الـربـانية

تاريخ الإضافة 13 سبتمبر, 2023 الزيارات : 1955

  الـربـانية

يقول تعالى : ” أومن كان مــيتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها “[الأنعام 122]
وكأن الإنسان الذي بعيد عن ربه ميت أو يعيش في ظلمات والله يحييه .. ” يا أيها الذين امنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ” [الأنفال 24]
و كذلك يخرجه من الظلمات الى النور “قال تعالى ( وجعلنا له نورا ) وهو نور الإيمان والطاعة لله سبحانه وتعالى
ما معنى الربــانـيـــــة؟
الربانية لغة هي الانتساب إلى الرب والألف والنون للمبالغة ،
وعرفها أبو حامد الغزالي : هي القرب من الله فأكثر الناس ربانية أقربهم الى الله، وأبعد الناس عن الله هو أقربهم للأرض بروحه .

والربانية: مفهوم عظيم دعا الله – عز وجل – عباده إليه في كتابه الكريم بقوله: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}[آل عمران79]

  • نُقل عن علي – رضي الله عنه – أنه قال في وصف الربانين: ” هم الذين يُغَذُّون الناس بالحكمة ويربونهم عليها “.
  • وجاء عن الإمام ابن القيم – رحمه الله – تعالى- أنه قال في وصف العالم الرباني: ” هو الذي لا زيادة على فضله لفاضل، ولا منزلة فوق منزلته لمجتهد، وقد دخل في الوصف له بأنه رباني، وصفه بالصفات التي يقتضيها العلم لأهله، ويمنع وصفه بما خالفها “.
  • وفي تفسيرالكشاف أن الرباني: ” هو العالم العامل المعلم، وقيل: علماء معلمين، وعن الحسن: ربانيين: علماء فقهاء “.

ومن هذه الأقوال ومن غيرها نستطيع أن نقرر جملة من المعالم الرئيسية للشخصية الربانية بجوانبها الثلاثة ربانية العلم والعمل والتعليم.. وهي كالتالي:

1- الإخلاص والتجرد:

ويظهر هذا المعلم من أنه يَعْلَم ليعمل ثم يُعَلِّم لا ليباهي أو يرائي، كما أنه من اسمه رباني الوجهة قصده الله – عز وجل -، وفي هذه النسبة ما فيها من اتجاه القلب إلى مولاه – عز وجل – وتعلقه به، والإخلاص من أشق الأشياء على النفوس كما قال سهل بن عبد الله التستري – رحمه الله تعالى -: ” ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب “.

2– ربانية العلم:

والمقصود به العلم الصائب الذي يدفع إلى العمل الصائب، فالعلم إمام العمل، وقائده، وكل عمل من غير علم فضرره أكثر من نفعه، وكما قال بعض السلف – رحمهم الله – تعالى -: ” من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح “، والعلم الحقيقي هو ما كان مذكراً بالله – عز وجل -، وما أعد لعباده الأبرار جزاء طاعاتهم، وللفجار جزاء معاصيهم، العلم الذي يدفع صاحبه إلى التميز والسمو ويدعوه إلى كل بر وخير، العلم الذي يمنع صاحبه من التدني والسفول، ويصده عن كل إثم وشر، وبمثل هذا العلم تصفو النفوس وتزكو السرائر، ويذهب كدر المعاصي والآثام.

3- ربانية العمل:

وأذكر لها هنا أربع ملامح، وهي:

أ- إصلاح النفس أولاً: فالدعاة إلى الله – عز وجل – قدوات حية للناس تسير على الأرض، ومن كان قدوة للناس فلابد أن يكون سلوكه دال على الله – عز وجل – قبل قوله، وكما قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: ” من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم “.

وصدق الشاعر حين قال :

يا أيها الرجل المعلم غيره *** هلا لنفسك كان ذا التعليم 

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى *** كيما يصح به وأنت سـقيم 

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم 

فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى *** بالرأي منك وينفع التعليم

ولترى أثر إصلاح النفس أولاً في التأثير على الناس ونشر الدعوة والخير فاقرأ معي ما جاء عن الحسن البصري – رحمه الله تعالى -من أنه كان إذا رؤي ذُكِر الله عز وجل ، وقال يونس بن عبيد: كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم يرَ عمله، ولم يسمع كلامه.

ب- الروحانية الدافقة: وهي تلك الروحانية التي يتحدث عنها الشيخ القرضاوي – حفظه الله – تعالى -فيقول: ” وهذه الروحانية ضرورية لكل من يحدث الناس عن الله جل جلاله، ويدعوهم إلى وصل حبالهم به، وربطهم بهُدى كتابه الكريم، وهدي رسوله العظيم – صلى الله عليه وسلم -. وهذه الروحانية الدافقة الصادقة لها مصدر فذ أوحد، هو حسن معرفة الله – تعالى -، وصدق الإيمان به، واليقين بلقائه وحسابه وجزائه، واستحضار القيامة كأنها رأي عين. هذه الروحانية ليست مجرد دعوة تدعى، ولا محض كلام يُقال، أو شعار يرفع، أو مظاهر تخدع، وليس وراءها تقوى حقيقية. فالتقوى إنما هي خشية تعمر القلب، وليست عبارات يتشدق بها اللسان… “.

وهذه الروحانية إنما تستمد من تلاوات للقرآن الكريم متدبرة، وصلوات بالليل والنهار خاشعة، وركعات في جوف الليل والعيون هاجعة، وساعات اعتكاف في مساجد الله والجوارح خاضعة، وجلسات في حلقات الذكر ودروس العلم والنفوس صافية، وطاعات وقرب أُخر تملأ الأوقات وتدفع الأرواح إلى رب الأرض والسموات.

وها هو ذا الإمام ابن الجوزي – رحمه الله تعالى -يقول: ” رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين، لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها “.

ج- التلقي للتنفيذ: تعلم العلم من أجل العمل به لا من أجل الاستكثار كما يقول عنه سيد قطب – رحمه الله – تعالى-: ” منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول، ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرج الأجيال التي تليه “..

لقد علمنا كثيراً فماذا عملنا فيما علمنا؟! وأضرب لكم مثلاً بسيطاً فالمقام لا يسمح بأكثر من ذلك.. الخوف من الوقوع في الحرام هو إحدى نتائج العمل بالعلم وهو تقى الله – عز وجل – وهو الورع في إحدى صوره التي يذكرها العلماء..

انظروا إلى كلامنا هل نخاف من أن نقع في أعراض الناس فـ (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وكما يقول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: ” لا يعجبنكم من الرجل طنطنته، ولكنه من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل “، وقد كانوا يعرفون ورع الرجل في كلامه إذا تكلم كما ذكر ذلك يونس بن عبيد – رحمه الله تعالى –

في الجانب المالي.. هل نحن نتحرى المال من حله، ونخاف أن نقع في الحرام ؟!

الاستعارة.. هل نحرص على إعادة ما استعرناه من كتاب أو شريط إلى إخواننا لأنه حق لهم؟!

الدَيْن.. هل نحرص على أن نسدد الدين الذي علينا ولو كان بسيطاً مثلاً؟!

المسائل الخلافية.. هل عندنا حرص على معرفة الحكم من أهل التقى والدين من العلماء الربانيين أم أنه مجرد وجود الخلاف في المسألة يسوغ لنا أن نأخذ بالقول الذي يوافق هوانا دون تحرٍ للصواب والحق؟! والواجب في هذه المسألة أن نسأل أهل العلم والتقى والدين فنأخذ بقولهم ولو خالف هوانا..

د- الهم المحرق، والعمل المضني: همه أمته.. يتحرق لواقعها، وتهتز مشاعره لمصابها.. فيدفعه ذلك إلى العمل الجاد المثمر في سبيل رفعتها، وانظروا إلى حال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله تعالى -حينما كان يبكي في يوم من الأيام فسألته زوجته فاطمة عن سبب بكائه فقال: ” ويحك يا فاطمة، إني وليت أمر هذه الأمة ففكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والمظلوم المقهور، والغريب، والأسير، والشيخ الكبير، والأرملة الوحيدة، وذي العيال الكثير والرزق القليل، وأشباههم في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة وأن خصمي دونهم محمد – صلى الله عليه وسلم -، فخشيت ألا تثبت لي حجة فلذلك بكيت “، بمثل هذا الهم يكون العمل الصادق لهذا الدين، العمل الذي لا يترك فراغاً للإنسان للجدل العقيم أو النجوى الفارغة، أو الحديث في سفاسف الأمور.

4– ربانية التعليم:

بالتدرج في تعليمهم وبتربيتهم بصغار العلم وهو ما وضح من مسائله قبل كباره وهي المسائل الدقيقة في العلم، وكذلك يتدرج معهم بتعليمهم الجزئيات قبل الكليات والأصول قبل الفروع، والواضح قبل الغامض، والمسائل المتفق عليها قبل المختلف فيها.

وختاماً.. فما أحوجنا إلى هذه الربانية الصادقة نتمثلها في حياتنا، ونسير في دروبها على خطى من سبقنا من أئمة الهدى والصلاح.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود

 رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود   ما أجمل أن يتلمس الدعاة في عصرنا الحاضر السير على خطى الأنبياء، والتخلق بأخلاقهم، والاقتداء بهم في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، من خلال المنهج القرآني في عرض قصصهم، وأحوالهم مع أقوامهم؛ من خلال دراستي لأحد سور القرآن (سورة هود)

تاريخ الإضافة : 24 أبريل, 2024 عدد الزوار : 22 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع