تفسير سورة يس : 5- ( وإذا قيل لهم اتقوا…)

تاريخ الإضافة 4 يونيو, 2025 الزيارات : 17

تفسير سورة يس : 5- ( وإذا قيل لهم اتقوا…)

الفصل الرابع

حوار مع الكافرين والمصير المنتظر

قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ* وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ* فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ* وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ* قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ* إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ* فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [يس: 45-54]

يقول الله تعالى : ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [يس: 45]

(اتّقُوْا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ) ما سبقكم في الدنيا من أحوال الأمم السابقة كيف أهلكنا قوم نوح وعاد وثمود أصحاب الأيكة وقوم فرعون ولوط، هذا ما بين أيديكم من السابقين قبلكم..

 (وَمَا خَلْفَكُمْ ) أي: ما وراءكم من غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه بعد ما تموتون وينكشف أمامكم الحجاب، وترون عذاب الله سبحانه وتعالى

وقيل : مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ : ما ينتظركم من عَذاب الآخرة ، وَمَا خَلْفَكُمْ : من أحوال الأمم في الدنيا ، وكلا المعنيين صحيح .

والمعنى: وإذا قيل للكفار: اتقوا النقم التي نزلت في السابقين، واحذروا من غضب الله عز وجل وما أعده للكافرين، واجعلوا بينكم وبين غضب الله وقاية من الإيمان والعمل الصالح لعل الله عز وجل يرحمكم ؛ كان جواب هؤلاء أنهم لا يؤمنون.

قوله تعالى:﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ [يس: 46]

( وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ) قرآنية تتلى عليهم، أو آية حسية من آيات الله سبحانه مرئية .

( إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ) غيرَ مبالين ، ولا ملتفتين .

والمعنى: فكأن الجواب إذا قيل لهم (اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [يس: 45]: أعرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرضوا عمن يدعونهم إلى الله سبحانه، وإذا رأوا الآيات البينات لم يزدهم ذلك إلا استكباراً ونفوراً

قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 47]

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا ) إذا قيل للكافر: أنفق لله سبحانه فقد أعطاك مالاً، فلم لا تعط المساكين والفقراء؟

(قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فيجيب هؤلاء الكفار أنحن نطعم هؤلاء؟! إذا أراد ربنا أن يؤكلهم أكلهم، ونحن لماذا نرزقهم وأنتم تقولون: ربكم هو الرزاق سبحانه وتعالى، فلو أراد أن يتركهم تركهم.

فكأنهم يحتجون بالقدر، والكلام صحيح والمراد به باطل، مثلما قال الكفار: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ )[النحل:35] ، فاحتجوا بالقدر على الله سبحانه وتعالى.

ونقول: صحيح لو شاء الله لهداكم أجمعين، ولكن هل أمركم الله عز وجل أن تحتجوا بقضائه وقدره، أم أمركم بما تقدرون عليه من عمل؟

أنت تنفق مالك في هذا المجال وفي هذا المجال، ِلم لم تقل: لو شاء الله ما أنفقت، أو لو شاء الله كان فعل كذا؟

أنت تجوع، فتنفق مالك لكي تأكل، فلماذا لا تحتج بالقدر في هذا الشيء وتقول: لو شاء الله لأطعمني؟

هل منهم من يقول هذا الشيء؟ كلا؛ فإنهم يحتجون بالقدر فيما يريدون ويتركون الاحتجاج فيما لا يريدون، فهم كذابون يتكلمون على الله بما لا يعرفون.

قوله تعالى:﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ* فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ [يس: 48-50]

(مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ): متى يجيء البعث ويتحقّق ، أو يحلّ العذاب ، وهذا من عنادهم وشدّة تكذيبهم .

( مَا يَنظُرُونَ إِلَّا ) بمعنى: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهي النفخ في الصور حين يأمر الله عز وجل إسرافيل أن ينفخ في الصور، فينفخ نفختين، نفخة الإماتة ثم نفخة البعث من القبور.

(صَيْحَةً وَاحِدَةً ): النفخة الأولى وهي نفخة الموت .

والمعنى: إنهم يظنون أن يوم القيامة شيء صعب، ولا يعلمون أنه صيحة واحدة بنفخ في الصور يهلك بها جميع هؤلاء، فلا يقدرون على الرجوع إلى أهلهم، ولا يقدرون على حياتهم بعد ذلك إلا أن يحييهم الله للبعث والنشور.

 (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أصلها يختصمون، يعني: يختصمون في أمر الدين والدنيا ويكذب بعضهم بعضاً، ويخاصم بعضهم بعضاً، وهم في وسط هذا الشغل جاءت الصيحة فأخمدت الجميع .

 (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) لا يقدر أن يوصي بعضهم بعضاً بالمال والأولاد.

وفي البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعا: (ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه) ذهب ليشتري قماشاً فيخرج إلى السوق ويتبايع هو والتاجر، وتقوم الساعة على هذه الصورة، فلا يطوي هذا الثوب ولا يستلم هذا المال. قال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه) حلب الرجل ناقته وأخذ اللبن لكي يشربه، وقبل أن يشرب هذا اللبن تقوم. (ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه) الحوض الذي يسقي فيه الغنم والإبل أحضرت له الحجارة وملأه ماء وأتى بالإبل لتشرب، فتقوم الساعة قبل ذلك. (ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها) تقوم الساعة والناس في انشغال، وتأتي الساعة عليهم وهم في انشغال عن الآخرة والعمل الصالح.

قوله تعالى:  ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا   هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ [يس: 51-52]

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) الصور: البوق الذي يحمله إسرافيل الملك الموكل بالنفخ، فينفخ فيه بإذن الله سبحانه وتعالى؛ فيصعق من في السموات ومن في الأرض، ثم يؤمر فينفخ فيه نفخة أخرى فإذا هم قيام ينظرون. نفختان ذكرهما الله عز وجل في كتابه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، ينفخ نفخة الإماتة فيموت من في هذا الكون، ثم ينفخ نفخة أخرى لإحياء الموتى، ونفخ إسرافيل في الصور سبب، ولكن الذي يحيي ويبعث الناس ليجازيهم هو الله تبارك وتعالى.

ومنذ خلق الله تبارك وتعالى إسرافيل وهو معه هذا الصور – وهو البوق الذي ينفخ فيه- ينظر إلى عرش الرحمن ينتظر متى يؤمر بالنفخ في الصور، يخاف أن ينشغل عن ذلك، فهو في نظر دائم متعلق بعرش الرحمن سبحانه حتى يأمره الله سبحانه في وقت حدده يعلمه الله ولا يعلمه غير الله سبحانه وتعالى.

والمقصود هنا النفخة الثانية ، وهي نفخة البعث .

(الْأَجْدَاثِ)  جمع جَدَث وهو لفظ يدل على موضع دفن الإنسان أي الحفرة التي يُوضع فيها الميت، وليس مجرد المكان العام للقبور.

واستخدام لفظ “الأجداث” في سياق البعث والخروج من القبور له دلالة قوية، لأن الجَدَث يُعطي شعورًا بالمكان الضيق والدفين الذي يُنتزع منه الميت يوم القيامة.

فيُصور الخروج منه كأنه انفجار أو انبعاث مفاجئ، بخلاف كلمة “قبر” التي تحمل هدوءًا وسكونًا.

(يَنسِلُونَ) نَسَلَ:في اللغة: أسرع في المشي بخفة، أو خرج خروجا سريعًا خفيفًا.

ويُقال: “نسل فلان من المكان” أي: خرج منه سريعًا دون أن يُشعر به.

والمعنى: وبعد أن نأمر إسرافيل بالنفخ في الصور فإذا هم من قبورهم يخرجون وإلى ربهم ينسلون، أي: يمشون مشياً مسرعاً، ويخرجون من القبور ويقومون مسرعين متوجهين إلى مكان اجتماعهم وحشرهم وحسابهم.

(صَيْحَةً وَاحِدَةً ): هي نفخة البعث . وفي ذلك تهوين لأمر البعث والحشر ، وأنّ الله غنيّ عن الأسباب المألوفة في الدنيا .

(مُحْضَرُونَ ) : حاضرون مجموعون للحساب والجَزاء .

(قَالُوا يَا وَيْلَنَا) : يدعون بالويل، يعني: يا ويلنا احضر، والويل الهلاك، كأنهم يدعو أحدهم على نفسه بالهلاك، يقول: يا ويل احضر، يا هلاك احضر، تعالى الآن خذني. وهذه الكلمة فيها ما فيها من الرعب الذي يخرجون به من قبورهم.

(مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ) من قبورنا ، وهذا كلام الكفار حين يبعثون ويعلمون أن مصيرهم إلى النار، فيقولون: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا .

والقبر مرقد لصاحبه، وهو إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النيران، فهم كانوا يعذبون في قبورهم ولكن الله سبحانه حين يأمر بالنفخ في الصور النفخة الأولى فيقضي على جميع الخلق بالموت، ويقضي على أهل القبور بالرقاد، وعندما يرقدون يرفع عنهم العذاب في هذه الفترة ما بين النفخة الأولى والنفخة الثانية.

في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين النفختين أربعون. قيل: أربعون يوماً؟ قال: أبيت. قيل: أربعون شهراً؟ قيل: أبيت. قال: أربعون سنة؟ قال: أبيت) راوي الحديث أبو هريرة رضي الله عنه لا يدري أربعون يوماً أو شهراً أو سنة، قال: (أبيت) يعني: أن أتكلم فيما ليس لي به علم، والذي أخبر هو النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة)، الإنسان يبلى تماماً في قبره إلا آخر عظمة في العمود الفقري، وهي مكان الذيل من الحيوان، وهي كالبذرة للإنسان ينبت منها يوم القيامة ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله عز وجل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل) البقل: النبات الذي ينبت ساقه في الأرض وأوراقه عليها مثل الجرجير وغيره مما يخرج على الأرض، ينزل من السماء ماء وتنبت البقول وينبت الإنسان كما ينبت هذا النبات، ينزل من السماء ماء فيجمع الله عز وجل الإنسان من كل مكان وينبت ويخرج مرة أخرى ويركب الخلق يوم القيامة من عجب الذنب.

ويجابون: ( هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وصدق المرسلون) لم يتبين لهم صدق المرسلين إلا حين جاءتهم الوفاة، ودخلوا قبورهم، فلما بعثوا من قبورهم تبين لهم أن الرسل كانوا على حق في حين لا ينفع ما تبينوه الآن، فقد صاروا إلى الآخرة وليسوا في الدنيا.

قوله تعالى: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ* فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [يس: 53-54]

( إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً((إن) بمعنى: (ما) أي ما كانت إلا صيحة واحدة ، فهي صيحة واحدة ينفخ في الصور فيهلك الجميع، وصيحة واحدة أخرى فيبعث الجميع، ليس كل إنسان يحتاج لأن ينفخ له في الصور بمفرده، إن كان الرب سبحانه أماتهم فرادى، وكل إنسان جاءته الوفاة في وقته، ولكن لما قضى بالنفخ في الصور ليهلك جميع من فوق الأرض كانت نفخة واحدة، ولما أمر بإحياء الجميع ممن ماتوا قبل ذلك ومن ماتوا بهذه النفخة كانت صيحة واحدة، لبيان أن الله لا يعجزه شيء.

( فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) محضرون أمام ربهم سبحانه، يقفون للجزاء، ليأخذ كل منهم صحيفة عمله، منهم من يأخذها باليمين، ومنهم من يأخذها باليسار من وراء ظهره، لا أحد يفلت، لا أحد يهرب، لا أحد يذهب بعيداً ويشرد عن هؤلاء، الجميع محصورون مجموعون لله رب العالمين (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:54]

ما هو الصور :

الصور في لغة العرب القَرْن ، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصور ، ففسره بما تعرفه العرب من كلامها فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ” ما الصور ؟ قال : الصور قرن ينفخ فيه ” قال الترمذي فيه : حديث حسن صحيح .

النَافخ في الصُّور

اشتهر أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام ، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن صاحب الصور مستعد دائماً للنفخ فيه منذ أن خلقه الله تعالى ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إن طَرْف صاحب الصور منذ وُكِّل به مستعد ينظر نحو العرش ، مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طَرْفه ( كأن عينيه كوكبان دُرِّيان )  قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي .

وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” كيف أنعم ، وقد التقم صاحب القرنِ القرنَ ، وحنى جبهته ، وأصغى سمعه ، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ ، فينفخ . قال المسلمون : فكيف نقول يا رسول الله ؟ قال : قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، توكلنا على الله ربنا “رواه الترمذي وحسنه الالباني 

اليَوم الذي يكون فيه النفخة

تقوم الساعة في يوم الجمعة ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ، فيه خُلِق آدم ، وفيه أُدخل الجنة ، وفيه أُخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة )

كم مَرَّة ينفخ في الصُّور ؟

الذي يظهر أن إسرافيل ينفخ في الصور مرتين ، الأولى يحصل بها الصعق ، والثانية يحصل بها البعث ، قال تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) [ الزمر : 68 ] .

وقد سمى القرآن النفخة الأولى بالراجفة ، والنفخة الثانية بالرادفة ، قال تعالى : ( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ – تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) [ النازعات : 6-7 ] .

وفي موضع آخر سمى الأولى بالصيحة ، وصرح بالنفخ بالصور في الثانية ، قال تعالى: ( مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ – فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ – وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) [ يس : 49-51 ] .

وقد جاءت الأحاديث النبوية مصرحة بالنفختين :

 ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” ما بين النفختين أربعون “. قالوا : يا أبا هريرة ، أربعون يوماً ؟ قال : أبيت . قالوا : أربعون شهراً ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون سنة ؟ قال : أبيت ”

 وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” ثم ينفخ في الصور ، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ، ورفع ليتاً (الليت : صفحة العنق ، وإصغاؤه : إمالته) ، فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله ، قال : فيصعق ، ويصعق الناس ، ثم يرسل الله – أو قال : ينزل الله مطراً ، كأنه الطَّلُّ ، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ”

وقد رجح هذا الذي دلت عليه هذه الآيات والأحاديث التي سقناها جمع من أهل العلم ، منهم القرطبي ، وابن حجر العسقلاني.

وذهب جمع من أهل العلم إلى أنها ثلاث نفخات ، وهي نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة البعث .
وممن ذهب هذا المذهب ابن العربي ، وابن تيمية ، وابن كثير ، والسفاريني .

وحجة من ذهب هذا المذهب:

  • أن الله ذكر نفخة الفزع في قوله : ( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ) [ النمل : 87 ] .
  • كما احتجوا ببعض الأحاديث التي نصت على أن النفخات ثلاث ، كحديث الصور، وهو حديث طويل ، أخرجه الطبري ، وفيه : ” ثم ينفخ في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام لرب العالمين “.

وقد رد عليهم أصحاب الرأي الأول:

  • أما استدلالهم بالآية التي تذكر نفخة الفزع فليست صريحة على أن هذه نفخة ثالثة ، إذ لا يلزم من ذكر الحق تبارك وتعالى للفزع الذي يصيب من في السماوات والأرض عند النفخ في الصور أن تجعل هذه نفخة مستقلة ، فالنفخة الأولى تفزع الأحياء قبل صعقهم ، والنفخة الثانية تفزع الناس عند بعثهم .

وجاء في التذكرة للقرطبي : ” ونفخة الفزع هي نفخة الصعق ، لأن الأمرين لازمين لها ، أي : فزعوا فزعاً ماتوا منه “

  • أما حديث الصور فهو حديث ضعيف مضطرب كما يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى ، ونقل تضعيفه عن البيهقي .

الذين لا يُصعقون عند النفخ في الصّور

أخبرنا الباري جلَّ وعلا أن بعض من في السماوات ومن في الأرض لا يُصعقون عندما يُصعق من في السماوات ومن في الأرض ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ) [ الزمر : 68 ] .

وقد اختلف العلماء في تعيين الذين عناهم الحق تبارك وتعالى بالاستثناء في قوله: ( إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ).

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى : ” وأما الاستثناء فهو متناول لما في الجنة من الحور العين ، فإن الجنة ليس فيها موت ” مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/261)

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأولى بالمسلم التوقف في تعيين الذين استثناهم الله ، لأنه لم يصح في ذلك نص يدل على المراد .

المعنى الإجمالي للآيات :

  1. وإذا قيل لهؤلاء المشركين : احذروا الآخرة وأهوالها ، ومصائب الدنيا وعقابها ، رجاء رحمة الله لكم ، أعرضوا ولم يستجيبوا ، وأصرّوا على ما هم فيه من كفر وطغيان .
  2. وما تجيء هؤلاء المشركين من حجّة بيّنة واضحة من عند ربهم ، لتهديهم للحقّ ، وتبيّن لهم صدق الرسول e ، إلاّ جحدوا بها ، وأعرضوا عنها .
  3. وإذا قيل لهم : أنفقوا من الرزق الذي منّ الله به عليكم ، قالوا مكابرين للحقّ ، معاندين للمؤمنين : كيف نرحم ونطعم من لو يشاء الله رحمه وأطعمه ؟
  4. فكما أنّهم أخلّوا بتعظيم الخالق ، وأداء حقّ العبوديّة لله فقد حرموا العطف والشفقة على الإنسانية ، وانعدمت عندهم عاطفة الرحمة بالمخلوقات ، فهم إذا دعوا إلى الإنفاق مما رزقهم الله بخلوا وتهكموا ، وجادلوا بالباطل وتهرّبوا ، وهو شأن البخلاء في كل عصر .
  5. ويقولون للمؤمنين : لستم ـ أيها المؤمنون ـ فيما تقولون لنا إلا في ضلال واضح عن الحق ، إذ تأمروننا بذلك .
  6. ويقولون للمؤمنين على وجه التكذيب والعناد والاستنكار : متى يكون البعث إن كنتم صادقين فيما تقولون عنه ؟
  7. فيأتيهم الردّ من الله تعالى : ما ينتظر هؤلاء المشركون الذين يستعجلون بوعيد الله وعذابه إلاّ نفخة الفزع عند قيام الساعة ، التي تأخذهم فجأة ، وهم منهمكون في شؤون حياتهم يختصمون .
  8. فلا يستطيعون عند سماع النفخ في الصور أن يوصوا أحداً بشيء ، كما لا يستطيعون الرجوع إلى أهليهم ، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم .
  9. وعندما ينفخ في الصور النفخة الثانية ، تردّ أرواحهم إلى أجسادهم ، فيخرجون من قبورهم سراعاً إلى ربهم .
  10. ويقول عندئذ هؤلاء المكذبون بالبعث ـ نادمين متحسّرين ـ : يا حسرتنا ! ويا هلاكنا ! من أخرجنا من قبورنا ؟ فيأتيهم الجواب : هذا ما وعد الرحمن ، وأخبركم عنه المرسلون الصادقون .
  11. فما كان البعث من القبور إلا نتيجة نفخة واحدة في الصور ، فإذا جميع الخلق ماثلون لدينا للحساب والجزاء ، وفي ذلك اليوم يتمّ الحساب بالعدل ، فلا تظلم نفس شيئاً بنقص حسناتها أو زيادة سيئاتها ، ولا يجزى أحد إلا بما عمل في الدنيا .

الدروس والعبر :

  1.  كان الردّ الحاسم على استعجال الكفار قيام الساعة استهزاء أنها تأتي فجأة كلمح البصر أو هي أقرب ، وتحدث بنفخة واحدة هي نفخة إسرافيل في وقت يختصم الناس في أمور دنياهم ، فيموتون في مكانهم ، وهذه هي نفخة الصعق .
  2. ـ من آثار الموت المفاجئ بتلك النفخة أنهم لا يتمكنون من العودة إلى ديارهم إذا كانوا خارجين منها ، ولا يستطيعون الإيصاء إلى غيرهم بما لهم وما عليهم . وقيل : لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضاً بالتوبة ، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم .
  3. ـ ثم تأتي النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور من القبور ، فهما نفختان ، لا ثلاث على الراجح من أقوال العلماء كما سبق.
  4. يتعجب أهل البعث ويذهلون ويفزعون مما يرون من شدائد الأهوال فيتساءلون عمن أخرجهم من قبورهم ، مفضلين عذاب القبر ؛ لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد .
  5. عندما تحدث النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور ، يخرج الناس جميعاً مسرعين إلى لقاء ربهم للحساب والجزاء ، كما قال تعالى : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر:8]


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 16 أبريل, 2025 عدد الزوار : 14108 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع