تفسير سورة يس : 4- ( وآية لهم الأرض الميتة…)
الفصل الثالث
من آيات القدرة والإبداع
قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ* وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ* لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ* سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ* وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ* وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ* لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ* وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ* وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ* إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [يس: 33-44]
قال الله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾ [يس: 33]
لما قال تعالى: (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) كان ذلك إشارة إلى الحشر، فذكر ما يدل على إمكانه قطعا لإنكارهم واستبعادهم، وعنادهم فقال: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) أى: وكذلك نحيى الموتى.
وَآيَةٌ : علامة دالّة على القدرة المطلقة ، ومن أخصّ ذلك القدرة على البعث بعد الموت ، قال أبو العتاهية:
فيا عجباً كيف يُعصى الإِلهُ … أمْ كيف يجْده الجاحِدُ؟
وللهِ في كل تحريكةٍ … وتسكينةٍ أبداً شاهد
وفي كل شيءٍ له آيةً … تدل على أنه واحد
(الأرض الميتة) الأرض الجدباء التي لا نبات فيها.
(حبا) أي وأخرجنا بهذا الماء أنواع الحبوب ليتغذوا به ويعيشوا.
أى: ومن العلامات الواضحة لهؤلاء المشركين على قدرتنا على إحياء الموتى، أننا ننزل الماء على الأرض الجدباء، فتهتز وتربو، وتخرج ألوانا وأصنافا من الحبوب التي يعيشون عليها، ويأكلون منها، وكل إنسان له عينان يرى الأرض جرداء، ثم ينزل عليها المطر، فأنبتت ما يأكل الناس والأنعام.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ﴾ [يس: 34]
(وَجَعَلْنَا فِيهَا ) أي: في هذه الأرض التي كانت ميتة.
(جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) جَنَّاتٍ : جمع جَنّة ، وهي البساتين ذات الأشجَار المثمرة كالنخيل والأعناب .
أي: وجعلنا في الأرض بساتين ناضرة فيها من أنواع النخيل والعنب، وخص النخيل والأعناب بالذكر، لأنها أشهر الفواكه المعروفة لديهم، وأنفعها عندهم.
(وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون) وفجرنا وشققنا فيها كثيرا من الآبار والعيون التي تسقى بها تلك الزروع والثمار.
قال سبحانه: ﴿لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ [يس: 35]
(ليأكلوا من ثمره) ليأكلوا من ثمر ما أخرجناه من الأرض.
( وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ) قد تكون (ما) نافية، فيكون المعنى: أن الله سبحانه هو الذي أخرج ذلك والتقدير: لتأكلوا هذه الثمار ولم تعمل أيديكم هذه الثمار، إنما الذي خلقها وأوجدها الرب سبحانه وتعالى، الذي أنزل الماء من السماء، وأحيا هذه الأرض.
أو تكون (ما) بمعنى (الذي) فيكون المعنى: والذي علمت أيديهم ، والمعنى: أن الله خلق لك هذا القمح، ثم أخذته وطحنته ثم عجنته وأدخلته الفرن، فأخرجته خبزاً، فهذا الذي عملت يداك مما أخرجه الله سبحانه، وكلا المعنيين صحيح.
( أَفَلا يَشْكُرُونَ ) أي: هلا شكروا الله سبحانه على ما أخرج لهم، وعلى ما رزقهم من عقول فيصنعون ذلك ، وانظر إلى البهائم والحشرات والطيور كيف تأكل الثمرة كما هي، وتلتقط الحبة كما هي؛ لكن أنت أيها الإنسان أعطاك الثمار، وأعطاك الحبوب، وأعطاك العقل لتفكر، وألهمك كيف توقد النار وكيف تصنع الطبيخ، وكيف تصنع الحلوى، أفلا تشكر الله سبحانه وتعالى، وكان قادراً على أن يحجب عنك ذلك، فتأكل الطعام كما يخرج من الأرض بدون طبخ وإصلاح.
قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: 36]
(سبحان) أي: تقدس الله تعالى ألا يٌشكر، وينزه عن النقص والعيب، وعن أن يذكر معه غيره، وعن أن يكون له الصاحبة أو الولد، أو الشريك في ملكه، فهو الخلاق العظيم العليم وحده لا شريك له. وقوله (سبحان) مصدر، والفعل سبح، أي: أسبح الله تسبيحاً وسبحاناً، فعبر بالمصدر نيابة عن جملة فيكون المعنى: سبحوا الله تسبيحاً عظيماً.
و(الأزواج) الأصناف والأنواع، فكلها خلقها الله سبحانه وتعالى، مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ فأخرج لكم من الأرض أزواجاً.
(وَمِنْ أَنفُسِهِمْ ) وخلق الأزواجَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ، وهم الذكور والإناث من بني آدم .
(وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) من أصناف المخلوقات العجيبة في البرّ والبحر، وفي السماء والأرض ، ممّا لم يطلعهم الله عليه ، ولم يجعل لهم سبيلاً إلى معرفته ، وقد يعرّفهم الله به بعد حين .
قال سبحانه: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾ [يس: 37]
(نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) نفصل منه النهار ونزيله عنه ، والسلخ : إذهاب الضوء ، ومجيء الظلمة ، وأصله إزالة الجلد عن الحيوان .
وهذا التعبير الدقيق في كتاب الله سبحانه وتعالى يرينا هذه الآية العظيمة، كأن هذا ينسلخ من ذاك، فيبدو للناس الليل ويظهر للناس النهار على ما يريهم الله سبحانه تبارك وتعالى.
الكون كله ليل، وجزء من الكون وهو الهواء الذي فوق الأرض يظهر فيه النهار، ثم ينسلخ بدوران الأرض كما ينسلخ الجلد من فوق الضحية التي تذبحها.
(فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) فالجزء الذي كان مضيئاً من الأرض دار فانسلخ منه نهاره فهم مظلمون الآن.
قال الله سبحانه: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس: 38]
هذه آية من آيات الله سبحانه، أن الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا فالأرض تدور، والقمر يدور حول الأرض في مدار، وهذه بعض الأشياء في كون الله العظيم الواسع الفسيح، كل شيء يجري في مداره، ويجري لمستقر له، الشموس والأقمار والنجوم والكواكب والمجرات كل شيء يجري ويدور حتى يأتي الأجل المحتوم وينتهي حينما يشاء الله سبحانه، (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) وكأن لها نهاية، تجري وهي تحت عرش الرحمن تبارك وتعالى، تطلع على الناس بإذن الله سبحانه، وتغرب على الناس بإذن الله سبحانه، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس:38]، قال: مستقرها تحت العرش).
كرسي الله عز وجل فوق سماواته، وعرشه فوق ذلك، وإذا قورن كل ما في السماء وكل ما في الأرض بالعرش فهي كسبعة دراهم في ترس، فعرش الله عز وجل هو المحيط بهذا كله، فالشمس مهما جرت فهي تحت عرش الله سبحانه وتعالى.
والعرش إذا قورن بالكرسي فهو كالحلقة في فلاة، والله فوق عرشه سبحانه أحاط بكل شيء علما وأحصى الخلائق عددا فالشمس مهما جرت والكواكب والنجوم مهما دارت فهي تحت عرش الرحمن سبحانه مسخرة بأمر الله تبارك وتعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) [الحج:18]، كل هؤلاء قد سخرهم الله سبحانه فأطاعوا ربهم، وسجدوا لله عز وجل طوعاً، وسجد كثير من الناس طوعاً، وكثير حق عليهم العذاب لما أبو أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى.
فالشمس تطيع الله، وقد سخرها في الفلك، تشرق من مكان وتغرب من مكان، تخرج على الناس ولها مدار تجري فيه.
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) أي: إلى أن يأتي وقت قرارها يوم القيامة حيث تشرق من مشرقها وتغرب من مغربها، فإذا جاءت العلامة الكبرى للقيامة يحبسها الله عند مغربها ولا يأذن لها في الخروج. [1]
ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تستأذن ربها كل يوم عند المشرق وعند المغرب، فإذا كان يوم القيامة فإذا بالشمس تستأذن الله سبحانه فلا يأذن لها ويقال لها: اطلعي من حيث غربت، وهذه آية من آيات الله سبحانه، وهو علامة كبرى ليوم القيامة، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً.
عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش، فيقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها)، أصبحي، يعني: اطلعي في الصباح من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون متى ذلكم؟ ذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً) . [2]
إذاً: الشمس تسجد تحت عرش الرحمن سبحانه في كل مطلع وكل مغرب، وطلوع الشمس في البلد الذي في المشرق يكون قبل طلوعها في البلد التي في المغرب، كأن الشمس في كل مطلع على بلد من البلدان ساجدة لله سبحانه مطيعة لأمر الله، حتى يأتي يوم القيامة، فإذا بالله سبحانه يأمرها أن ترجع وأن تطلع من حيث غربت، فتطلع الشمس من مغربها.
(ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) أي: طلوع الشمس من مشرقها وغروبها من مغربها آية من الآيات العظيمة، يعرف ذلك من يدرس علوم الفلك، فيرى كيف تجري الشمس، وكيف تدور هذه الأرض، وكيف تجري الكواكب والنجوم.
كل في فلك أي مدار في السماء لا يصطدم مع الآخر، ولا شيء يمنعها إلا قدرة الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ [يس: 39]
(قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ) حدّدنَا سيره في منازل ، والتقدير : يطلق على جعل الشيء بقدْر ونظام محكم ، ويطلق على تحديد المقدار ممّا تطلب معرفة مقداره ، كتقدير الأوقات والكميّات من الموزونات والمعدودات ، وكلا الإطلاقين مراد هنا.
والمنازل جمع منزلة ، وهي المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة .
(كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) العرجون: هو عذق النخلة الأحمر الذي فيه البلح، والعرجون لو تتركه فترة حتى ييبس يزداد انحناؤه ويصفر لونه.
وكذلك القمر يصير كالعرجون القديم قبل أن يستتر في آخر الشهر، فهو في نصف الشهر يكون مكتملاً، ثم يتناقص شيئاً فشيئاً حتى يصير كالعرجون القديم.
والمعنى: كما أن الشمس تجري إلى مستقرها كذلك القمر قدر الله عز وجل له منازل، أي: جعل له منازل ينزل فيها حتى عاد كالعرجون القديم.
قال تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: 40]
في الماضي لم يعرفوا مدار أحدهما فهم يرونها في الفضاء فقط، لكن علماء الفلك الآن حددوا المدار الذي تبتدئ منه الشمس، ومستحيل أن يتقابل مدار الشمس مع مدار القمر في يوم من الأيام من أجل أن تدرك هذا القمر أو تلمسه.
(ولا الليل سابق النهار) ولكن الليل في مكان والنهار في مكان آخر، يتواليان على الكرة الأرضية، لا الليل سيجري فيدفع النهار ويسبقه، ولا النهار يسبق مع الليل، ولكن كل في فلك يسبحون.
(فِي فَلَكٍ ) قال ابن عاشور: وسمى العرب تلك الطرائق أفلاكا وأحدها فلك اشتقوا له اسما من اسم فلكة المغزل، وهي عود في أعلاه خشبة مستديرة متبطحة مثل التفاحة الكبيرة تلف المرأة عليها خيوط غزلها التي تفتلها لتديرها بكفيها فتلتف عليها خيوط الغزل، فتوهموا الفلك جسما كرويا وتوهموا الكواكب موضوعة عليه تدور بدورته ولذلك قدروا الزمان بأنه حركة الفلك.
وسموا ما بين مبدأ المدتين حتى ينتهي إلى حيث ابتدأ دورة الفلك، ولكن القرآن جاراهم في الاسم اللغوي لأن ذلك مبلغ اللغة وأصلح لهم ما توهموا بقوله: يسبحون، فبطل أن تكون أجرام الكواكب ملتصقة بأفلاكها ولزم من كونها سابحة أن طرائق سيرها دوائر وهمية لأن السبح هنا سبح في الهواء لا في الماء، والهواء لا تخطط فيه الخطوط ولا الأخاديد. [3]
إذن الفلك هو المدار المفروض ( المقدّر ) الذي يدور فيه الكوكب ، ويسير سيراً مطّرداً لا يحيد عنه ، ويطلق على قبّة السماء التي هي مجتمع الأفلاك .
(يَسْبَحُونَ ) يسيرون ويدورون .
والمعنى: وكل هذه الأجرام التي خلقها الله سبحانه في فلك سباحة، وهذا التعبير أعظم وأجمل من أن يقول: يجرون؛ لأن فيها معنى الجري والدوران فقط، والسباحة تدل على أن ما فوقه وتحته فراغ، كالإنسان عندما يدخل في الماء لا يعوقه شيء لا من فوق ولا من تحت، كذلك هذه الشمس وهذا القمر والأجرام كلها تسبح في هذا الفضاء، والإنسان لا يدري كيف تسبح إلا بقدرة الله تبارك وتعالى.
قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس: 41]
( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم) كلمة ذرية مأخوذة من الذر، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ) فهنا ذكر، (ذرأ) أي: بث ونشر وخلق، فالذرية هنا بمعنى المخلوقين.
قال ابن عاشور: ولما كانت ذريات المخاطبين مما أراد الله بقاءه في الأرض حين أمر نوحا بصنع الفلك لإنجاء الأنواع وأمره بحمل أزواج من الناس هم الذين تولد منهم البشر بعد الطوفان نزّل البشر كله منزلة محمولين في الفلك المشحون في زمن نوح، وذكر الذريات يقتضي أن أصولهم محمولون بطريق الكناية إيجازا في الكلام، وأن أنفسهم محمولون كذلك كأنه قيل: إنا حملنا أصولهم وحملناهم وحملنا ذرياتهم، إذ لولا نجاة الأصول ما جاءت الذريّات، وكانت الحكمة في حمل الأصول بقاء الذريات فكانت النعمة شاملة للكل، وهذا كالامتنان في قوله: ( إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة) [الحاقة: 11، 12]
وضمير ذرياتهم عائد إلى ما عاد إليه ضمير لهم أي العباد المراد بهم المشركون من أهل مكة لكنهم لوحظوا هنا بعنوان كونهم من جملة البشر، فالمعنى: آية لهم أنا حملنا ذريات البشر في سفينة نوح وذلك حين أمر الله نوحا.[4]
الفلك: السفينة، المشحون: الممتلئ، سفينة نوح كانت ممتلئة من الإنس والطير وممن شاء الله عز وجل.
قال ابن عثيمين : {ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: آباءهم الأصول، فجعل المراد بالذرية هنا الأصول، يعني الآباء، مع أن المعروف في اللغة العربية، أن الذرية هم الفروع وليسوا الآباء، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}[ سورة الحديد، الآية: 26.] والمؤلف رحمه الله ومن ذهب مذهبه في تفسير الآية يقول: إن الذرية لفظ مشترك بين الأصول والفروع؛ لأنها مأخوذة من ذرا، والذر كائن للأصول والفروع، ثم يقولون أيضًا: إن سياق الآية يدل على ذلك {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} لأن ذريتهم الصغار الموجودون معهم إذا حملوا هم، فسيحملون معهم في الفلك، وإن كان المراد بالذرية من يأتي فيما بعد، فكيف يكون ذلك آية وهي غير مشهودة لهم؟ إذن يتعين أن يكون المراد بالذرية الأصول، لأن الصغار المشهودون حملهم حمل لآبائهم؛ لأن الغالب أنهم لا يحملون إلا مع آبائهم، والصغار غير المشهودين، الذين يأتون فيما بعد، لا يكونون آية لمن لم يشاهدها، فتعين أن يكون المراد بالذرية الآباء.
وهذا الذي ذهب إليه المؤلف -رحمه الله تعالى- يوافق ظاهر الآية، لكنه يخالف ما كان معهودًا في اللغة العربية من أن الذرية هم الفروع، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالضمير هنا الجنس لا العين.
