(5) تفسير سورة الإخلاص
سبب التسمية:
سميت سورة الإخلاص لأنها تتحدث عن التوحيد الخالص للَّه عز وجل، المنزه عن كل نقص، المبرأ من كل شرك، ولأنها تخلّص العبد من الشرك، أو من النار.
سبب نزولها:
عن أُبيّ بن كعب: أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انْسُبْ لنا ربك؛ فأنزل الله عز وجل: {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ}. رَواه الترمذي وحسنه الألباني
ما ورد في فضلها:
1- عن أبي سعيد الخُدْريّ:( أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} يردّدها؛ فلما أصبح جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، وكان الرجل يَتقالُّها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثُلُثَ القُرْآن» صحيح البخاريّ
2- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( احْشِدوا فإني سأقرأ عليكُم ثلثَ القُرْآن»، فحشدَ مَنْ حَشَد؛ ثم خرج نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقرأ {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبراً جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله. ثم خرج فقال: «إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، أَلاَ إنّها تَعْدِل ثلثَ القرآن) رواه مسلم
والسر في أنها تعدَلَ ثلث القرآن: قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم: وذلك لأن العلماء قسموا القرآن إلى: أحكام، وعقائد، وقصص وأخبار؛ وقد جمعت {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} أحَدَ الأثلاث، وهو العقائد.
ودل على هذا التأويل ما في صحيح مسلم، من حديث أبي الدرداء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:( إن الله جلّ وعز جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} جزءاً من أجزاء القرآن) رواه مسلم
هل يترك قراءة القرآن اكتفاء بقراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات؟
(ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدين النصيحة) ثلاثا، فقيل: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).
والنصيحة لكتاب الله تعالى تكون بتلاوته ، وتدبر آياته ، والاتعاظ بمواعظه ، والوقوف عند حدوده ، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ولا شك أن الاكتفاء بقراءة سورة الإخلاص دون سائر كتاب الله لا يتفق مع النصيحة لكتاب الله، ولا يتأتى لمن يكتفي بذلك النصح لنفسه بما يحصل له من تلاوة كتاب الله من الأجر والمثوبة، وزيادة الإيمان، ومعرفة الأحكام من الحلال والحرام، والواجب والمسنون والمكروه، والتأدب بآداب القرآن، والتخلق بأخلاقه، وكفى بانتقاص العبد هذه الأمور زاجرا عن ترك تلاوة كتاب الله، والرسول صلى الله عليه وسلم مع علمه بفضل هذه السورة ، وإخباره بأنها تعدل ثلث القرآن ، وزيادة حرصه على عظم الأجر والثواب، لم يقتصر على تلاوة هذه السورة، بل كان يداوم على تلاوة سائر كتاب الله، وقد قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الأحزاب/21 .[1]
3- وعن عائشة:( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سَرِية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ}؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «سَلُوهُ لأيّ شَيء يصْنع ذلك؟» فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحِبُّ أن أقرأ بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخبروه أن الله عز وجل يحبه» صحيح البخاريّ
4- وعن أنس بن مالك قال: كان رجل من الأنصار يؤمّهم في مسجد قُباء، وكان كلما افتتح سورة يقرؤها لهم في الصلاة فقرأ بها، افتتح بـ { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }؛ حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة؛ فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تقرأ بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تَجْزيك حتى تقرأَ بسُورة أخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بسورة أخرى؟ قال: ما أنا بتاركها وإن أحببتم أن أؤمّكم بها فعلت، وإن كرهتم تركتكم؛ وكانوا يرونه أفضلهم، وكرهوا أن يؤمّهم غيره؛ فلما أتاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: «يا فلان ما يمنعك مما يأمر به أصحابك؟ وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة»؟ فقال: يا رسول الله، إني أحبها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ حُبَّها أدْخَلَكَ الجَنَّة» رواه الترمذيّ وصححه الألباني
5- وعنه أيضا قال: أقبلت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فسمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ}؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وجبت». قلت: وما وجبت؟ قال: «الجنة» رواه الترمذيّ وصححه الألباني
6- وعن معاذ بن أنس الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} عشر مرات بُنِي له قصر في الجنة (فقال عمر: إذاً نستكثر يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكثر وأطيب). قوله: (إذاً نستكثر) يعني: إذاً نقرؤها كثيراً. قوله: (الله أكثر وأطيب) أي: الله أكثر أجراً وثواباً من عملكم. صححه الألباني
7- والدعاء بها مستجاب، لما رواه النسائي عن مِحْجَن بن الأدرع رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، إذا رجلٌ قد قضى صلاته وهو يتشهد، فقال: اللهم إني أسألك يا الله! بأنك الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد غفر الله له). ثلاثا.
وعن بريدة: (أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا رجل يصلي ويدعو، يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فسمعه الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: والذي نفسي بيده! لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب). صححه الألباني
وأيضاً كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في:
- ركعتي المغرب في الركعة الثانية.
- وركعتي الفجر النافلة في الركعة الثانية.
- وركعتي الطواف في الركعة الثانية.
- والركعة الأخيرة من ركعات الوتر.
- وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ بها مع المعوذات إذا اشتكى، فإذا اشتكى نفث في يديه بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] والمعوذات ومسح بها رأسه وسائر جسده.
