ما حكم الإحرام من جدة ؟
هذه من المسائل العصرية التي ظهرت حديثا بالنسبة لحجاج الطائرة، وقد اختلف أهل العلم المعاصرين في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول: لا تعتبر جدّة ميقاتاً مكانياً ولا يجوز الإحرام منها إلاّ لأهلها، ومن أنشأ النية فيها:
وهو قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي حيث قالوا إن المواقيت التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب الإحرام منها على أهلها، وعلى من مر عليها من غيرهم، ممن يريد الحج والعمرة هي: ذو الحليفة لأهل المدينة ومن مر عليها من غيرهم، وتسمى حاليًّا (أبيار علي). والجحفة وهي لأهل الشام ومصر والمغرب، ومن مر عليها من غيرهم، وتسمى حاليًّا (رابغ). وقرن المنازل، وهي لأهل نجد ومن مر عليها من غيرهم، وتسمى حاليًّا (وادي محرم) وتسمى أيضًا (السيل). وذات عرق، لأهل العراق، وخراسان، ومن مر عليها من غيرهم، وتسمى (الضريبة). ويلملم، لأهل اليمن ومن مر عليها من غيرهم.
وقرر: أن الواجب عليهم أن يحرموا إذا حاذوا أقرب ميقات إليهم من هذه المواقيت الخمسة جوًّا أو بحرًا، فإن اشتبه عليهم ذلك ولم يجدوا معهم من يرشدهم إلى المحاذاة، وجب عليهم أن يحتاطوا وأن يحرموا قبل ذلك بوقت يعتقدون أو يغلب على ظنهم أنهم أحرموا قبل المحاذاة؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائز مع الكراهة ومنعقد، ومع التحري والاحتياط، خوفًا من تجاوز الميقات بغير إحرام تزول الكراهة؛ لأنه لا كراهة في أداء الواجب، وقد نص أهل العلم في جميع المذاهب الأربعة على ما ذكرنا، واحتجوا على ذلك بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في توقيت المواقيت للحجاج والعمار.
إذا عُلم هذا فليس للحجاج والعمار الوافدين من طريق الجو والبحر ولا غيرهم أن يؤخروا الإحرام إلى وصولهم إلى جدة، لأن جدة ليست من المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: تعتبر جدة ميقاتاً مكانياً لمن وصل إليها بطريق الجو أو البحر؛ أياً كانت جهة قدومه فيؤخر الإحرام حتى يصل اليها :
وهو قول الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله، والشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله، والشيخ عبد الله الأنصاري رحمه الله من قطر، والشيخ عدنان عرعور، والشيخ محمد الحسن ولد الددو، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله من تونس، والشيخ عبد الله بن كنون من المغرب.
واستدل القائلون بذلك بما يلي:
الدليل الأول: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة…) الحديث.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم عين المواقيت المذكورة؛ لأنها كانت على طريق الحجاج القادمين من جهات شتى، وحاجة تعيين ميقات في جدة للقادمين بالطائرات والسفن قائمة، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً ورأى كثرة النازلين في جدة لبادر إلى تعيين جدة ميقاتاً؛ لأنها طريق للحاج كالمواقيت الأخر.
الدليل الثاني: ما رواه ابن عمر رضي الله عنه قال: لما فتح هذان المصران ( تثنية مصر، والمراد بهما الكوفة والبصرة) أتوا عمر فقالوا: ( يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرناً، وهو جور عن طريقنا، (مائل عن طريقنا الذي نسلكه ونقصده) وإنا إن أردنا قرناً شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرق)
وجه الاستدلال من وجهين:
الأول: أن عمر رضي الله عنه لما رأى حاجة أهل العراق، ومشقة ذهابهم إلى قرن عين لهم ذات عرق، وكذلك الآن جدة صارت طريقاً لركاب الجو والبحر، وما سواها فيه جور ومشقة عليهم، فيحتاجون إلى تعيين ميقات أرضي لإحرامهم، كما احتاج الناس في زمن عمر.
وجه الاستدلال الثاني من الحديث: أن عمر حدد ذات عرق لأنها تبعد عن مكة مرحلتين كما تبعد قرن المنازل، وهذا هو بعد جدة عن مكة، فهي تبعد عن مكة مرحلتين، فيحرم الحاج منها؛ لأنها تبعد مرحلتين عن مكة نظراً لاجتهاد عمر.
الدليل الثالث: أن أصل الحج موقوف على الاستطاعة، ومن الاستطاعة أمن الطريق، فيسقط الحج عمن خاف على نفسه خوفاً محققاً، فإذا كان الحج كذلك فواجباته كذلك فواجباته كذلك تسقط في حال الخوف وعدم الاستطاعة، ومنها الإحرام عند المحاذاة بالطائرة؛ لأن الناس مشغولون بالاضطراب والخوف من خطر الطائرة خشية وقوع حادث، وذلك مستمر حتى يصلوا إلى بر السلامة، وهو جدة إذ هي بداية الوصول؛ فيحرمون منها أرفق بهم.
الدليل الرابع: أن الإحرام من جدة فيه دفع للمشقة الحاصلة للمكلفين من الإحرام في الطائرة، ولا شك أن المشقة مدفوعة بالشرع، وذلك بناء على عدة أمور منها: أولًا: أن التيسير أصل من أصول الشريعة.
ثانيًا: من القواعد الأساسية في الدين (أن المشقة تجلب التيسير) ومن هذه القاعدة خرجت جميع رخص الشرع وتخفيفاته، والحاج يعاني مشقة من إحرامه في الطائرة أو في بلده، فكان من يسر الشريعة ورفع المشقة عن المكلفين أن يحرم القادمون بالطائرة أو السفن من جدة.
القول الثالث: التفصيل فإذا كان القادم إلى جدة جوًا أو بحرًا لا يمر ولا يحاذي ميقاتًا قبلها، جاز له الإحرام منها كالقادم من سواكن من بلاد السودان ونحوها، ومن عداهم فلا يجوز لهم الإحرام منها، وهو قول للحنابلة ، وبه قال الشيخ ابن باز وابن عثيمين وتلميذه الشيخ خالد المصلح.
واستدل القائلون بذلك بنفس أدلة أصحاب القول الأول المانعين من الإحرام من جدة، وأما استثناء من قدم من الغرب كسواكن، فدليلهم فيه: أن القادمين من سواكن لا يمرون بميقات ولا يحاذونه؛ لأن المواقيت أمامه، فيصل إلى جدة قبل محاذاتها، فلذا يحرمون من جدة لأنها تبعد مرحلتين عن مكة، ولأن المحاذاة لا تحصل لهم قبل دخولها.
الراجح :
بعد النظر في الأدلة والمناقشات يظهر لي رجحان القول الأول بمنع الإحرام من جدة إلا لأهلها ومن أنشأ النية فيها، وذلك لعدة أسباب:
قوة أدلة هذا القول، وأن في هذا القول احتياطًا للعبادة، وأن أماكن المواقيت ومواضع محاذاتها قد ضبطت في هذا الزمن، وأن الإعلان عن محاذاة الميقات في وسائل النقل متمكن، وأن المشقة المتصورة في الإحرام في الطائرة ونحوها مشقة غير كبيرة.
ويقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي : هناك رأي يقول: أن الإحرام لركاب الطائرات يكون من جدة، وهذا أشبه بما قاله المالكية بأن ركاب السفن يُحرِمون إذا نزلوا من السفينة، من جاء من مصر أو من شمال أفريقيا أو من السودان وركب البحر قالوا: أن من حقه ألا يُحرِم إلا إذا وصل إلى جدة، فإذا كان هذا بالنسبة لركاب البحر فركاب الجو أحوج إلى هذه الرخصة من ركاب البحر، والشيخ عبد الله بن زيد المحمود أيضاً كتب رسالة في ركاب الطائرات بأنهم يجوز لهم أن يُحرِموا إذا نزلوا .
وأنا أرى أن هذا نوع من التيسير للحجاج في هذه القضية – والكلام للشيخ القرضاوي- وخصوصا من نزل في جدة وله حاجة فيها، إن كان له أقارب، أو له حاجة يريد أن يشتريها، وبعد ذلك ينوي الحج، أو ينوي العمرة، في هذه الحالة يُحرِم من جدة ولا يلزمه أي شيء.
ولكني أرى بالنسبة لمن يحج أول مرة -من يحج حجة الإسلام حجة الفريضة- أرى أنه يحتاط لهذه الحجة فيحاول في هذه الحجة أن يكون على جميع المذاهب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، إذا لم يكن في ذلك حرج ولا مشقة، فإن الله ما جعل في هذا الدين من حرج، فلا مانع أن يُحرِم من الطائرة، ولو كان في ذلك بعض المشقة الخفيفة عليه، حتى يكون مقبولاً على جميع المذاهب، ويكون مطمئناً إلى حجته إن شاء الله.