والمعنى {ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: ذرية جنسهم، كنوح عليه الصلاة والسلام، من جنسنا آدمي بشر، فحمل الله ذريته في الفلك المشحون، قالوا: وهذا لا يمتنع في اللغة العربية، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } {جَعَلْنَاهُ} أي: جنس الإنسان وليس عينه؛ لأن الذي جعل نطفة ليس آدم الذي خلق من سلالة من طين، ولا يمكن أن يكون نطفة في قرار مكين، بل غيره بلا شك، فالضمير عاد إلى آدم باعتبار الجنس، فليعد الضمير في قوله: {ذُرِّيَّتَهُمْ} إلى الموجودين باعتبار الجنس، فمن هو الجنس؟ قالوا: هو نوح؛ لأنه بشر وآدمي، وذريته هي المحمولة، فيكون المعنى: أن خلقنا ذريتهم، أي: ذرية جنسهم، وهو نوح عليه الصلاة والسلام حملت ذريته في الفلك المشحون، وخلق لهم من مثله ما يركبون، وهذا قريب جدًّا ولا يخالف ظاهر الآية، ويشير إلى أن هذه السفينة جعلت آية لمن بعد نوح عليه الصلاة والسلام يعتبرون بها ويصنعون مثلها قوله تعالى في سورة القمر: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }. فالمراد بالذرية هنا ذرية نوح عليه الصلاة والسلام، وأضيفت إلى هؤلاء باعتبار الجنس يعني (حملنا الذرية من جنسهم في الفلك المشحون) وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس ولا يأباه السياق. [5]
فالمعنى: لو نظروا لعرفوا أننا حملنا آبائهم الأولين الذين كانوا مع نوح في الفلك الذي ما كانوا يعرفون كيف يصنع حتى صنعه نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فكان قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الله سبحانه يمرون بنوح ويسألونه: ما هذا؟ يقول: فلك، فيقولون: وما تفعل بها؟ قال: تحمل على الماء، قالوا: أي ماء ونحن في صحراء؟ فكانوا يستهزئون به، قال: (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [هود:38-39] فصنع هذا الفلك، ولم يكن نوح نجاراً متخصصاً في صنع السفن، وإنما علمه الله [6](فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) [المؤمنون:27]
ولما جاء أمر الله أمر السماء أن تفتح ماءها على الأرض، وأن تخرج الأرض ماءها، وانطبق ماء السماء على ماء الأرض، وأغرق الله الأرض ومن عليها، ونجى نوحاً ومن معه في فلك يحمل فيها من كل ما خلق الله سبحانه وتعالى زوجين اثنين ذكراً وأنثى، ولم يعش فوق الأرض إلا من كان في هذه السفينة.
فآية من آيات الله عز وجل أنه جعلكم ذرية هؤلاء، فتذكروا نعمة الله عز وجل على آبائكم أن أنجاهم فكنتم أنتم أولادهم وأرسلنا إليكم من يدعوكم إلى الله لتؤمنوا، فاحذروا أن يصنع بكم مثل ما صنع بقوم نوح.
قال تعالى: ﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ [يس: 42]
أي: وخلق لهم من مثل هذه السفن ما يركبون من سيارات وطائرات ومركبات فضائية في البر والبحر والجو، فخلق الله عز وجل من مثل ذلك ما يركبه الإنسان في كل زمان ومكان.
قال تعالى: ﴿وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ* إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [يس: 43-44]
(لا صريخ) الصريخ بمعنى المغيث، وسمي المغيث صريخًا؛ لأن عادة الإنسان إذا هاجمه أحد صرخ يستغيث، ومنه حديث غزوة بدر أن أبا سفيان بعث صارخًا إلى أهل مكة يستغيثهم.
والمعنى: فلا منقذ ولا مغيث لهم، فلا يوجد من ينقذ هؤلاء إذا أردنا أن نهلكهم ونغرقهم ، والإنسان إذا تطاول على الرب سبحانه أرسل إليه من يقصمه.
(ولا هم ينقذون) لا ينقذهم أحد إلا رحمته، فلا أحد يجيرهم ولا يرد عليهم ولا ينقذهم.
نحن أركبناهم هذه السفينة، وعلمناهم كيف يصنعون الفلك، فلما صنعوا الفلك اغتروا وعبدوا غير الله تبارك وتعالى، وإن نشأ نغرق هؤلاء فلا يوجد لهم من يغيثهم إذا أغرقناهم.
والمعنى: لأجل رحمة من الله سبحانه تركنا هؤلاء، فلم أستأصلهم بعذاب وأخرناهم إلى يوم القيامة لعله يخرج من أصلابهم من يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، ومتعناهم إلى حين حتى يأتي الأجل، ثم عذاب رب العالمين أو رحمته سبحانه.
آية انشقاق القمر:
رواد الفضاء بوكالة ناسا الأمريكية عندما تكلموا عن الصعود للفضاء، وقال لهم الناس: هذه الأموال الضخمة التي تصرفونها على القمر اصرفوها على الفقراء، قالوا: نحن طلعنا القمر واكتشفنا منه معلومات تساوي ما أنفقناه حتى نصل إليه ، فقيل لهم: ما أهم حاجة وصلتم إليها؟ قالوا: وصلنا لحاجة عجيبة جداً، اكتشفنا أن هذا القمر انشق يوماً من الأيام، وقد قال الله عز وجل ذلك في كتابه من ألف وأربعمائة عام، قال: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر:1]
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبياً فأرنا آية. فواعدهم ليلة، وأراهم انشقاق القمر إلى فلقتين، فإذا بهم يرون نصف القمر أمام الجبل والنصف الآخر وراء الجبل، قالوا: سحرتنا، فقال بعضهم لبعض: إن كان سحرنا فلن يسحر غيرنا، فلننتظر إذا جاء ركب ونسألهم، وانتظروا أياماً وجاء ركب وسألوهم: الليلة الفلانية هل أحد منكم رأى القمر؟ قالوا: نعم. وما رأيتم؟ قالوا: رأيناه انشق ثم رجع كما كان.
هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصدق هؤلاء الكفار، وجاء رواد الفضاء في عصرنا الحديث ليقولوا: هذا القمر انشق.
من أين عرفتم؟ قالوا: رأينا في صور القمر فلق كبير، فعرفنا أنه انفلق في يوم من الأيام، ورجع مرة ثانية لمكانه، لكن أثر الشق واضح في القمر كله، هؤلاء يصدقون ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه ، صدق ربنا القائل: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت:53]، هذه آية من آيات الرب سبحانه وتعالى.
(إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) أي لا أحد ينقذهم وينجيهم إلاّ بتقديرنا وإرادتنا ، أن يبقوا أحياء إلى استيفاء أعمارهم ، وانقضاء آجَالهم .
المعنى الإجمالي للآيات :
- ومن دلائل قدرة الله تعالى على البعث والنشور ، هذه الأرض الميتة ، التي لا نبات فيها ، أحياها الله بإنزال الماء ، وأخرج منها أنواع النبات مما يأكل الناس والأنعام ، وجعل فيها بساتين من نخيل وأعناب ، وفجر فيها من عيون المياه ، التي تجري على وجه الأرض ، ومن أحيا الأرض بالنبات أحيا الخلق بعد الممات .
- كلّ ذلك ؛ ليأكل العباد من رزق الله وثمره ، وما ذلك إلاّ من رحمة الله تعالى بهم ، وفضله عليهم ، لا بسعيهم ولا بكدّهم ، ولا بحولهم أو قوّتهم ، أفلا يشكرون الله سبحانه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى ؟
- فتنزه الله العظيم الذي خلق هذه الأصناف جميعها من أنواع نبات الأرض ، ومن أنفسهم ذكوراً وإناثاً ، ومما لا يعلمون من المخلوقات الأخرى، لقد انفرد الله سبحانه بالخلق والحكمة وبديع الصنع، فلا ينبغي أن يشرك به غيره .
- ومن العلامات الدالة على توحيد الله تعالى وكمال قدرته : هذا الليل عندما ننزع منه النهار ، فيعمّ الظلام حياة الناس .
- والشمس آية لهم عظيمة ، تجري في فلك السماء لمستقر لها ، قد قدّره الله لها ، فهي لا تعداه ولا تقصر عنه ، ذلك تقدير العزيز الذي لا يغالب ، العليم الذي لا يغيب عن علمه شيء .
- والقمر آية من آيات الله في خلقه ، قدره منازل كل ليلة : يبدأ هلالاً ضئيلاً ، حتى يكمل قمراً مستديراً ، ثم يرجع ضئيلاً مثل عذق النخلة المتقوس في الرقة والانحناء.
- ولكلٍّ من الشمس والقمر ، والليل والنهار ، وسائر النجوم والكواكب وقت قدره الله لها لا تتعداه ، ولا تقصر عنه ، فلا يمكن للشمس أن تلحق القمر ، فتمحو نوره ، أو تغير مجراه ، ولا يمكن لليل أن يسبق النهار ، فيدخل عليه قبل انقضاء وقته المقدّر بدقّة ، والغرض من ذلك التذكير بنعمة الليل ونعمة النهار ، فإنّ لكليهما فوائد للناس ، فلو طغى أحدهما على الآخر ، فاستقرّ في الأفق لتعطّلت منافع الناس والحيوان ، ولاختلّ نظام الكون ، وكلٌّ من الشمس والقمر والكواكب يجرون في فلك إلى أجل معلوم.
- ومن الأدلّة والبراهين على أن الله تعالى هو وحده المستحق للعبادة ، لأنّه المنعم بالمنعم كلّها ، أنّا حملنا المؤمنين ، وهم أصول هؤلاء المشركين ومن على ظهر الأرض في سفينة نوح ، وملأناها بأجناس المخلوقات ، ونجّيناهم من الطوفان لتستمرّ الحياة في الأرض بعد هلاك الكافرين .
- وخلقنا لهؤلاء المشركين وغيرهم مثل سفينة نوح ، من السفن وغيرها من المراكب التي يركبونها ، وتحقّق لهم مصالحهم ، وتبلغهم أوطانهم .
- وإن نشأ نغرقهم ، فلا يستطيعون النجاة ، ولا يجدون من يغيثهم من الغرق ؛ إلاّ أن نرحمهم فننجيهم ونمتّعهم إلى أجل معلوم ؛ لعلّهم يرجعون ، ويستدركون ما فرّطوا فيه .
أهم ما يستفاد من الآيات:
1 ـ من الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده وكمال قدرته على البعث وإحياء الموتى وغير ذلك : إحياء الأرض الهامدة بالنبات الأخضر ، وإخراج الحب منها ، الذي هو قوام الحياة وأساس القوت والمعاش .
2 ـ ومن الأدلة أيضاً خلق البساتين في الأرض وما فيها من نخيل وأعناب ، وتفجير الينابيع فيها للأكل من ثمر ماء العيون ، أو من ثمر الجنات والنخيل ، وممّا عملته أيدي الناس من الثمار ، ومن أصناف الحلاوات والأطعمة ، ومما اتخذوا من الحبوب كالخبز وأنواع الحلويات .
3 ـ وفي الآية : ( لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ، وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ) إشارة واضحة مرغّبة بإدخال الصناعة على الزراعة ليعظم خيرها ، ويعمّ نفعها ، وتفتح للناس باباً للارتزاق واسعاً ، إذ إنّ الله تعالى قد امتنّ على عباده بما يأكلون ممّا تخرج الأرض ، وما علّمهم ممّا تصنعه أيديهم ، ولولا أنّ ذلك ممّا يرغبه لعباده ، ويرشدهم إليه ممّا يصلح معاشهم ، ويديم نعم الله عليهم ، لما ذكره في معرض ذكر النعم والامتنان بها ، وهذه النعم تستوجب شكر الخالق المنعم المتفضل ، وشكره يكون بعبادته سبحانه ، والإذعان لسلطانه وإرادته .
4 ـ يجب تنزيه الخالق عما لا يليق به ، والبعد عن صنيع الكفار الذين عبدوا غير الله سبحانه ، مع ما رأوا من نعم الله وآثار قدرته .
5 ـ آثار قدرة الله ومظاهرها في العالم كثير، منها خلق النبات والثمار ، المختلفة الألوان والطعوم ، والأشكال والأحجام ، صغراً وكبراً . ومنها خلق الأولاد والازواج أي ذكوراً وإناثاً ، ومنها خلق أصناف أخرى لا يعلمها البشر في البر والبحر ، والسماء والأرض ، وإذا كان الله تعالى قد انفرد بالخلق ، فلا ينبغي أن يشرك به .
6 ـ ومن العلامات الدالة أيضاً على توحيد الله تعالى وقدرته ، ووجوب عبادته : تعاقب الليل والنهار وما يتبعهما من ظلمة وضوء لتحقيق مصالح العباد ، وضبط السنين والحساب ، وجريان الشمس لمستقر لها ، وهو محورها أو نهاية سيرها يوم القيامة ، وتقدير القمر منازل ، هي ثمانية وعشرون منزلاً ، ينزل القمر كلّ ليلة بمنزل منها ، فإذا صار في آخرها ، عاد إلى أولها ، فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة ، ثمّ يستتر ، ثمّ يطلع هلالاً ، فيعود إلى قطع الفلك على المنازل .
7 ـ ومن آيات الله سبحانه جعل مدار مستقل ، لكلّ من الشمس والقمر والأرض ، فلا يدخل أحدها على الآخر ، كما لا يتجاوز مساره المرسوم .
8 ـ ومن دلائل قدرة الله ورحمته : حمل ذريّة القرون الماضية والحاضرة والمقبلة في السفن المملوءة بالسلع والأمتعة ، وخلق وسائط أخرى للركوب مماثلة للسفن ، وهي الإبل سفن الصحراء والبراري ، ووسائل النقل الحديثة في البرّ والجوّ من سيارات وقطارات وطائرات ونحوها ، وهذه آية من آيات الله المشهودة في كلّ وقت ، فيها عبرة لكلّ ذي قلب .!
9 ـ والله قادر على إغراق ركاب السفن في البحار ، فلا يغيثهم أحد ، ولا يجيرُهم ، ولا ينقذهم ، ولكن رحمة الله تعالى اقتضت إبقاءهم وإنقاذهم ليتمتعوا بمتع الحياة الدنيوية إلى آجالهم المرسومة ، وأعمارهم المحدودة ، ثمّ يكون جزاؤهم عند الله على ما قدّموا في هذه الحياة .
[1] يقول الشَّيخ نديم الجسر في كتابِه قصَّة الإيمان : ” لقد رأى العلماء أنّ لِهذه النجوم مواقع لا تتبدّل ولا تتغيّر ، فَظنّوها ثابتة ، وسمّوها ( الثوابت ) ومِنْها شَمسنا ، وَما هي بثوابت ، كما حقّق العلماء في هَذا العصرِ ، بلْ كلُّهَا تدور وتجري لمستقرّ لها ، في مجريين مُختلفين ، يتداخَل أحدهمَا في الآخر ، ولكنّ هذَا الجَري يتمّ ويستمرّ في مواقع ومدارات لا تتبدّل ، ولا تتغيّر نسبة بعضها إلى بعض علَى كرّ الدهُور بذلِك النظام العجيبِ .. إنّ الشمس نجم من نجوم هذِه المجرّة .. إنّها تجري مثلَها ، وتسحب وراءها موكبها منَ السيّارات ومِن جملَتها الْأَرْض .. لقد عرف العلَماء مِنْ قَبل أَنَّها تدور عَلَى محوَرها مرّة في مدّة 26 يوماً ، ولكِنّهم كانوا يحسبونها ثَابتة ، لا تنتقلَ ولا تَجري ، أَمّا اليوم فقد ثبتَ لهم ثبوتاً لا رَيْب فيه أنّها تجري ، وأَنّ النظام الشمسيَّ كلّه يجري في السَّماء ، كما تجري كلّ النجُوم في مجرّتنا وفيمَا وراءها جرياً عَجيباً لِمستقرّ لها ، كما يقول القرآن الكريم ” [انظر قصَّة الإيمان ص/307/ ]
[2] رواه البخاري في كتاب: بدء الخلق باب: ما جاء في قول الله تعالى ﴿والشمس تجري لمستقر لها﴾ الحديث رقم: 3199
[3] تفسير التحرير والتنوير(23/26)
[4] تفسير التحرير والتنوير (23/27).
[5] تفسير سورة يس لابن عثيمين 151،152