ما سر اهتمام النبي بالعبادة في شعبان؟

تاريخ الإضافة 7 فبراير, 2025 الزيارات : 34

ما سر اهتمام النبي بالعبادة في شعبان؟

نستقبل في جمعتنا ويومنا هذا غرة شهر شعبان، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا في شهر شعبان، وأن يبلغنا رمضان، وأن يجعلنا من الفائزين بطاعته. اللهم آمين.

عندما يدخل علينا شهر شعبان، يبدأ العد التنازلي استعدادًا لرمضان، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستعد لرمضان في شعبان، لأننا قد نكون في غفلة طوال الشهور الماضية، وربما قصرنا بعض الشيء أو انشغلنا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أمرًا في شهر شعبان ربما لم ننتبه إليه، وهو أن شهر شعبان هو شهر ختام السنة الإيمانية.

بداية السنة الهجرية تكون في شهر محرم، لكن بداية السنة الإيمانية تكون في شهر رمضان، ثم نهايتها في شعبان، وهذا الشهر ترفع فيه أعمال السنة إلى الله رب العالمين.

ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر؟

في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: “لم أرك تصوم شهرًا من الشهور كشهر شعبان”، وكان يقصد بذلك صيام النافلة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من صيام النافلة في شهر شعبان، فقال صلى الله عليه وسلم: “ذاك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله، وأحب أن يُرفع عملي إلى الله وأنا صائم”.

يا إخواني، النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا معنيين هامين:

  1. أن أوقات الغفلة ينبغي أن يحرص المسلم المحب لربه على أن يحييها بالطاعة.
  2. أن شهر شعبان هو شهر رفع الأعمال، وأفضل عمل يُختم به عامك هو الصيام، فتكون نعم البداية في رمضان بالصيام، ونعم النهاية في شعبان بالصيام.

فيكون بداية ونهاية العام صائمًا لله عز وجل، وهذا من حسن العمل وحسن الخاتمة، أن يُختم لك بعبادة يحبها الله، كعبادة الصيام.

إخواني وأحبابي الكرام:

ما ينبغي أن نركز عليه دائمًا هو أن المسلم لا يعرف ربه معرفة المواسم فقط، بمعنى أن بعض الناس لا يتعبد إلا في رمضان،  وهذا ما وصل إليه إيمانه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينقطع أبدًا عن عبادته لربه، بل كان دائمًا يواصل الليل والنهار في كل عمل يرضي الله عز وجل.

وهذا ما سماه الإمام ابن القيم في مدارج السالكين منزلة الإنابة، أي أن العبد المنيب إلى الله هو الذي دائمًا يرتبط بطاعة الله، فكلما بعد أو قصر، استوحش، فيكون أنسه بطاعة الله، وسعادته بقربه من الله عز وجل، وزاده الروحي أن يقدم لله عملًا يرضى به عنه.

وهذه الصفة هي صفة أنبياء الله عليهم السلام، فقد أثنى الله على العديد من أنبيائه بهذه الصفة:

  • قال عن داوود عليه السلام: “وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ” (سورة ص: 24).
  • وقال عن شعيب عليه السلام: “وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ” (سورة هود: 88).
  • وقال عن سليمان عليه السلام: “وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ” (سورة ص: 34).
  • وقال عن إبراهيم عليه السلام: “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ” (سورة هود: 75).

وهكذا ينبغي أن يكون حالنا في هذا الشهر، أن نكون منيبين إلى الله، مكثرين من الطاعات، مستعدين لرمضان بقلوب نقية وأعمال صالحة.

فالعبد المنيب إلى الله هو الذي يجعل نقطة انطلاقه في هذه الحياة مرضاة الله عز وجل، فكلما قصر أو بعد، أقبل على الله إقبال المحب، لا إقبال الكاره أو المضطر، يسعى إلى مرضاة الله سعي المتشوق، المتطلع إلى رحمته، المستأنس بذكره عز وجل.

اسمعوا ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد العابدين، صلوات ربي وسلامه عليه:

“إنه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة”.

الغين هو السحاب الخفيف، ومعنى “يغان على قلبي” أي أن انشغاله ببعض أمور الدنيا والسعي للمعاش قد يحدث له التفاتة خفيفة.

فالنبي صلى الله عليه وسلم دلّنا على الداء والدواء:

  • الداء: الانشغال بالدنيا، وبالأولاد، وبالسعي، وبالوظيفة، وبالدراسة، ثم ماذا بعد؟ هل تترك قلبك هكذا؟
  • الدواء: أن تتزود بالإنابة والاستغفار، كما قال صلى الله عليه وسلم: “وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة”.

واستغفاره صلى الله عليه وسلم ليس لأنه عصى الله أو قصر في أوامره، حاشاه صلى الله عليه وسلم، وإنما لأنه استشعر أن قلبه قد انشغل قليلًا بالدنيا.

“إنه ليغان على قلبي” أي كما ترى السماء صافية يعكر صفوها بعض السحاب الخفيف، فهكذا قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يكثر من الاستغفار.

فالعبد المنيب إلى الله له زاد يتزود به لمرضاة ربه، وله فلك يدور فيه، فإذا انشغل أو قصر، عاد منيبا إلى الله، وأصلح ما فسد، وعوض ما خسر.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على ذلك، فقال يومًا لصحابته:

“من أصبح منكم اليوم صائمًا؟”
قال أبو بكر: أنا يا رسول الله.

“من عاد منكم اليوم مريضًا؟”
قال أبو بكر: أنا يا رسول الله.

“من تبع منكم اليوم جنازة؟”
قال أبو بكر: أنا يا رسول الله.

“من تصدق اليوم بصدقة على مسكين؟”
قال أبو بكر: أنا يا رسول الله.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

“ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة”.

أي أن من اجتمعت فيه هذه الأعمال الصالحة في يوم واحد فقد وجبت له الجنة، بإذن الله.

فهذا صيام تطوع، واتباع جنازة، وزيارة مريض، وصدقة، وهي أربع عبادات عظيمة، حث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على فعلها، ليبقى العبد في صلة دائمة مع الله جل جلاله.

وكان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته صلاة الجماعة، صام يومًا، وأحيا الليل، واعتق رقبة، يعوض ما فاته.

ونحن هنا لا نتحدث عن ترك الفريضة، بل عن صلاة الجماعة! فكيف بمن يفرط في الفرائض نفسها؟

فاللهم اجعلنا من المنيبين إليك، الثابتين على طاعتك، الساعين إلى مرضاتك، المستغفرين بالليل والنهار.

وكان وهب بن الورد يقول: “إذا استطعت ألا يسبقك أحد إلى الله فافعل”.

أي أن تكون أول من يسارع إلى الله عز وجل، وأول من يسارع إلى مرضاته في كل عمل صالح تستطيعه وتقدر عليه.

وكان أبو إدريس الخولاني يقول: “أحسب أصحاب محمد أن يسبقونا إليه، والله لنزاحمنهم عليه في الدخول إلى الجنة”.

هذا كان يقوله لنفسه كلما قصر في قيام الليل، يحث نفسه على المسابقة في الطاعات، وعدم التفريط فيها.

سبحان الله!

وحكى ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أنه كان إذا صلى الفجر، جلس في مصلاه يذكر الله تعالى، ويقول: ” تلك غدوتي”.

أي أن الذكر هو زاده الروحي، كما أن الإنسان يحتاج إلى وجبة طعام يومية، فهو يرى أن الذكر هو غذاؤه الروحي.

ثم قال: “لو لم أتناول غدوتي، لفقدت قوتي بقية اليوم”.

فالعبد المنيب إلى الله يرى أن كل طاعة تقربه من الله عز وجل، ولا ينبغي أن يقصر فيها، بل يقبل على الله إقبالًا ليس فيه تقصير، فإذا قصر، حاول أن يجبر هذا النقص بمزيد من العمل، ومزيد من الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى.

لا تمن على الله بطاعتك:

البعض عندما يقوم بطاعة من الطاعات، كأنه يمنّ على الله بها، أو يظن أنها تكفيه، فنقول له:

استمع إلى ما قاله رب العالمين في الحديث القدسي:“يا عبادي، إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني”.

أي لن تبلغوا أن تنفعوا الله بقوتكم، ولا بعلمكم، ولا بثروتكم، ولا بغناكم، ولا بأي شيء تملكونه.

وكذلك لن تبلغوا بمعاصيكم أن تضروا الله عز وجل.

فالعباد مهما بلغوا من الطاعة والتقوى، لن يبلغوا أن ينفعوا الله، ومهما بلغوا من العصيان والفجور، لن يبلغوا أن يضروا الله عز وجل.

إنما الفائز حقًا هو من فاز بالقرب من الله سبحانه وتعالى.

فإذا غبت عن صلاة الجماعة، فاعلم أن غيرك قد سبقك وصلى وفاز بالجماعة.

وإذا غبت عن المصحف، فاعلم أن هناك آلاف سبقوك، وقرأوا ما قرأوا، وحفظوا ما حفظوا.

وكذلك في كفالة يتيم، أو صدقة لمسجد، أو إعانة لمحتاج، أو زيارة لمريض، فلا تمنّ على الله بما مَلَّكَك وأعطاك.

إنما الله هو الذي يمنّ عليك، أن وفقك لهذا العمل، وأن هداك إليه.

قال الله تعالى:“يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” (سورة الحجرات: 17).

فلينظر كل واحد منا خلال العام الماضي، وهو يستقبل عامًا إيمانيًا جديدًا:

  • كم فرّط؟
  • وكم ضيّع؟
  • وكم قصر؟

فينبغي أن يحاول أن يجبر النقص، ويصلح العجز، ويستدرك ما فات، ويسابق إلى الطاعات.

اللهم اجعلنا من المتسابقين إلى طاعتك، المنيبين إليك، الساعين إلى مرضاتك.

واعلم أن الفائز هو أنت، والله عز وجل غني عنك وعن طاعتك.

وهناك فرق بين ملكٍ يهدي بهديةٍ، وبين عبدٍ يهدي إلى الملك.

فإذا أهدى الملكُ هديةً لأحد، فذلك شرفٌ عظيمٌ له، أن يقبل هدية الملك، ويُعلن أن فلانًا الفلاني قد حاز جائزة الملك، أو الرئيس، أو الهيئة العالمية الفلانية.

أما أنا كعبدٍ ضعيف، إذا أهديتُ الملك هدية، فإن الملك لا ينقصه لا شرف، ولا عز، ولا غنى.

فالشرف لي إن قبل الملكُ هديتي.

ولهذا قال الله تعالى:“إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ” (سورة المائدة: 27).

وقال سبحانه:“وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ” (سورة ق: 31-32).

و”الأواب” هي نفس المنزلة التي نتكلم عنها، وهو العبد الذي دائم الرجوع إلى الله، ينيب إليه، ويُقبل عليه إقبال المحب.

فلا تعتقد أن الله بحاجة إلى صدقتك، أو صلاتك، أو صيامك.

بل اعلم أنك أنت المحتاج، وأن هذا زادك في الطريق إلى الله.

فإن لقيت الله عز وجل بخير العمل، فاعلم أنه سيلقاك بخير المثوبة، لقوله تعالى:“فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ” (سورة الزلزلة: 7-8).

فشهر شعبان فرصة – يا إخواني – لأن نجدد العهد مع الله سبحانه وتعالى، وأن نتزود بالعمل الصالح استعدادًا لشهر رمضان.

فالانطلاقة تبدأ من الآن، والانطلاقة الإيمانية تبدأ بالعمل الصالح من هذه اللحظة، حتى إذا دخل رمضان، كنتَ في أعلى وأرقى وأسمى الحالات الإيمانية، وأنت صائم النهار، وقائم الليل، مقبل على الله عز وجل، فتستحق الجائزة، بالفوز والقبول من الله سبحانه وتعالى.

أسأل الله العظيم الكريم، جل وعلا، أن يجعل عملنا كله صالحًا، ولوجهه خالصًا، وألا يجعل لأحد فيه شيئًا.

اللهم بلغنا رمضان، ووفقنا إلى ما تحبه وترضاه، وثبتنا على الحق إلى أن نلقاك.

اللهم آمين.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 9 يناير, 2025 عدد الزوار : 14018 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

فقه الصيام

شرح مدارج السالكين