تفسير الفاتحة: 16- أنواع الهداية في قوله تعالى “اهدنا الصراط المستقيم”

تاريخ الإضافة 6 يوليو, 2025 الزيارات : 970

16- أنواع الهداية في قوله تعالى “اهدنا الصراط المستقيم”

“اهدنا الصراط المستقيم”

اهدنا: من الهداية، والهداية هي الدليل والإرشاد، العرب تسمي الدليل على الطريق “هادياً”، أي الذي يدلهم على الطريق في الصحراء وطريق السفر. وكان أبو بكر الصديق وهو تاجر معروف لما كان مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الهجرة يسأله الناس: من الذي معك؟ فيقول: “هاد يهديني الطريق”، وهو يقصد الطريق إلى الله عز وجل، وهم يفهمون أنه يهديه الطريق في الصحراء.

فالهداية هي الدليل والإرشاد لفعل الشيء. فنحن نقول: “اهدنا الصراط المستقيم” أي: يا رب دلنا وأرشدنا وبين لنا الطريق الذي تحبه وترضاه وهو الصراط المستقيم.

أنواع الهداية:

الهداية في القرآن تأتي على معنيين:

  • هداية البيان، وثمرتها:العلم بالحقّ، والبصيرة في الدين.
  • هداية التوفيق والإلهام، وثمرتها: إرادة الحقّ والعمل به.

أولا/ هداية البيان 

ومعناها: أن الله جل وعلا تكفل بأن يبين لعباده مراده منهم، ماذا يريد الله من عباده؟ من خلال الرسل. “وإن من أمة إلا خلا فيها نذير” (فاطر 24). طبعاً نحن لا نعلم من الأنبياء إلا قليل، والذين ذكروا في القرآن 25 فقط. لكن قال تعالى: (منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك) (النساء 164). [1]

إذاً فهناك من الأنبياء والرسل ما لم نحط به علماً، لكننا على سبيل العموم نفهم أنه ما من أمة خلت أي مضت في القرون والأزمنة الماضية إلا وكان فيها نبي مرسل من الله عز وجل.

 لو أن أمة لم يأتها نذير، أو في زماننا هذا رجل لم تبلغه دعوة الإسلام ولم يسمع ولم يعرف أي شيء عن الإسلام؟

 يرفع عنه الحساب، لعموم قوله تعالى: “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً” (الإسراء 15) و(رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (النساء 165).

فالإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله عز وجل، وتكفل بإقامة هذه الدعوة وإرشاد العباد إليها في كل زمن وفي كل جيل. فمن حيل بينه وبين الدعوة أو لم يسمع بها فلم تصل إليه فإن الله لا يعذبه، وهذا هو أرجح قول للعلماء في هذه المسألة.

النوع الثاني هداية الإعانة والتوفيق

 وهذه تكون لمن قبل هداية البيان ، أي أن الله تعالى يعينك ويوفقك.

ومن لم يستجب لهداية البيان؟ الله تعالى يعاقبه بعقوبة الحرمان والخذلان.

تعالوا نقرأ النصوص القرآنية: الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه: “إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين” (القصص 56).

هذه الآية نزلت بعد وفاة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم. أبو طالب عم النبي هو الذي رباه بعد وفاة جده وكفله حتى صار رجلاً شاباً وتزوج من خديجة. وكان يرعاه ويمنع عنه الأذى ويرد عنه قريش، وقال في ذلك شعراً نقل عنه: “ولقد علمت أن دين محمد من خير أديان البرية ديناً”.

 لكنه علم ولم يتبع، قال له النبي عند وفاة عمه: “يا عم قلها كلمة أحاج لك بها عند ربي قل لا إله إلا الله”. وكان بجانبه أبو جهل ورجل آخر فيقولون له: “مت على ملة عبد المطلب”، أي على عبادة الأصنام.

والنبي يكررها عليه لكنه أبى ورفض حتى مات على الشرك والعياذ بالله.

حزن النبي لذلك، للارتباط العاطفي بعمه الذي رباه، قال: “لاستغفرن لك ما لم أنه عنك”. فنزل البيان الإلهي بتحريم الاستغفار: “ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى” (التوبة 113). وقال له: “إنك لا تهدي من أحببت” (القصص 56).

سؤال: النبي بين لأبي طالب طريق الحق؟ نعم. أبو طالب علم أن رسول الله على الحق؟

هل آمن برسول الله؟ يا للأسف لا.

إذاً فهو أخذ هداية البيان وأن هذا رسول الله، لكنه لم يتبعه فلم يأخذ هداية الإعانة والتوفيق.

وهذا معنى “ولكن الله يهدي من يشاء”. فمن اهتدى بهداية البيان فأسلم وآمن بالله أعانه الله ووفقه وسدده. قال تعالى: “والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم” (محمد 17) و”ويزيد الله الذين اهتدوا هدى” (مريم 76).

وفي الحديث الذي نحفظه جميعاً يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: “من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته” هنا هداية الإعانة والتوفيق: “كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يسعى عليها”.

(فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به) والمعنى هنا على تقدير مضاف محذوف؛ أي: کنت حافظ سمعه الذي يسمع به، فلا يسمع إلا ما يحل سماعه، وحافظ بصره فلا ينظر إلا إلى ما يحل نظره، وهكذا.

أو أن هذا مجاز عن نصرة الله لعبده المتقرب إليه بها وتأييده وإعانته وتوليه في جميع أموره، والمجاز هنا من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم.

وحاصل الكلام أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض، ثم بالنوافل؛ قربه إليه، ورفعه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيعبد الله تعالى على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى، ومحبته، وعظمته، وخوفه، ومهابته، وإجلاله، والأنس به، والشوق إليه، حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهدا له بعين البصيرة، فيسدده الله في سمعه وبصره ويده ورجله، ويكون المعنى أن يوفق هذا الإنسان فيما يسمع ويبصر ويمشي ويبطش.

ومعنى ذلك أنه لا يسمع ما لم يأذن الشرع له بسماعه، ولا يبصر ما لم يأذن الشرع له في إبصاره ، ولا يمد يده إلى شيء ما لم يأذن الشرع له في مدها إليه ، ولا يسعی برجل إلا فيما أذن الشرع في السعي إليه، ولا شك أنه إذا وصل إلى هذه المرتبة فإن الله تعالى يسدده في جميع حواسه، فلا ينظر إلا إلى ما يحب الله، ولا يستمع إلا إلى ما يحب الله، ولا يمشي إلا إلى ما يحب الله، من جلسة ذكر، أو حلقة علم، أو مكان وعظ، أو صلة رحم، أو حج أو عمرة، ونحو ذلك من أنواع المماشي التي هي في طاعة الله عز وجل، وكذلك لا يبطش إلا في مرضاة الله؛ من إزالة منكر، أو نصرة مظلوم ونحو ذلك، وكذلك يستمع إلى ما يحب الله؛ من كتابه وذكره، وسنة رسوله، وعلم شريعته ونحو ذلك، والنظر في المصحف من العبادات، وكذلك النظر في الأمانات لتمييزها لأصحابها، والنظر في كتب العلم والفقه ونحو ذلك من أنواع النظر الذي هو من العبادات.

ولا يزال هذا الحب يزيد ويقوي حتى تمتلئ قلوبهم به، فلا يبقى في قلوبهم غيره، فلا تستطيع جوارحهم أن تنبعث إلا بموافقة ما في قلوبهم.

 ومن هذا المعنى قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: إن كنا لنرى أن شيطان عمر ليهابه أن يأمره بالخطيئة.

(وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها) فالله يسدد هذا العبد في سمعه وبصره ويده ورجله، فيوفق العبد فلا يسمع إلا ما أذن الشرع بسماعه، ولا يبصر إلا ما أذن الشرع بإبصاره، ولا يمد يده إلى شيء لم يأذن الشرع به، ولا يسعى برجله إلا إلى ما أذن الشرع فيه.

وهذا معنى دعاء المؤمنين:  اللهم حبب إلي الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان.

فهناك من يتلذذ بالنظر إلى الحرام فحببت إليه المعصية نسأل الله العافية. وهناك من ينظر إلى والديه أو ينظر إلى ما أباح الله عز وجل فهذا شيء وهذا شيء.

فمن زين الله الإيمان في قلبه هداه إلى أفضل وأقوم السبل: “كنت سمعه كنت بصره كنت يده”. فالجوارح تألف الطاعة.

وفي رواية في الحديث: “فبي يسمع وبي يبصر”، يعني بتوفيق الله يسمع وبتوفيق الله يبصر، وهذا كله من عون الله تعالى وتوفيقه.

أيضا في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا، تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة.

وليس المقصود هنا تحديد المسافات إنما المقصود بيان إقبال الله على عبده. فأنت خطوت خطوة تجاه الصراط المستقيم ولو فرضنا أنها شبر؛ فالله تعالى يتقرب إليك ذراعاً.

ما معنى يتقرب إليك؟ يعني يعينك ويأخذ بيدك.

يعني ولله المثل الأعلى أتصور مثال الطفل الصغير الذي بدأ يتعلم المشي بعد الحبو بعد ما كان يحبو على يديه ورجليه بدأ يتعلم المشي، فأنا أشجعه وآخذ بيده أقول له: تقدم تعال.

فهكذا كل من أراد أن يقبل على الله أقبل الله عليه.

والذراع معروف، أما الباع فهو الذراعان مع الصدر.

“وإن أتاني يمشي أتيته هرولة” كل هذا بيان لمعنى إقبال الله تعالى على العبد وفرحة الله تعالى بتوبة العبد وإعانة الله تعالى لعبده إذا أقبل عليه.

على النقيض عندنا الآيات مثلاً: “وأما ثمود فهديناهم” (فصلت 17). هديناهم : أرسلنا إليهم رسولاً وهو نبي الله صالح. “فاستحبوا العمى على الهدى” (فصلت 17) إذاً هم أعرضوا فخذلهم الله.

وقال عن بني إسرائيل: “وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم” (الصف 5).

فهم زاغوا عن الحق، يعني مالوا عن الحق، فعاقبهم الله بالخذلان والحرمان فأزاغ قلوبهم.

و”ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم” (الحشر 19).

النسيان هنا بمعنى أن الله ليس في حساباتهم فتراهم معرضين عن الله ملحدين، ذكر الله تعالى لا يرد على بالهم لا في صلاة ولا في صوم ولا منهج حياة ولا أي شيء، يعيشون للدنيا فقط، فالله تعالى أعرض عنهم.

والله جل وعلا لا ينسى بمعنى الغفلة، إنما النسيان هنا بمعنى الترك. ومن هذا الذي يطيق أن يعرض الله عنه؟

من هذا الذي يطيق أن يغضب الله عليه ؟

 فهنا عاقبه الله تعالى جزاء من جنس العمل.

إذن معية الله وتوفيقه لا تكون للكافرين أبداً، ولا تكون للعصاة، إنما تكون للطائعين، قال تعالى: “ومن يتق الله يجعل له مخرجاً” (الطلاق 2). إذا قبلت التقوى يجعل لك مخرجا، “ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه” (الطلاق 3). وقال “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا” (العنكبوت 69). “إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون” (النحل 128).

الخلاصة:

  • الله تعالى تكفل بالبيان سواء من الأنبياء أو ورثتهم من العلماء.
  • عندما يأتيك: الله يأمر بكذا، الله ينهى عن كذا، الله يرضى كذا، يسخط على كذا. فأنت إذا أخذت الأمر الإلهي للعمل أعانك الله ووفقك وسددك.
  • معية الله وتوفيقه لا تكون للكافرين أبداً، ولا تكون للعصاة، إنما تكون للطائعين.
  • ومع هدايتنا إلى الصراط المستقيم نسأله أن يعيننا وأن يوفقنا وأن يسددنا وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الحق

وعلى صراطه المستقيم

وأن يتوفانا وهو راض عنا.

اللهم آمين


[1] وقد ورد حديث عن أبي ذر قال: قلت:  يا رسول الله كم الأنبياء؟  قال: مئة ألف وعشرون ألفا، قلت: يا رسول الله كم الرسل من ذلك؟ قال: ثلاث مئة وثلاثة عشر جما غفيرا، رواه ابن حبان وسنده ضعيف جدا، وعن أبي أُمَامة قال: قلت: يا نبي الله، كم الأنبياء؟ قال: مئة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّاً غَفِيراً. رواه ابن حاتم في ” تفسيره” وسند ضعيف أيضا.

Visited 59 times, 1 visit(s) today


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 16 أبريل, 2025 عدد الزوار : 14348 زائر

خواطر إيمانية

كتب الدكتور حسين عامر

جديد الموقع