- وكان يقرأ بها أيضاً مع المعوذات عند النوم.
- وكان يقرأ بها مع المعوذات صباحاً ومساء.
ولنا أن نتخيل كم مرة كان الرسول يقرأ بها في يومه؟! كان يقرأ كل ليلة عند النوم مع المعوذات (ثلاث مرات) ويقرأ بها بعد كل صلاة (فهذه خمس).
ويقرأ بها أيضاً في الصباح والمساء (ثلاثاً ثلاثاً).
ويقرأ بها في ركعتي الفجر، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر يومياً، ولم يتركها في سَفَر ولا في حَضَر، ويقرأ بها في ركعتي المغرب.
فهذه ست عشرة مرة.
أضف إلى ذلك: إذا اشتكى صلى الله عليه وسلم.
تفسير الآيات:
(قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ) اسم الله “الواحد” معناه: هو الذي لا يتعدد ولذلك فإن الله واحد لا شريك له.
واسم الله “الأحد” هو الذي لا يتجزأ، فليس جزءا من غيره فهو غير مولود، وليس له جزء منه فليس له ولد (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)، كما زعمت النصارى الذين يدعون أنهم يعبدون إلهاً واحداً في ثالوث وثالوثاً في واحد (الأب والابن والروح القدس) تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
(اللَّهُ ٱلصَّمَدُ) وردت عدة أقوال في معنى الصمد:
1-هو السيد الذي قد كمل في سؤدده، وهو الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم، فهو المستغنِي عن كل أحد، والمحتاج إليه كل أحد.
2- المصمت أو المصمد الذي لا جوف له، يعني لا يأكل، ولا يشرب.
3- الصَّمَدُ الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن اللَّه عز وجل لا يموت ولا يورث.
ومن العلماء مَن قال: (الصمد) يحمل هذه المعاني كلها: ·فهو سبحانه السيد الذي انتهت إليه السيادة في كل شيء، وهو سبحانه الصمد الذي يصمد إليه الخلق لقضاء حوائجهم، وهو سبحانه الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)
(لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) أي: ليس له ولد، ولا والد، ولا صاحبة، والتوالد أمارة الفناء لأن التوالد من أجل بقاء الجنس والله سبحانه باق فلا ولد له ولا والد، وقال ابن عباس: {لَمْ يَلِدْ} كما وَلَدَتْ مَرْيَم، (ولم يُولد) كما وُلِدَ عيسى وعُزَيرٌ.
وهذه الآية خير رد على النصارى الذين يقولون: إن عيسى هو الله، وهذا من العجب!
يقولون: إن عيسى هو الله وقد ولدته مريم! فأين كان الله قبل أن تُخلق مريم؟ إذا قالوا: إن عيسى هو الله! وقبل أن يولد من الذي كان يدبر أمر السماء والأرض؟!
وهل بطن امرأة يسع إلهاً يحكم السماوات والأرض؟! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً!
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني، ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون على من إعادته، وأما شتمه إياي، فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد) وفي صحيح البخاري:( لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يجعلون له ولداً، وهو يرزقهم ويعافيهم)
وقفة مع آخر سورة الإسراء:
قال تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) [سورة الإسراء :111]
ما المحمود عليه في الآية؟ [2]
الحق سبحانه يأمرنا أن نحمده على عدة أمور أولها:
حمده لأنه سبحانه لم يتخذ ولداً؛ وهذه نعمة كبيرة على العباد يجب أنْ يحمدوه عليها، فإنْ كان له ولد فسوف يخصُّه برعايته دون باقي الخَلْق، فقد تنزّه سبحانه عن الولد، وجعل الخَلْق جميعهم عياله، وكلُّهم عنده سواء، فليس من بينهم مَنْ هو ابن لله أو مَنْ بينه وبين الله قرابة، وأحبّهم إليه تعالى أتقاهم له، وهكذا ينفرد الخَلْق بكل حنان ربهم وبكل رحمته.
ثم، ما الحكمة من اتخاذ الولد؟
الناس يتخذون الولد ويحرصون على الذَّكَر، خاصة لأمرين: أن يكون الولد ذكرى وامتداداً لأبيه بعد موته، كما والحق سبحانه وتعالى باقٍ دائمٌ، فلا يحتاج لمَنْ يُخلِّد ذكراه، أو يكون امتداداً له، تعالى الله عن ذلك عُلواً كبيراً، فالحمد لله أنه لم يتخذ ولداً.
أو يكون الولد للعِزْوة والمكاثرة والتقوّى به من ضعف، والحق سبحانه وتعالى هو الغالب القهار، فلا يحتاج إلى عِزْوة أو كثرة، لذلك يأمرنا سبحانه أن نُمجِّده لأنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، والمتأمل في حال الملوك والسلاطين يجد أكثر فسادهم إما من الولد وإما من الصاحبة.
قوله تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) كُفُواً أي مكافئا ومماثلا، والكفء والمكافئ: النظير والمثيل، والمراد أنه لم يوجد له مماثل أو مكافئ.
وقال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ) [الشورى: 11]
[1] من فتاوى اللجنة الدائمة (4/29-30)
[2] الجواب مستفاد من خواطر الشيخ الشعراوي رحمه الله في تفسير آخر سورة الإسراء.