  وهو حديث ضعيف جدا.

ومثله ما رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من أدرك رمضان بمكة فصام وقام منه ما تيسر له كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه, وكتب الله له بكل يوم عتق رقبة, وكل ليلة عتق رقبة, وكل يوم حملان فرس في سبيل الله, وفي كل يوم حسنة, وفي كل ليلة حسنة)  وهو كسابقه 

وقد نص على ثبوت هذه المضاعفة طائفة من العلماء من السلف والخلف.

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (العمل فيه [أي الحرم] أفضل, والخطيئة أعظم فيه).

ويقول مجاهد رحمه الله: (تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات)

ويقول الحسن رحمه الله: (صوم يوم بمكة بمائة ألف, وصدقة درهم بمائة ألف, وكل حبة بمائة ألف)

ويقول ابن الجوزي: (واعلم أن من فضل مكة مضاعفة الحسنات بها, والسيئات أيضاً) 

ويقول الزركشي: (إن التضعيف لا يختص بالصلاة, بل وسائر أنواع الطاعات كذلك قياساً على ما ثبت في الصلاة والنظر إلى الكعبة؛ فأُلحق به ما في معناه من أعمال البر)

وقد يستشهد لفضل الحسنات بمكة بقوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ) [آل عمران:96].

فقد ذكر بعض المفسرين أن من بركته مضاعفة ثواب العبادة فيه

قال أبو عبد الله القرطبي: (جعله الله مباركاً لتضاعف العمل فيه)

والاستدلال بالآية وإن كان محتملاً إلا أنه غير صريح, ثم إنه قد يخدش فيه أن الفضل الوارد فيها خاص بالمسجد كما هو ظاهر.

والذي يظهر –والله تعالى أعلم- أن أثر ابن عمرو هو أقوى ما في الباب، ومثله ليس مما يقال بالرأي؛ فهو مما يعول عليه، ويعضده أثر مجاهد وغيره من السلف، بل ومجموع ما ورد في فضل مكة؛ فكل هذا يدل على أن الحسنة في مكة لها مزية في الجملة، وأنها أعظم من الحسنة في غيرها، دون تحديد للمضاعفة بحد معين، والله أعلم.

قال الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله: (والحاصل أن المضاعفة في الحرم الشريف بمكة المكرمة لا شك فيها –أعني مضاعفة الحسنات- ولكن ليس في النص فيما نعلم حد محدود ما عدا الصلاة)

ومن لطيف ما يذكر عن السلف في هذا الباب –أعني اغتنامهم فضل العمل الصالح بمكة-: قول إبراهيم النخعي رحمه الله: (كان يعجبهم إذا قدموا مكة أن لا يخرجوا حتى يختموا القرآن)

مضاعفة السيئات في الحرم

لقد دلت الأدلة على أن السيئة لا يُضاعف إثمها, ولا تُكتب على صاحبها إلا واحدة.

ومن الأدلة على ذلك:قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ[[الأنعام:160]. وقوله سبحانه: ]وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا) [يونس: من الآية27]. وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة, فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة). فهذه النصوص وغيرها دالة على أن السيئة لا تُضاعف, وإنما هي بين العفو أو العقوبة بمثلها, وهذا من رحمة الله سبحانه وعدله.

لكن بعض أهل العلم استثنى من هذا الأصل: المعصية في الحرم المكي؛ فرأوا أن السيئة بمكة مضاعفة

من ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (مالي ولبلد تضاعف فيه السيئات كما تُضاعف الحسنات)

وقول مجاهد رحمه الله: (تُضاعف السيئات بمكة كما تُضاعف الحسنات)

وسئل الإمام أحمد رحمه الله: بلغك في شيء من الحديث أن السيئة تُكتب بأكثر من واحدة؟ قال: (لا, ما سمعنا, إلا بمكة لتعظيم البلد), وقال إسحاق بن راهويه: (كما قال). وقد رأى بعض الحنابلة أن ظاهر هذه الرواية أن المضاعفة في الكم -أي العدد- وعليه فتكون السيئات بمكة لها حكم مخصوص من عموم النصوص الدالة على عدم تضعيف السيئات، والمخصِّص: أثر ابن عباس رضي الله عنهما فإنه في حكم المرفوع؛ إذ مثله لا يقال بالرأي

أما جمهور العلماء فعلى أن السيئة لا يُضاعف إثمها لا في مكة ولا في غيرها, وإنما السيئات في مكة تَغلظ وتَعظم لحرمة البلد.

قال ابن حجر: (والجمهور على التعميم [أي بعدم التضعيف] في الأزمنة والأمكنة, لكن قد يتفاوت بالعظم)

ويشهد لهذا أثر عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما السابق؛ فعن مجاهد قال: (رأيت عبد الله بن عمرو بن العاص بعرفة ومنزله في الحل ومصلاه في الحرم, فقيل له:لم تفعل هذا؟ فقال :لأن العمل فيه أفضل, والخطيئة أعظم فيه)

وقال ابن رجب: (وكان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم خشية ارتكاب الذنوب فيه, منهم ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص, وكذلك كان عمر بن عبد العزيز يفعل)

والذي يبدو -والله تعالى أعلم- أن قول الجمهور أقرب؛ فإن عمومات النصوص دالة على أن السيئات إنما تُكتب بواحدة ولا تُضاعف, ولم يصح دليل على استثناء الحرم من ذلك. وأثر ابن عباس لم يثبت كما سبق.

وأما الآثار الواردة عن السلف فيمكن حملها على ما يوافق عمومات الكتاب والسنة, ولا يخفى أن ذلك أولى من حملها على ما يخالفها؛ وذلك أن يُحمل كلامهم على تغليظ السيئة في الحرم وأن الأمر فيها أشد -كما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما- بمعنى أن السيئة الواقعة في الحرم أعظم وأغلظ بالنسبة لجنس هذه السيئة, وهذا التغليظ سببه انتهاك حرمة الحرم.

يقول العلامة ابن باز رحمه الله: (ومما يدل على شدة الوعيد في سيئات الحرم وأن سيئة الحرم عظيمة وشديدة: يقول الله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: من الآية25], فهذا يدل على أن السيئة في الحرم عظيمة, حتى إن في الهم بالسيئة فيه هذا الوعيد. وإذا كان من همَّ بالإلحاد في الحرم متوعداً بالعذاب الأليم فكيف بحال من فعل في الحرم الإلحاد بالسيئات والمنكرات؛ فإن إثمه يكون أكبر من مجرد الهم, وهذا كله يدلنا على أن السيئة في الحرم لها شأن خطير)(26).

وهذا الذي عبَّر عنه طائفة من العلماء بالمضاعفة في الكيف لا الكم, وهو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية

وليس هذا المعنى من المضاعفة التي تعني أن يُعاقب على السيئة عقوبة سيئتين أو أكثر؛ وإنما هو تعظيم وتغليظ؛ فكما أن السيئات تتفاوت أجناسها غلظاً وخفة؛ فكذلك الجنس الواحد منها يتفاوت أفراده غلظاً وخفة بحسب ما يقترن به من أحوال, كزمان فاضل أو مكان فاضل؛ وعليه فالسيئة في الأشهر الحرم أعظم منها في غيرها, والسيئة بمكة أعظم منها في غيرها وهكذا.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (المعاصي في الأيام المعظمة والأمكنة المعظمة تُغلظ معصيتها وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان)

وقد حرَّر ابن القيم مسألة مضاعفة السيئات بمكة بعبارة حسنة حيث قال: (ومن هذا تُضاعف مقادير السيئات فيه [أي في الحرم] لا كمياتها؛ فإن السيئة جزاؤها سيئة, لكن سيئة كبيرة وجزاؤها مثلها, وصغيرة جزاؤها مثلها؛ فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض؛ ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه؛ فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات, والله أعلم

وقد وضح الزركشي ثمرة الخلاف في قوله: (فإن قيل: فيرجع النزاع أيضاً, وأي فرق بين أن تكون السيئة المعظَّمة بمائة ألف سيئة وهي واحدة, وبين أن تكون بمائة ألف سيئة عدداً ؟ فالجواب: أنه قد جاء أن من زادت حسناته على سيئاته في العدد دخل الجنة, ومن زادت سيئاته على حسناته في العدد دخل النار, ومن استوت حسناته وسيئاته عدداً كان من أهل الأعراف؛ فلا يبعد أن يكون في الغلظ من غير تعدد معنى من عدم الزيادة العددية المرجحة بسبب فضل السيئات في الحرم في الحالة التي لولا هذا التأويل لرجح جانب السيئة, أو معنى غيره يحصل به

بقيت الإشارة إلى مسألة متصلة بهذا الموضوع؛ وهي حكم الهم بالسيئة في الحرم؛ فإن ظاهر قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الحج: من الآية25] يدل على المؤاخذة بالهم –وليس الخاطر العارض- فضلا عن العزم المصمم

. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير الآية: (ما من رجل يهم بسيئة فتُكتب عليه, ولو أن رجلاً بعَدَن أبيَن همّ أن يقتل رجلاً بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم)

وعليه فهو حكم مخصوص من عموم الأدلة التي دلت على أن الهم بالسيئة معفو عنه؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: (قال الله تعالى: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة)؛ وذلكم أن الحرم يجب تعظيمه؛ فمن هم فيه بمعصية فقد خالف الواجب بانتهاك حرمته

قال ابن القيم رحمه الله: (ومن خواصه[أي الحرم] أنه يُعاقَب فيه على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها, قال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الحج: من الآية25]. فتأمل كيف عدَّى فعل الإرادة هاهنا بالباء, ولا يُقال: (أردت بكذا) إلا لما ضُمِّن معنى الفعل (هم)؛ فإنه يقال: هممت بكذا. فتوعد من هم بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم

فهذا أظهر الأقوال في الآية، وأما قول من قال: إن الإرادة في الآية بمعنى العمل فلا يخفى ما فيه من البعد ومخالفة الظاهر.

وكذلك حمل الإرادة على العزم المصمم) ففيه نظر؛ فإن بين الهم والعزم فرقا؛ ثم إن العزم مما يعاقب به في سائر البقاع، في مكة وغيرها، والآية –مع تفسير ابن مسعود لها- ذات دلالة ظاهرة على أن الحرم له شأن خاص ليس كغيره، والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 1 فبراير, 2024 عدد الزوار : 278 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم