الأحاديث القدسية : 9- من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب
روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَن عادى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ.) رواه البخاري
شرح الحديث
( مَن عادى لي وَلِيًّا) المعاداة: ضد الموالاة والمصادقة، والعدو ضد الولي. وعاداه: أي: آذاه وأغضبه وأهانه بالقول أو بالفعل، وعاداه اتخذه عدوا.
( وليا): الولي: مأخوذ من الولي بسكون اللام. وهو القرب والدنو، ومنه: “كل مما يليك” والولي: فعيل إما بمعنی فاعل؛ لأنه والى الله تعالى بالطاعة والتقوى من غير تخلل عصيان، وإما بمعنی مفعول: لأن الله والاه بالحفظ ومزيد الإمداد، ولم يكله إلى نفسه طرفة عين.
والولي في الاصطلاح: له معنيان عام و خاص:
فالعام: هو المؤمن؛ قال تعالى: ( الله ولي الذين امنوا ) {البقرة: 207].
وبالمعنى الخاص: فهو المؤمن المواظب على فعل الطاعات واجتناب المنهيات، وهو الولي الكامل المذكور في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [يونس:12] قال ابن حجر: ”المراد بولي الله: العالم بالله تعالى، المواظب على طاعته المخلص في عبادته”
والمعنى المراد في الحديث: هو الخاص؛ يعني: تحرم أذية المؤمن المواظب على فعل الطاعات واجتناب المنهيات.
وقيل: المراد من ذلك هو المعنى العام؛ يعني: عموم المؤمن، فكل مؤمن تحرم أذيته بالقول أو الفعل.
ولا مانع من اعتبار المعنيين، على حسب درجات الإيذاء وأشكاله، وأحوال الأشخاص، فيدخل فيه جواز إيذاء عموم المؤمن في نحو حق، كما لا يمتنع إيذاء خواص المؤمنين المواظبين على الطاعات واجتناب المنهيات في نحو ذلك، خاصة وأنه لا عصمة لأحد عن اقتراف بعض المزجورات وإن كان من أصلح الخلق.
(فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْب) آذنته:بالمد؛ أي: أعلمته، والإيذان: الإعلام، والأذان: الإعلام بدخول وقت الصلاة.
والمعنى: أعلمه أني محارب له، ومن حاربه الله تعالى لا يفلح أبدا، وويل لمن كان الله تعالى خصمه فهذا غاية الوعيد والتهديد؛ لأن فيه أعظم الهلاك، قال الحسن: ابن آدم هل لك بمحاربة الله من طاقة؟
وإذا كان في معاداة الولي عظيم الوعيد والتهديد والإهلاك. فليعلم أنه في موالاته عظيم الثواب ، فأولياء الله تعالى تجب موالاتهم وتحرم معاداتهم، كما أن أعداءه تجب معاداتهم وتحرم موالاتهم.
مسألة: المحاربة مفاعلة بين جانبين، فكيف تتحقق والمخلوق في أسر خالقه تعالى وفي قبضته؟
والجواب:
المقصود من المحاربة هو لازمها، وهو الإهلاك. فإن الحرب تنشأ عن العداوة، والعداوة تنشأ عن المخالفة، وغاية الحرب الهلاك، والله تعالى لا يغلبه غالب. فهذا من المجاز المرسل حيث أُطلق الحرب وأُريد لازمها.
وقد نص الله تعالى على تحريم الأمرين السابقين، واعتبر أكلة الربا وقاطعي الطريق محاربين لله تعالى لعظيم ظلمهم لعباده وسعيهم في الفساد في أرضه. وأعظم من ذلك كله محاربة الله بإلغاء شريعته، وإقصاء أحكامه التي أنزلها لعباده من كل ميادين الحياة، واستبدالها بشريعة البشر وتفضيلها عليها، فهذا كله محاربة لله وكفر به، ولن تجد لمن حارب الله ناصرًا ولا معينًا، فالأرض والسماء ومن فيهما ملك لله، ولا مفرّ منه إلا إليه، ولا نجاة إلا به.
هذا، ومن المحاربة لله تعالى أيضًا: قتل أولياء الله من شيوخ المسلمين وشبابهم، والأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أو حبسهم، أو المكر بهم بأي نوع من أنواع البطش والتضييق. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 21].
قال ابن رجب: “لما ذكر أن معاداة أوليائه محاربة له؛ ذكر بعد ذلك وصف أوليائه الذين تحرم معاداتهم، وتجب موالاتهم فذكر ما يتقرب به إليه تعالى فقال: (وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ) وما تقرب”: أي: طلب القرب من رحمتي ورضاي وثوابي الجزيل، بشيء: الباء للسببية؛ أي: بسبب شيء.
أنواع القرب:
- قرب خاص: وهو قرب اللطف والنصر والتأييد، وهذا قرب خاصة عباده وصفوة أوليائه.
- قرب عام: وهو قرب لسائر عباده بالعلم والقدرة.
(أحَبَّ إلَيَّ ممّا افْتَرَضْتُ عليه) تشمل فعل الواجبات وترك المحرمات، لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده، أي: ما نال عبدي ثوابي وما حل له رضاي بمثل أداء الفرائض.
هل الفرض أفضل أم النفل؟
من كثرة كلام مشايخنا عن أحاديث الفضائل يظن البعض أن النوافل أفضل من الفرائض وهذا خطأ ، لأن الفرض أفضل من النفل ؛ وذلك لما ثبت من تعلق النجاة بفعل الفرائض؛ كما ورد في الحديث: أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان، وأحللت الحلال وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة؟ قال: “نعم”.
ولأن الفرائض هي أركان الإسلام، والأمر بها جازم، فالثواب على فعلها والعقاب على تركها، بخلاف النوافل فالثواب على فعلها فقط، والفرض أفضل من النفل من حيث الثواب، فالفرض کالأصل والأساس والنفل کالفرع.
وقال عمر : “أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيها عند الله “.
ومن أعظم الأدلة على ذلك: هذا الحديث؛ حيث قدم الفرض فيه على النفل.
فائدة: وفي قوله في الفرائض: “أحب إلى” إشارة إلى أن من غايات المولى على من فرض الفرائض: فتح الطريق أمام الناس للتقرب إليه بمحبوباته. فالله ما افترض الفرائض إلا ليقرب عباده منه، ويوجب للناس رضوانه ورحمته.
( وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتّى أُحِبَّهُ) النوافل لغة: جمع نافلة وهي الزيادة. واصطلاحا: ما رجح الشرع فعله و جور ترکه، ولا فرق بين النوافل الظاهرة: كتلاوة القرآن والذكر، والباطنة: كالزهد والورع، والنوافل أبواب كثيرة من سائر العبادات: كالصلاة بالليل، والصدقات، والإصلاح بين الناس، وإعانة المسلمين، والتيسير على معسرهم، وهكذا.
قال ابن رجب: “فمن أحبه الله رزقه محبته وطاعته والاشتغال بذكره وخدمته، فأوجب له ذلك القرب منه والزلفی لديه والحظوة عنده.
وقوله: “وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه” وقوله: “لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه” :
أفاد هذا أن أولياء الله على قسمين:
أصحاب اليمين: وهم من تقربوا إليه بأداء الفرائض، وهذا يشمل فعل الواجبات وترك المحرمات.
السابقون المقربون: وهم الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات والالتفات عن دقائق المكروهات من خلال الورع الذي يحجبهم عن الشبهات.
وعلى المعنى الأول: يكون قوله: “من عادى لي وليا” يقصد به المؤمن المؤدي للفرائض .
ومن هنا يعلم أن طريق الولاية يمر بأداء الفرائض أولا، ثم يترقى بأداء النوافل ثانيا، ثم يصل إلى التام بالتحقق بالإحسان في ذلك كله .
ودعوى الولاية بغير هذين دعوی کاذبة، فأولياء الله هم الطائعون له على بصيرة واهتداء.
والطاعة يشترط فيها شرطان: المتابعة والإخلاص، والمتابعة مفتقرة إلى العلم، فمن لم يعلم كيف يتابع لم يكن وليا.
تنبیه: علم مما تقرر أن المراد من التقرب بالنوافل: أن تقع مع أداء الفرائض، لا مع إخلال بها…. فمن أقام النفل وأخل بالفرض، أو من شغله النفل عن الفرض فهو مغرور، ومن أقام الفرض وأخل بالنفل فهو معذور.
قال الغزالي رحمه الله تعالى: (المصلي لا تقبل له نافلة حتى يؤدي الفريضة). .
قال سلمان : الذي يكثر الفضائل، ولا يكمل الفرائض کمثل تاجر خسر رأس ماله، وهو يطلب الربح.
فالفرض هو الأساس والأصل، والنفل هو الفرع وباقي البناء، ولهذا تقدم الأصل في الذكر على الفرع .
قوله: “حتى أحبه”:“حتى”: إما أن تكون للغاية فهي بمعنى ” إلى أن أحبه”. وإما أن تكون للتعليل فهي بمعنى “كي أحبه”. والمراد أعلى درجات المحبة وأرفعها لا أصلها؛ لأن حصول أصلها لا يتوقف على الاستكثار من النوافل بل بفعل الفرائض أولا۔
من ثمرات الولاية تسديد الله لوليه:
(فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به) والمعنى هنا على تقدير مضاف محذوف؛ أي: کنت حافظ سمعه الذي يسمع به، فلا يسمع إلا ما يحل سماعه، وحافظ بصره فلا ينظر إلا إلى ما يحل نظره، وهكذا.
أوأن هذا مجاز عن نصرة الله لعبده المتقرب إليه بها وتأييده وإعانته وتوليه في جميع أموره، والمجاز هنا من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم.
وحاصل الكلام أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض، ثم بالنوافل؛ قربه إليه، ورفعه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيعبد الله تعالى على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى، ومحبته، وعظمته، وخوفه، و مهابته، وإجلاله، والأنس به، والشوق إليه، حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهدا له بعين البصيرة، فيسدده الله في سمعه وبصره ويده ورجله، ويكون المعنى أن يوفق هذا الإنسان فيما يسمع ويبصر ويمشي ويبطش.
ومعنى ذلك أنه لا يسمع ما لم يأذن الشرع له بسامعه، ولا يبصر ما لم يأذن الشرع له في إبصاره ، ولا يمد يده إلى شيء ما لم يأذن الشرع له في مدها إليه ، ولا يسعی برجل إلا فيما أذن الشرع في السعي إليه، ولا شك أنه إذا وصل إلى هذه المرتبة فإن الله تعالى يسدده في جميع حواسه، فلا ينظر إلا إلى ما يحب الله، ولا يستمع إلا إلى ما يحب الله، ولا يمشي إلا إلى ما يحب الله، من جلسة ذكر، أو حلقة علم، أو مكان وعظ، أو صلة رحم، أو حج أو عمرة، ونحو ذلك من أنواع المماشي التي هي في طاعة الله عز وجل، وكذلك لا يبطش إلا في مرضاة الله؛ من إزالة منكر، أو نصرة مظلوم ونحو ذلك، وكذلك يستمع إلى ما يحب الله؛ من كتابه وذكره، وسنة رسوله، وعلم شريعته ونحو ذلك، والنظر في المصحف من العبادات، وكذلك النظر في الأمانات لتمييزها لأصحابها، والنظر في كتب العلم والفقه ونحو ذلك من أنواع النظر الذي هو من العبادات.
ولا يزال هذا الحب يزيد ويقوي حتى تمتلئ قلوبهم به، فلا يبقى في قلوبهم غيره، فلا تستطيع جوارحهم أن تنبعث إلا بموافقة ما في قلوبهم.
ومن هذا المعنى قول علي: “إن كنا لنرى أن شيطان عمر ليهابه أن يأمره بالخطيئة”.
(وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها) فالله يسدد هذا العبد في سمعه وبصره ويده ورجله، فيوفق العبد فلا يسمع إلا ما أذن الشرع بسماعه، ولا يبصر إلا ما أذن الشرع بإبصاره، ولا يمد يده إلى شيء لم يأذن الشرع به، ولا يسعى برجله إلا إلى ما أذن الشرع فيه.
استجابة الدعاء لأولياء الله:
(وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ) مما أعد الله للولي في الدنيا: استجابة الدعوة، وقوله: لأعطينه أي: ما سأل من أمور الدنيا والآخرة جلبا أو دفعا، والتعبير بالإعطاء بمعنى التحقيق لا الإيصال حتى لا يكون السؤال مقصورا على الجلب.
قوله: “ولئن استعاذني لأعيذنه” : أعاده بعد قوله: ” ولئن سألني” مع أن السؤال يشمل الاستعاذة: من باب ذكر الخاص بعد العام؛ اهتماما به؛ لأن الاستعاذة لدفع المضار، ولأن المقام مقام ترغیب وامتنان وهو يناسبه التفصيل.
أي: طلب الإعاذة مني والحفظ مما يضره في دنياه، أو آخرته، أو يضر غيره، وحذف المستعاذ منه ليعم.
(ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ) مما يخاف، وهذا حال المحب مع محبوبه يعطيه ما سأل، ولا يرد دعاءه، ويعيذه مما استعاذ منه، واللام في قوله: (لأعيذنه) للتأكيد.
وسنة الله مع أوليائه أن يعيذهم، وأن يحفظهم من كل مكروه، وأن يجيب دعاءهم، ويحقق سؤالهم، وهذا واقع بكثرة في السلف والخلف من أولياء الله تعالى، حتى كان علامة أولياء الله تعالى إجابة الدعاء، وإبرارهم في أيمانهم.
أمثلة لأولياء الله من مستجابي الدعاء:
1- في الصحيحين” أن الربيع بنت النضر کسرت ثنية جارية، فعرضوا عليهم الأرش(التعويض)، فأبوا، فطلبوا منهم العفو فأبوا، فقضى بينهم رسول الله بالقصاص، فقال: أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تخسر ثنيتها، فرضي القوم وأخذوا الأرش. فقال: ” إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره “أخرجه البخاري ومسلم
2- وفي حديث حارثة بن وهب الخزاعي قال سمعت النبي * يقول: “ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره” أخرجه البخاري ومسلم
3-وقال النبي في صفة أويس بن عامر القرني: “له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره”.أخرجه مسلم
4- وفي حديث أبي هريرة عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره”.أخرجه مسلم
5- وكان البراء بن مالك في زحف أمام المشركين فقيل له: أقسم على ربك، فقال: أقسمت عليك رب لما منحتنا أكتافهم، فمنحهم أكتافهم، ثم التقوا مرة أخرى فقالوا: أقسم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيلك فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء.
5- وأخرج أبو نعيم باسناده عن سعد أن عبد الله بن جحش قال يوم أحد: یا رب إذا لقيت العدو غدا، فلقني رجلا شديدا بأسه، شدیدا حرده، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي، وأذني، فإذا لقيتك غدا، قلت: يا عبد الله من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت.
قال سعد: فلقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط.
6- وكان سعد بن أبي وقاص مجاب الدعوة، دعا على رجل كان قد طعن فيه بالباطل ، فقال : اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا قام ریاء وسمعة فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن، وكان بعد ذلك إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك بن عمير: فأنا رأيته قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن.
7- وكان سعید بن زید مجاب الدعوة، فقد دعا على امرأة ادعت عليه أنه أخذ شيئا من أرضها، فقال : اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها واقتلها في أرضها، فما ماتت حتى ذهب بصرها وبينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت. متفق عليه.
وفي رواية لمسلم عن محمد بن زید بن عبد الله بن عمر بمعناه ، وأنه رآها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد، وأنها مرت على بئر في الدار التي خاصمته فيها فوقعت فيها وكانت قبرها.
ومنهم من كانوا لا يسألون الله الدنيا، وكانوا كثيرا ما يصبرون على البلاء، مثل سعد بن أبي وقاص لما عمي بصره في آخر عمره قيل له: لو دعوت الله لبصرك؟ فقال: قضاء الله أحب إلي من بصري.
مسألة: فإن قيل: إن كثيرا من العباد والصلحاء سألوا ولم يعطوا؟ واستعاذوا ولم يعاذوا؟ فكيف بقوله: “ولئن سألني…” إلخ؟
فالجواب عن ذلك من وجوه:
1- ربما دعا المؤمن مجاب الدعوة بما يعلم الله الخيرة له في غيره فلا يجيبه إلى سؤاله، ويعوضه عنه ما هو خير له، إما في الدنيا، وإما في الآخرة.
2- أن قوله: “ولئن سألني لأعطينه…” خبر كبقية الأخبار مقيد في الوقوع بمشيئة الله تعالى.قال جل وعلا: “فيكشف ما تدعون إليه إن شاء “[الأنعام:41] ومثل هذا قول النبي كما في صحيح مسلم : “سألت ربي أن لا يذيق أمتي بعضهم بأس بعض فمنعنيها”؛ أي: تلك الخصلة.
3- وقد يكون السبب في عدم إجابة الدعاء: وجود موانع أو فقد شرط من شروط إجابة الدعاء. .
4 – والإجابة تتنوع، فتارة تقع بعين المطلوب على الفور، وتارة بعينه على التراخي؛ لحكمة فيه، وتارة تقع بغيره حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة ، وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها.
(وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ.) سميت كراهته تعالى أذى المؤمن ومساءته ترددا في حق قبض عبده المؤمن، ولا يلزم من ذلك أن يكون الله جاهلا بعواقب الأمور كما هو سبب ترددنا في كثير من الأحيان تعالى الله عن ذلك، وما وصف الله به نفسه حق لكن لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا.
ولما كان موت المؤمن مرادا لله تعالى من وجه ومكروها له من وجه كان ذلك ترددا فإن حقيقة التردد أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه وإن كان لابد من ترجح أحد الجانبين، كما ترجح إرادة الموت لكن مع وجود کراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته (انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (18/ 130،131 ) .
فوائد من الحديث
1- أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يدافع الله عنهم، وينصرهم على عدوهم، ويدفع عنهم الكيد والضرر، ويمنحهم البركة والرعاية، وهم دائما في معيته، ومن كان الله معه فلن يغلب أبدا.
2- هذا الحديث تأكيد للمؤمنين أولياء الله تعالى، بأن الله معهم، وهو أكبر وأعظم من كل جبابرة الأرض، بل الأرض جميعا في قبضته، ولن يترك الله أولياءه لأعدائه، وإنما يبتليهم الله ليعلم الصادق من الكاذب، ويميز الخبيث من الطيب، ثم يجعل الله الدائرة على الذين ظلموا، ويجعل العاقبة للمتقين.
3- حدد الحديث صفات أولياء الله تعالى في العمل بالفرائض، والتقرب إليه سبحانه بالنوافل، وهذا قيد هام في أولياء الله ، وفرقان بين أولياء الله العاملين بشرعه، وبين أولياء الشيطان العاملين بوساوسه، فليس وليا له من ترك الصلاة أو شيئا من الفرائض الواجبة، وليس وليا لله من تقرب إليه بمعصية أو بدعة أو ضلالة .
4- وفي الحديث أن أفضل ما تقرب به العبد إلى الله : فرائضه، ثم النوافل المشروعة، وفيه درس في ترتيب المهمات والأولويات، فيقدم الأهم على المهم ويقدم الواجب على المستحب، والفرض على النفل، فليس من الحكمة الاستغراق في البحث والمناظرة في التحذير من بعض البدع القديمة المندثرة وترك التحذير من ألوان الشرك المعاصر، والعلمانية المقيتة.
فالواجب وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها، وبناء الخطوات على الموازنة بين المصالح والمفاسد، والأهم والمهم، وتقديم الأولويات.
مهمان
كيفية الحصول على نسخة صوتية mp 3 من الدروس على هذا الموقع ، سيكون من الرائع إذا كان بإمكانك أيضًا وضع نسخة صوتية من كل هذه الدروس على هذا الموقع