تفسير سورة الكهف
7- ﴿مثل الحياة الدنيا﴾
تفسير الآيات [ 45- 50]
تفسير قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا* الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا* وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا* وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا* وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا* وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: 45-50]
تفسير قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ [الكهف: 45]
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : كما ضربت لهم مثل الرجلين وما آل إليه أمرهما اضرب لهم مثل الحياة الدنيا وأنها تتقلب بأهلها، وتتبدل بهم، واضرب لهم مثلاً للدنيا من واقع الدنيا نفسها.
أَي اذكر لهم مثل الحياة الدنيا، ببيان ما يُشبهها في زهرتها ونضارتها، وعدم استقرارها ، وسرعة زوالها .
“كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ): أَي أَنها تشبه حال النبات الذي أنبته الله بماءٍ كثير أَنزله من السماء، فاختلط بهذا الماء نَباتُ الأرض بعد أن روى منه وامتلأت به عروقه، فنما وكثر أو اختلط بسبب الماء نباتُ الأرض ، فالتف بعضه ببعض بعد أن كثر واستوى على سوقه؛ هذا النبات الجميل الناضر لم يلبث حتى أسرع إِليه الفناءُ بدون إبطاءٍ.
ويشير إِلى ذلك الإِتيان بالفاء في قوله سبحانه:(فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ): أي فأصبح متكسرا متفتتا من اليُبْسِ، تفرقه الرياح وتنسفه وتذهب به وتجئ .
فالمشبه في الآية: الحياة الدنيا في جمالها وزينتها ثم فنائها، والمشبه به: الهيئة المنتزعة من الجملة وهي حال النبات يكون أخضر مهتزا ثم يصير هشيما تطيره الرياح حتى كأنه لم يكن.
(وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا): أي أنه سبحانه على كل شيء من الأشياء – ومن جملتها الإيجاد والإفناءُ – كامل القدرة يفعل ما يشاءُ جل شأنه.
ولما كان الكلام السابق عن صاحب الجنة الذي اغتر بماله وولده فناسب الحديث عن المال والولد فقال:
تفسير قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا٤٦﴾ [الكهف: 46]
في هذه الآية بيان لما كانوا يفتخرون به من زينة الحياة الدنيا متمثلة في المال والبنين لأنَّ في المال جمالا ونفعا يصلون به إِلى مآربهم وكل ما تقتضيه حياتهم، وفي الأولاد قوةً ودفعا يبلغون بهما إِلى ما ينشدونه من عزة ومنعة ؛ كما وقع في محاورة الصاحب الكافر لصاحبه المؤْمن حيث قال له على سبيل التعالي والفخر: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا).
قال علي رضي الله عنه: الْمَالُ وَالْبَنُونَ : حرث الدنيا، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ : حرث الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام.
والمعنى: إن ما تفتخرون به من المال والبنين شيء يتزين به في الحياة الدنيا وقد عرفتم شأنها في سرعة زوالها، وقرب اضمحلالها، فكيف زينتها التي هي صفة من صفاتها، إنها تزول وتفنى قبل زوالها – فلا تجعلوها كل همكم، وتعرضوا عن الآخرة دار الكرامة والجزاء بل اعملوا لخيري الدنيا والآخرة .
ولأن المال والبنون لا يغدوان مع صاحبهما إلى القبر ؛ فذكر الله ما يغدو معك إلى قبرك، فقال جل ذكره: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)
قال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إِلا بالله العلى العظيم. خرجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات: إنها قول العبد الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأخرج الإمام أَحمد والحاكم وصححه، وغيرهما عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(استكثروا من الباقيات الصالحات. قيل وما هي يا رسول الله قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله).
قال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة: الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس وقال ابن عباس في رواية أخرى: هي كل عمل صالح من قول أَو فعل يبقى للآخرة: اهـ
فيدخل فيه كل عمل جادٍّ لخدمة الإِسلام والذود عنه بالنفس والمال والمقال، وكل عمل ينصر حقا أَو يدفع باطلا. أَو يعاون محتاجا أو ينشر علمًا .
“وخير أملاً” أمور الدنيا وحرث الدنيا لا أمل من ورائها؛ لأن عمله ينقطع بمجرد الموت، أما الأعمال الصالحة فسماها الله باقيات؛ لأن أمل نفعها بعد البعث أعظم وأجدى.
لماذا قدم المال في الآية على البنين؟
لأمرين:
الأول:لأن المال تتعلق به نفس كل أحد بخلاف البنين فإنه لا يتعلق بهم قلب كل أحد.
الأمر الثاني: أن الإنسان إذا كان كثير المال، ولا أبناء عنده فلا يقال عنه: إنه شقي، شقاوة دنيوية، لكن من كان عنده كثرة أبناء، ولا مال له ففيه نوع من رقة الحال، وكثرة العيال، وشقاوة المرء في دنياه من حيث الجملة لا من حيث قضاء الله وقدره.
ما الحكمة أن الله تبارك وتعالى قال: ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا﴾ ولم يذكر البنات؟
ذَكر المال والبنون لأنهما من أكثر ما يفتخر به الناس في الدنيا، وأكثر ما يتنافسون عليه، وهما مظاهر بارزة في نظر العامة للغنى والعز، فالمال: يُمثل القدرة، والسيطرة، وتحقيق الشهوات والرغبات، والبنون (الذكور): كانوا يُعتبرون رمزًا للقوة، العزوة، الحماية، والعون في الحياة، بل وحتى استمرار “الاسم” في النسب.
فكأن الآية وصفت ما تفتخر به عيون الناس وعقولهم – لا ما هو الأفضل عند الله – بل قال بعدها مباشرة:﴿والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثوابًا وخيرٌ أملًا﴾ أي أن الزينة الحقيقية ليست في المال أو الذرية، بل في الصالحات الباقيات إلى يوم القيامة، وهذا هو الأفضل عند الله. [1]
هل البنات من زينة الحياة الدنيا؟
البنات زينة ونعمة عظيمة من الله، لكن السياق في الآية هو في زينة الدنيا التي يراها الناس، لا في القيمة عند الله، والله سبحانه لم يُقلِّل أبدًا من شأن البنات، بل العكس تمامًا! في مواضع كثيرة أنكر الله على من كان يَستحي من إنجاب البنات، فقال تعالى: ﴿وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به﴾ [النحل: 59،58]
وفي الحديث الصحيح:”من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن وسقاهن، وكساهن من جِدَته – أي من ماله – كن له حجابًا من النار“رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني.
وفي رواية:”من ابتُلي بشيء من البنات فأحسن إليهن كُنّ له سترًا من النار” رواه البخاري ومسلم.
تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: 47]
يخبر الله سبحانه بهذه الآية وما بعدها عن أَهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، تحذيرا للمشركين وترهيبا.
(نُسَيِّرُ الْجِبَالَ): ننقلها ونزيلها من أَماكنها على وجه الأرض.
والمعنى: واذكر لهم أيها النبي يوم ننقل الجبال، ونزيلها من أماكنها، ونسِّيرها على هيئاتها كما نسير السحاب، يشير إلى ذلك قوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) [النمل الآية : 88]
ثم تتشقق وتتفتت فتكون كحبات الرمل المتناثرة كما قال سبحانه:(وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا) [المزمل الآية 14] ثم تصير غبارا منتشرا تسوقه الرياح حيث أراد الله كما قال تعالى: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) [الواقعة الآيتان – 5، 6] وفي نهاية أَمرها تصبح كسراب يُرى من بعيد حتى إذا جئته لم تجد شيئًا، وذلك لتفرق أجزائها تفرقا تاما كما قال سبحانه: (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) [النبأ : 20].
ونلحظ أن الحق سبحانه ذكر أقوى مظهر ثابت في الحياة الدنيا (الجبال)، وإلا ففي الأرض أشياء أخرى قوية وثابتة كالعمائر ناطحات السحاب، والشجر الكبير الضخم المعمر وغيرها كثير، فإذا كان الحق سبحانه سينسف هذه للجبال ويزيلها عن أماكنها، فغيرها مما على وجه الأرض زائل من باب أولى.
بعد هذا الصنيع من القوى القادر، يظهر سطح الأرض مستويا، لا عوج فيه ولا أَمتا أي لا انخفاض به ولا ارتفاع.
ويشير إلى ذلك قوله جل شأنه:(وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً) فالأرض في الدنيا مغطاة بما عليها من بنيان، وجبال، وزرع ، لكن يوم القيامة َتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً فلا يوجد على الأرض أي معلم، ولهذا جاء في الحديث: (وليس فيها معلم لأحد)، لا يوجد علامة نتواعد ونتفق على أن نلتقي عندها، وقيل بارزة أي برز ما فيها من الكنوز والأموات ، كما قال تعالى: (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) [الانشقاق: 4 ]
(وَحَشَرْنَاهُمْ): جمعناهم من كل صوب.
(فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا): أي: لم نترك، ويقال لفلان: غادر؛ لأنه ترك الأمانة، فالمعنى فلم نترك منهم أحدا دون حشر.
تفسير قوله تعالى: ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا﴾ [الكهف: 48]
أي أنهم يُحَضرُون يوم الموقف العظيم لا يتخلف منهم أحد فيقفون مجتمعين غير متفرقين، ليقضى الله بينهم بالحق وفي قوله: (صَفًّا) ما يشير إِلى اجتماعهم صفوفا، وفي الحديث الصحيح: “يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفًا”.
(لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ): تقريع للمشركين المنكرين للبعث ، وتوبيخ لهم على رءُوس الأَشهاد، وذلك بأن يقال لهم لقد جئتمونا على هيئة تشبه الهيئة التي كنتم عليها عند خلقكم أَول مرة، حفاة عراة غُرْلا أَي غير مختونين، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرْلا. قلت يا رسول الله الرجال والنساءُ، ينظر بعضهم إِلى بعض قال: يا عائشة الأمر أَشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض”. وفي رواية أُخرى “الأمر أشد من أَن يهمهم ذلك”.
أَو يقال لهم: لقد جئتم وليس معكم شيء مما كنتم تفتخرون به من الأموال والأنصار لقوله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (الأنعام من الآية – 94). أي بعثناكم بعد الموت فرادى كهيئتكم عند خلقكم وإحيائكم أول مرة بلا مال ولا ولد ولا سلطان.
(بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا): انتقال لمواجهة منكري البعث بالتوبيخ والتقريع أي ادعيتم في الدنيا أن لن تبعثوا، ولن نجعل لكم موعدا نُنْجِزُ فيه ما وعدنا من البعث وتوابعه، وقد خاب ظنكم، وكذب زعمكم، وتحقق عيانا ما أَنكرتموه، فقد أَحييناكم بعد موتكم وجئتمونا للحساب.
تفسير قوله تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49]
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) المعنى: أن الله سبحانه وتعالى يضع الكتاب، ويُقصَد به صحائف الأعمال، وذلك بِجَعلها في أَيدى أصحابها يأخذ كل منهم كتابه بيمينه أَو بشماله، وحينئذ تُبْصِر العصاة جميعًا خائفين مما في الكتاب من الجرائم التي اقترفوها، والذنوب التي باءُوا بإِثمها.
“وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا” مؤنث ويل، والمعنى: الدعوة على أنفسهم بالهلاك والثبور، أي: شعروا بالهلاك والثبور أي أنهم عند وقوفهم على كل ما فيه ترتفع منهم أَصوات الحسرة والحيرة ، ويتمنون الموت والهلاك حتى لا يروا العذاب الأليم ، وقد دعاهم إلى ما صنعوا، ما وجدوه في الكتاب الذي وضع في يد كل منهم بما يدعو إلى العجب والفزع الذي أشار إِليه قولهم:
(مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ) لم يَتْرك معها صغيرة ولا كبيرة إلا عدها وأحاط بها.
قال قتادة: اشتكى القوم الإحصاء وما اشتكى أَحد ظلما، فإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه، وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه ضجوا إِلى الله تعالى من الصغائر قَبْلَ الكبائر.
(وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا): كل ما صنعه الإنسان، واقترفته اليدان، وأبصرته العينان، أي خطيئة في ليل أو نهار سيراها المرء بين عينيه، أعاذنا الله وإياكم من ذل الفضيحة يوم العرض عليه .
(وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا): أَي لا يأخذ أَحدا بجرم أَحد، ولا يأخذه بما لم يعمله، وقد وعد سبحانه بإثابة المطيع والزيادة في ثواب ما عمله مما أمَرَهُ بهِ، وارتضاه منه، كما وعد بتعذيب العاصي بمقدار جرمه من غير زيادة على ما عمل، وأنه قد يغفر له ما عدا الكفر كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء من الآية 161). سبُحانه جل وعلا يفعل ما يشاءُ ويختار.
تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: 50]
أي: واذكر أيها الرسول وقت قولنا لهم (اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجود تشريف وتكريم.
(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ): أَي سجد الملائكة جميعًا امتثالا وطاعة ما عدا إبليس، فإنه لم يكن من الساجدين إباءً منه واستكبارا.
(كَانَ مِنَ الْجِنِّ): وهذا ظاهر في أنه ليس من الملائكة ؛ بل كان معهم ومعتبرا في عدادهم لوجوده بينهم، ولذا قال الحسن فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أَبي حاتم: “قاتل الله أَقوامًا زعموا أَن إِبليس من الملائكة والله يقول: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) وأصله مِنْ فسق الرطب إذا خرج عن قشره، أي فخرج عن طاعته سبحانه وتعالى.
ومناسبة ذكر قصة إبليس هنا هي أنه سبحانه لما ذكر يوم القيامة والحشر، وذكر خوف المجرمين ورهبتهم مما سُجِّل في كتبهم من كل صغيرة أَو كبيرة، ناسب الإتيان بها تذكيرا لهم بأن إِبليس اللعين هو الذي حملهم على المعاصي، واقتراف الآثام، واتخاذ الشركاء والأنداد، فهم في ذلك تابعون لتسويله وإغرائه كما ينبئ عنه قوله تعالى:(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) بهذا الاستفهام وبَّخ الله المشركين وأنكر عليهم بعد علمهم بقبائح الشيطان وأباطيله أَن يستجيبوا له فيتخذوه وذريته أولياء وأعوانا لهم من دونه؛ مع أنهم لا يجهلون حالهم من العداوة والبغضاء لهم.
وقوله: (وذُرِّيَّتَهُ) تدل على تناسل إبليس، وأن له أولاداً، وأنهم يتزاوجون، وقال بعض العلماء: ذريته : كل من كان على طريقته في الضلال والإغواء، ولو كان من الإنس، كما قال تعالى :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ( [الأنعام:112]
(بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا): أي بئس البدل عن الله تعالى للظالمين: إبليس وذريته، أَو بئس عبادة الشيطان، بدلا عن عبادة الله.
أهم ما يستفاد من الآيات:
- الدنيا سريعة الزوال مهما تزينت لأهلها وفتنتهم.
- الحياة الدنيا كالنبات يزهر قليلاً ثم يذبل ويذهب مع الريح.
- قدرة الله تعالى مطلقة، يحيي ويميت ويبدل الأحوال في لمح البصر.
- المال والبنون من زينة الدنيا التي لا تبقى، فلا يُغتر بها.
- الأعمال الصالحة تبقى وتنفع العبد يوم القيامة وهي خير عند الله.
- لا مقارنة بين نعيم الدنيا الزائل وثواب الآخرة الدائم.
- أن لهذه الدنيا نهاية وأنه سيأتي اليوم الذي فيه تزول الجبال، وتبرز الأرض، ويُحشر الناس كلهم.
- الناس يأتون يوم القيامة كما خُلقوا أول مرة، عراة حفاة غرلاً.
- صحائف الأعمال توضع ويُكشف كل ما فعل الإنسان صغيرًا وكبيرًا.
- المجرمون يندمون ويهلعون مما كُتب عليهم، فلا يفلت شيء من الحساب.
- الله عادل لا يظلم أحدًا ولا يُؤخذ أحد بجرم غيره.
- قصة إبليس تذكير بخطورة اتباع الشيطان بعد أن أبى السجود لآدم.
- إبليس ليس من الملائكة بل من الجن، ورفضه السجود فسقًا واستكبارًا.
- اتخاذ إبليس وأعوانه أولياء بدلًا من الله من أعظم الظلم.
- بئس البدل أن يُستبدل ولاية الله بعداوة الشيطان.
- لا ينبغي للمؤمن أن يجعل الدنيا غايته، بل يجعلها وسيلة للآخرة.
[1] يقول الشيخ الشعراوي في تفسيره : ولو أيقن الناس أن الإيجاد من الله نعمة، وأن السلب من الله أيضاً نعمة لاستراح الجميع، ألم نقرأ قول الله تعالى :﴿ لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير ﴾ [الشورى :49،50] إذن : فالعقم في ذاته نعمة وهبة من الله لو قبلها الإنسان من ربه لعوضه الله عن عقمه بأن يجعل كل الأبناء أبناءه، ينظرون إليه ويعاملونه كأنه أب لهم، فيذوق من خلالهم لذة الأبناء دون أن يتعب في تربية أحد، أو يحمل هم أحد، وكذلك، الذي يتكدر لأن الله رزقه بالبنات دون البنين، ويكون كالذي قال الله فيه :﴿ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم ﴾( النحل:58 ) : إنه يريد الولد ليكون عزوة وعزة. ونسى أن عزة المؤمن بالله لا بغيره، ونقول : والله لو استقبلت البنت بالفرح والرضا على أنها هبة من الله لكانت سبباً في أن يأتي لها زوج أبر بك من ولدك، ثم قد تأتي هي لك بالولد الذي يكون أعز عندك من ولدك. إذن : المال والبنون من زينة الحياة وزخرفها، وليسا من الضروريات، وقد حدد لنا النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا، فقال : ” من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه أي : لا يهدد أمنه أحد وعنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها “فما زاد عن ذلك فهو من الزينة، فالإنسان إذن يستطيع أن يعيش دون مال أو ولد، يعيش بقيم تعطي له الخير، ورضاً يرضيه عن خالقه تعالى. ثم يقول تعالى :﴿ والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملاً ﴾( سورة الكهف:46 ) : لأن المال والبنين لن يدخلا معك القبر، ولن يمنعاك من العذاب، ولن ينفعك إلا الباقيات الصالحات.