اغتنم خمسا قبل خمس:2- وصحتك قبل سقمك

تاريخ الإضافة 2 أغسطس, 2023 الزيارات : 8290

2- وصحتك قبل سقمك

أولا نعمة العافية :

الصحة نعمة من نعم الله علينا لا نقدرها إلا حين نفقدها وكما قيلالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى

ولهذا علينا اغتنام هذه النعمة الكبيرة التي منَّ الله عز وجل بها علينا

ومن هنا حث النبي صلى الله عليه وسلم على اغتنام هذه النعمة العظيمة والاستفادة منها قبل زوالها وقبل أن يداهمنا المرض ويفاجئنا !!

فكم من سليم معافى نزل به المرض فجعله قعيد فراشه يتحسر على أيام مضت لم يجعل لله عز وجل فيها نصيبا بل كانت عبثا ولهوا وعصيانا لجبار السموات

والأرض ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة، والفراغ

وأسوأ أحوال المرء أن يكون مغبونا، والغبن أن تشتري بأضعاف الثمن أو أن تبيع بدون ثمن المثل ، فمن أصح الله له بدنه ، وفرغه خالقه من الأمراض العائقة ، ولم يسع لصلاح آخرته فهو كالمغبون في البيع أو الشراء ، والمقصود أن غالب الناس لا ينتفعون بالصحة والفراغ بل يصرفونها في غير محلها….ونفس الإنسان إن لم يشغلها بالحق شغلته بالباطل

ولهذا كانت الصحة والعافية من أجلّ نعم الله على عبده وأجزل عطاياه وأوفر منحه
وفي الحديث  أيضا من أصبح معافى في جسده آمنا في سربه عنده قوت يوم فكأنما حيزت له الدنيا رواه الترمذي

(آمناً في سربه) أي: في أهل بيته وأولاده

(فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) أي: كأنما ملك الدنيا بأجمعها

ومن هنا قال السلف في قوله تعالى ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ )التكاثر8

النعيم ما يلتذ به في الدنيا من الصحة والفراغ والأمن والمطعم والمشرب وغير ذلك

وفي سنن النسائي مرفوعا(سلوا الله العفو والعافية والمعافاة فما أوتي أحد بعد اليقين خيرا من المعافاة )

وقال صلوات ربي وسلامه عليه: (إن أول ما يسأل عنه العبد من النعم يوم القيامة أن يقال له: ألم نُصحَّ جسمك، ونرويك من الماء البارد).

وأخرج ابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال:

رءوس النعم ثلاثة:

أولها : نعمة الإسلام التي لا تتم النعم إلا بها، فاحمد الله على هذه النعمة العظيمة.

والثانية: نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها.

والثالثة: نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها

وأزيد رابعة : وهي: نعمة الأمن والأمان، فلا تطيب كل هذه النعم إلا بها.

إنها نعمة الصحة، فلا مرض يؤلم، ولا علة تثقل، فمن نالها فقد أسبغ عليه ربه لباس الصحة والعافية، فبالصحة ينشط الموفق لعبادة ربه، فهو يذكر الله ذكرًا كثيرًا، لا يقطعه عن ذلك سقم يدافعه، إن صلَّى صلَّى بقوته قائمًا راكعًا ساجدًا على أتم وجه وأكمله، وإن أراد صيامًا يتقرب به إلى ربه لم يَعُق عن ذلك تعب ينتابه أو علاج من أجله يقطع صيامه، فهو ينهل من العبادات ألوانًا.

فهذه حال مغتنم الصحة قبل السقم، إذ بالسقم تثقل العبادات وتفتر الهمم، وإن كان سقمه مع احتسابه يكفر به السيئات ويرفع به الدرجات، ولكن تبقى الصحة مغنمًا قبل السقم.

فاغتنم صحتك قبل سقمك ؛ فأنت الآن صحيح، وأنت قوي البنية وقوي البدن، فإنها قد تتغير إلى ضعف، يقول الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً )الروم 54

فهذا الضعف الذي يأتي الإنسان هو من إما مرض يعرض له، وإما شيخوخة وكبر لا يقدر على أن يردها؛ فيغتنم ما دام في قوته، وما دام في صحته؛ قبل أن تتغير الصحة إلى مرض.

أيضا من نعم الله أن المؤمن إذا مرض كتب له ثواب عمله الصالح كله الذي كان يؤديه حال صحته كحضوره الجمع والجماعات والسنن والصيام وتلاوة القرآن وصلة الرحم …الخ

وقد جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم” إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً ” رواه البخاري

 

ويذكر أن عبدُ الله بن مسعود مَرِضَ، فعاده إخوانه ، فجعل يَبكي ، فعوتب ، فقال : إني لا أبكي لأجل المرض ، لأني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : المرض كفارة .
وإنما أبكي أنه أصابَني على حال فترة ، ولم يُصِبْني في حال اجتهاد ، لأنه يُكتَب لِلْعبد من الأجر إذا مَرِض ما كان يُكتب له قبل أن يَمرض فَمَنَعَهُ منه المرض “

(تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)

ينبغي أن تشكر الله تبارك وتعالى على النعمة وهي معك قبل أن تبتلى بالفقد، قبل أن تعرف الضد، صحيح أن معرفة الأضداد تفيد وتميز، لكن صاحب البصيرة يعرف قدر ما عنده قبل أن يمتحن، صاحب الذهب يعلم قيمة ما عنده ولا يحتاج لمقارنته بالحجر والتراب وغير ذلك، اعرف قيمة ما وهبك الله تبارك وتعالى من نعمة الصحة والعافية.

وقد أخبرنا الله عن صنف لا يعرفونه إلا في الشدة فقال تعالى (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) يونس

وهذا إخبار عن طبيعة الإنسان ، وأنه إذا مسه ضر، من مرض أو مصيبة اجتهد في الدعاء، وسأل الله في جميع أحواله، قائما وقاعدا ومضطجعا، وألح في الدعاء ليكشف الله عنه ضره.

{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } أي: استمر في غفلته معرضا عن ربه، كأنه ما جاءه ضره، فكشفه الله عنه، فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟” يطلب من الله قضاء غرضه، فإذا أناله إياه لم ينظر إلى حق ربه، وكأنه ليس عليه لله حق..

وتأمّـل التعبير بقوله ( مَـر ) ، و ما يوحي به مِـن سرعة نسيان العبد لفضل الله عليه .

وهذه الحالة التي ذكرها الله سبحانه لا تختص بأهل الكفر، بل تتفق لكثير من المسلمين تلين ألسنهم بالدعاء وقلوبهم بالخشوع والتذلل عند نزول ما يكرهون بهم.

فإذا كشفه الله عنهم غفلوا عن الدعاء والتضرع، وذهلوا عما يجب عليهم من شكر النعمة التي أنعم الله بها عليهم من إجابة دعائهم ورفع ما نزل بهم من الضر ودفع ما أصابهم من المكروه.

أيهما خير لك المال أو الصحة؟

لا شك أن الصحة خير من المال، بعض الناس يغفل عن ذلك، فيطلب التجارات والأموال، ولا يبالي أكان صحيحاً أم سقيماً، ولو وضع مال الدنيا كله بجانب ألم أو وجع أو مرض لكانت الصحة والعافية والسلامة من ذلك المرض والبرء من ذلك الوجع خير من مال الدنيا أجمعه، لكن الإنسان لا يعرف قدر النعمة نسأل الله تعالى أن يحفظ علينا وعليكم نعمة العافية.

لذلك النبي عليه الصلاة والسلام حثنا على أن نسأل الله تبارك وتعالى العافية، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم إني أسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة).

وضرب الإمام الغزالي رحمه الله تعالى  مثلاً في كتابه: (إحياء علوم الدين) فقال: تدعي أنك فقير! أتبيع نعمة البصر بعشرة آلاف درهم؟! أتبيع نعمة السمع بعشرة آلاف درهم أتبيع نعمة كذا بكذا وكذا؟

هل من أحد يشتكي الفقر ويريد أن يكون مليونيراً، ويستبدل بنعمة البصر مليون دولار؟! هل هناك من يرغب بمليون دولار ويسلب نعمة البصر؟!

يروى أن الحجاج بن يوسف قُدِّم طعامه لأعرابي، فسأله عن الطعام أطيب هو؟

فقال الرجل : أما إنك لم تطيبه أنت ولا طباخك، وإنما طيبته العافية.

قصة شهيرة تُروى عن الفنان أنور وجدي

يذكر أنه قال في إحدى جلساته : « يارب هات لي كل أمراض الدنيا بس ارزقني نصف مليون جنيه ».
وعندما سُئِلَ ماذا ستفعل بها قال أعالج نفسي بنصفها واستمتع بالنصف الآخر .. و عرفت الثروة طريقها إلى جيبه …. وأعطاه الله المال بوفرة ولكن ابتلاه بالسرطان والذي قضى عليه وتوفي وهو في عمر ال 44 سنة .

الصحة أمانة :

نحن مؤتمنون على ما وهبنا الله من القوة والصحة والعافية.

لذلك يجب علينا أن نراعي القواعد الشرعية في حفظ الصحة كي تبقى هذه الصحة والعافية إلى آخر لحظة في حياتنا

والعجب كل العجب أن ترى من الناس من يدفع المال لإهلاك صحته بل وتدميرها من خلال تعاطي المخدرات أو شرب الخمور أو تدخين الشيشة والسجائر ، أو غير ذلك مما حرم الله ، فيخون الأمانة ويقتل نفسه ويهدر عافيته !!!

قال تعالى(ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) النساء 29

يا من منّ الله عليك بالصحة والعافية:
إذا أردت أن تعرف قدر الصحة والعافية فزر المرضى في المستشفيات …

كم من مريض يتمنى أن يخطوا بقدميه ليصلي الفريضة مع الجماعة  ويصل أرحامه ويزور إخوانه .. ولكنه لا يستطيع ؟!!

كم من مريض انقطع عن الناس فهو لا يسمع ولا ينطق يتمنى سماع القرآن وترتيل آياته ولكنه لا يستطيع. ؟!!
كم من مريض كف بصره فهو يتمنى أن يرى مخلوقات الله وآياته ؟!!

وكم من مريض يتمنى أن يأكل الطعام ويشرب الشراب ولكنه لا يستطيع ؟!!

وكم من مريض لا تسكن أوجاعه ولا يرتاح في منامه ؟!!

وغيرهم كثير.
العافية لا يعدلها شيء

يقول الشيخ عبد الرحمن السحيم :تذكّرت موقفين:

أما الأول: فهو لشيخ كفيف.. دُعِي إلى تخريج حَفَظة لكتاب الله.. فألقى كلمته، ثم قال كلِمة..

قال: ما تمنّيت أني أُبصِر إلا مرتين:

مرّة حينما سمعت قول الله- تبارك وتعالى -: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)

لأنظُر إليها نَظَر اعتبار..

وأما المرّة ثانية فلأرى هؤلاء الحَفَظَة..

يقول مُحدِّثي وقد حضر المشهد : لقد أبكى الجميع..

هل تأملت هذا المشهد لرجل أعمى يتمنّى نعمة البصر لينظر فيها في موقفين فقط؟

وأما الموقف الثاني:

فهو لشاب أصمّ أبكم.. خَرَج يوماً مع بعض أصحابه، وكان منهم من يُتقِن لُغة الإشارة فيُترجم له..

وفي الطريق مرُّوا بمجموعة من الشباب اجتمعوا على لهو وغناء وطرب.. وقف الشباب بِصُحبة الأصمّ.. ترجَّلُوا من سيارتهم.. استأذنوا ثم جَلَسوا..

تكلّموا.. تحدّثوا.. ذكّروا.. وعَظُوا.. انتهى الكلام.. همُّوا بالانصراف.. أشار إليهم الأصمّ أن انتظروا قليلاً..

أشار إلى صاحبه المترجم أن يُترجم..

تحدّث الأصمّ بلغة الإشارة.. ثم تَرجَم صاحبه..

لقد قال لهم : أتمنّى أن لي لساناً ينطق.. لأذْكُر الله به..

لقد وَقَعتْ كلماته على قلوب الجالسين..

وأثّرت فيهم حتى لامَسَتْ شِغاف قلوبهم.. رغم أنه لم يتكلّم.. ومع أنه لم ينطق.. إلا أن كلماته كان لها وقعها على نفوس الحاضرين.
أيها الصحيح:
هل نسيت هؤلاء ؟!

فاتق الله في صحتك وعافيتك واشكر الله على نعمة القدمين واستخدمها في الذهاب والإياب للمساجد ولكل خير, واشكر الله على نعمة اللسان وأكثر فيه من تلاوة القرآن وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم ” ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت” واشكر الله على نعمة السمع واحفظه عن سماع المحرمات واشكر الله على نعمة العينين فلا تنظر بهما إلى النساء .

أيها الصحيح:

هذا هو الشكر الحقيقي لله على نعمة الجوارح مع استخدامها في طاعة الله, تذكر وأنت تجاهد نفسك على شكر الله في جوارحك كلها أن الله يحفظها عليك ويمتعك بها سنوات طويلة, ويوفقك سبحانه وتعالى لاستخدامها فيما يرضيه.

 

سؤال الله دوام العافية :
علمنا رسول الله سؤال الله دوام العافية في الصباح والمساء ومما ورد عنه في ذلك :

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: “لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عليهِ وسلَّم يَدَعُ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحينَ يُصْبِحُ: “اللهُمَّ إِنِّي أَسْألُكَ الْعَافِيَةَ في الدنيا والآخرة اللهُمَّ إِنِّي أَسْألُكَ العفو والْعَافِيَةَ في دِينِي ودُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالي، اللهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتي وَآمِنْ رَوْعَاتي وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَديَّ وَمِنْ خَلْفي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالي وَأعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِن تَحْتي“. رَوَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ

 

العافية: الصحة التامة في البدن والسلامة التامة في أمر الدين، والسلامة من المعاصي والبدع، والسلامة في الدنيا من شرورها ومصائبها.

عوراتي: جمع عورة، والعورة كل ما يستحيى منه إذا ظهر من الذنوب والعيوب.

روعاتي: جمع روعة والروعة الفزع.

عظمتك: عظمة الله تعالى صفة جليلة من صفاته العلا، فهو موصوف بالعظمة الكاملة والقدرة النافذة ، فالسائل يستعيذ ويلتجئ من الشرور بعظمة الله تعالى وقدرته المحيطة بكل شيء.

أن أُغتال: اغتال أخذه من حيث لا يدري فأهلكه من الاغتيال، وهو أخذ الشيء خفية.

هذه الدعوات كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدعها صباحاً ولا مساءً ، فعلى المسلم أن يلازمها ولا يدعها إقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم، وحفظاً لنفسه من الشرور وأسبابها.

ففيها سؤال الله تعالى العافية في الدين من المعاصي والابتداع وترك الواجبات.

أما العافية في الدنيا فالسلامة من شرورها ومصائبها وغوائلها والانهماك فيها والغرور بها، وما تجره من الغفلة ونسيان الآخرة.

وأما العافية في الأهل: فسلامة أديانهم من الشهوات والشبهات، وسلامة أبدانهم من الأمراض والأسقام، وسلامة قلوبهم من فتنة الدنيا والانهماك فيها دون غيرها مما ينقصهم في حياتهم الأبدية.

ويسأل ربه ستر عورته بأن يستر أعماله القبيحة عن الناس، ثم يمن عليه بالتوبة منها والسلامة من فضيحتها وخزيها في الدنيا والآخرة.

– وآمن روعاتي: والروعة يكون التأمين من فجائع الدنيا ومصائبها وحوادثها المروعة، ويكون من روعات يوم القيامة وهو أعظم الأمرين، ففي أهوال يوم القيامة ما يذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.

ويسأله حفظاً كاملاً وصيانة تامة تحيط به من جميع الجهات، فلا تخلص إليه الشرور ولا تصل إليه المصائب، فيحاط بحصن الله تعالى من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ، ويستعيذ ويلتجئ إلى ربه بأن لا يغتال من تحته من حيث لا يشعر، فيخسف به كما خسف بقارون، أو يغرق كما أغرق فرعون، أو يأتيه حادث مروع من حوادث الدنيا .

وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إنَّي أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّلِ عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك» أخرجه مسلم.

زوال نعمتك: الزوال التحول والانتقال، وأما النعمة فهي المنفعة المعمولة للغير على جهة البر والإحسان.

تحوُّل عافيتك: تحول العافية هو انتقالها إلى ضدها وهو المرض.

فَجْأة نِقْمَتِك: بفتح الفاء وسكون الجيم مقصور، وبضم الجيم والمد (فُجَاءة) وهي الأخذ بغتة.

«وفَجْأة نقمتك» الفجأة هي البغتة التي تأخذ الإنسان من حيث لا يكون عنده سابق إنذار وإخطار وتحذير، فيؤخذ من مأمنه حينما تفجأه النقمة ويباغته العذاب، ولات حين مناص ولا مفر.

– قوله: «وجميع سَخَطك» تعميم بعد تخصيص، فهو يستعيذ بالله تعالى، ويعتصم من جميع الشرور والأمور التي توجب سخط الله تعالى، والذي يسخطه جل وعلا على عباده هو عموم المعاصي والذنوب من انتهاك المحرمات أو ترك الواجبات، والله أعلم.

أخيرا /ما يقوله من رأى مبتلى :

صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما من رجل رأى مبتلى فقال الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا إلا لم يصبه ذلك البلاء كائنا ما كان )أخرجه الترمذي

قصة مؤثرة جدا رواها الدكتور محمد العريفي في رسالة له بعنوان(هل تبحث عن وظيفة )

في مساء ليلة شاتية.. رن جرس الهاتف..

رفعت السماعة فإذا هو صوت عبد الله..

نعم.. عبد الله.. قد تخرج من الكلية في العام الماضي , وانقطعت العلاقة بيننا منذ ذلك الحين..

ما إن سمعت صوته , حتى استعادت ذاكرتي ذاك الوجه البهيّ والجسم الممتلئ
شباباً..

– حياك الله يا عبد الله.. مرحباً.. كيف حالك.. ما أخبارك.. ما..

قاطعني بصوت ضعيف :

-تذكرتني يا شيخ ؟

– نعم.. وكيف أنساك

لم يتفاعل مع عباراتي , ولم يبدُ منه تجاوب , لكنه قال بصوت ضعيف : أريدك أن تزورني في البيت.. ضروري.. هاه!.. أنا لا أستطيع زيارتك.. لا تسألني لماذا! إذا جئتني عرفت السبب!

قال هذه العبارات بصوت خافت حزين.. لكنه كان بنبرة جادة.. وصف لي طريق منزله.. طرقت الباب.. فتح لي أخوه الصغير..

– أين عبد الله؟

-عبد الله.. في المجلس.. تفضل..

مشى الصغير أمامي , وفتح باب المجلس,فلما دخلت المجلس دُهشت.. ماذا أرى!! عبد الله على سرير أبيض.. بجانبه عكاز.. وجهاز يُلبس في الرّجل لأجل المشي.. ومجموعة من الأدوية.. أما هو فجسد ملقى على السرير..

قال لي مُرحِّباً وقد حاول جاهداً أن يقف على قدميه للسلام..

– حياك الله يا شيخ.. حياك الله.. كلفناك وأتعبناك..

–   لا.. لم تتعبني في شيء.. عفواً لم أعلم بمرضك من قبل.. ولكن ماذا أصابك؟ ماذا حدث لك ؟ ألم تتخرج من الكلية؟ ألم تكن تحدثني أنك سوف تتزوج , وسوف.. وسوف..

-نعم , ولكن ما حدث لم يكن في حسباني..

تخرجت من الكلية قبل أشهر معدودة كما تعلم , وأصابني ما يصيب الشباب عادة من الزهو والفرح بالتخرج.. وبدأت مشوار الحياة الجديدة.. فتحت كتاب مستقبلي المزهر ورُحت استمتع بتقليب صفحاته وأحلم بأيامه السعيدة..

ومضت الأيام السعيدة سريعة.. لا يكدر صفوها إلا صداع بسيط كان ينتابني في بعض الأوقات.. ومع مضي الأيام بدأ هذا الصداع يزداد شدة وألماً.. لكن الأدوية المسكنة كانت كفيلة بالقضاء عليه.. ومضت الأيام على هذا الحال وقد تعوّد رأسي على هذا الصداع حتى صرت أنساه في كثير من الأحيان مع شدته وألمه.

لكن شدة هذا الصداع بدأت تزداد وتزداد.. وبدأ يصاحب ذلك ضعف في النظر.. حتى اشتدّ ذلك عليّ في إحدى الليالي.. فذهبت إلى قسم الطوارئ في أحد المشتسفيات.. شاكياً مما أصابني من صداع وضعف في النظر.. فلما قابلني الطبيب المختص,عمل لي التحاليل والأشعة اللازمة ,ثم قال لي :

–   نحتاج إلى إجراء أشعة مقطعية دقيقة لرأسك , وهذا غير متوفر حالياً في المستشفى.. اذهب إلى مستوصف خاص واعمل هذه الأشعة ثم ارجع إليّ بها.. وحاول أن يكون ذلك سريعاً!..

خرجت يتملكني الوجل تارة.. والاستغراب تارة أخرى.. هذا الطبيب! لماذا يتعبني هكذا؟ كان الأحرى أن يعطيني مسكناً للصداع.. أو قطرة للعين.. وينتهي الأمر.. وجعلت أشاور نفسي : هل أهمل الطبيب وأشعته.. وأشتري دواءً بخمسة ريالات يسكن هذا الصداع وأذهب للبيت وأنام ؟ أم أعمل الأشعة التي طلبها وأنظر على ماذا ينتهي الأمر.. لكني مع كل هذه الخواطر ذهبت إلى ذاك المستوصف وأجريت الأشعة.. ثم رجعت إلى الطبيب, أحمل بين يديّ أوراقاً لا أفهم شيئاً من رموزها..

– تفضل يا دكتور.. هذه الأشعة التي طلبت.

لبس الطبيب نظارة سميكة على عينيه.. أخذ يقلب الأوراق بين يديه.. تغير وجهه.. وسمعته يقول:لا حول ولا قوة إلا بالله.. ثم رفع بصره إليّ وقال :

-استرح.. اجلس..

– بشّر يا دكتور.. خيراً إن شاء الله؟

– خيراً.. إن شاء الله.. خيراً..

وظل صامتاً لا يرفع بصره إليّ! ثم رفع سماعة الهاتف, وبدأ بالاتصال على مجموعة من كبار الأطباء يطلب حضورهم!! ما هي إلا دقائق حتى اجتمع عنده ستة أو سبعة منهم.. بدؤوا جميعاً يقلبون نتائج التحاليل.. يتأملون صور الأشعة.. ويتحدثون باللغة الإنجليزية , ويسارقونني النظر..

مضت قرابة ساعة على هذه الحال.. وأنا في حال لا أحسد عليه..

بدأ يمرّ في عقلي شريط ذكرياتي.. أخذت أستعرض سجل حياتي.. بل مستقبلي.. ترى ما بالهم يتناقشون؟ ما بال الطبيب اهتم كل هذا الاهتمام..

ثم رحت أطمئن نفسي وأقول لها:هؤلاء الأطباء يُكبرون المسائل دائماً.. كل منهم يريد أن يستعرض قواه.. تحاليل..! أشعة..! اجتماعات..! والمسألة حلها سهل:حبة أو حبتان من ال(بندول) مع قطرة للعين,وينتهي كل شيء!!

ظللت أنظر إلى الأطباء محاولاً أن أفهم شيئاً مما يقولون,ولكني مع تركيزي الشديد لم أفهم كلمة واحدة.. بدأت نقاشاتهم تهدأ وتهدأ.. ثم خيم الصمت عليهم..

خرج أحدهم من العيادة وتبعة آخر.. فثالث.. حتى لم يبق إلا اثنان..

قال لي أحدهما :

– اسمع يا عبد الله ! أنت أكبر من أن نقول لك أحضر والدك!!

– خير إن شاء الله يا دكتور.. ماذا تقصد؟!

فقال بأسلوب حازم:

–   التقارير والأشعة تدل! على وجود ورم في رأسك , حجمه يزداد بسرعة مُخيفة , وهو الآن يضغط على عروق العين من الداخل , وفي أي لحظة يمكن أن يزداد هذا الضغط.. فتنفجر عروق العين من الداخل.. فتصاب بالعمى.. ثم تصاب بنزيف داخلي في الدماغ ثم تموت!!..

ثم سكت الطبيب.. نعم سكت.. لكن كلمته الأخيرة بدأت تتردد في أذني.. تموت.. تموت.. يا للهول.. ما أقسى هذه الكلمة.. ما أشد وقعها على النفس.. أموت.. نعم أموت.. لكن شبابي.. رواتبي.. وظيفتي.. أمي.. أبي.. أموت!!

صحت بأعلى صوتي..

يا دكتور!!.. ماذا؟.. كيف؟.. متى؟.. ورم؟.. كيف ورم؟.. متى ظهر عندي؟.. ما سببه؟.. وأنا في هذه السن؟.. أعوذ بالله؟ ورم؟.. سرطان؟.. لا حول ولا قوة إلا بالله..

–   نعم , ورم.. ولا بدّ من علاجه بسرعة , كل دقيقة.. بل كل ثانية تمرّ.. ليست في صالحك.. الليلة ندخلك المستشفى ونكمل التحليلات الللازمة , وفي
الصباح – إن شاء الله – نفتح رأسك ونخرج الورم..

قال الطبيب هذه الكلمات بكل حزم.. وبرود..

قالها وهو يمسح نظارته ويقلب نظره في أوراق بين يديه..

أما أنا فلم أكن أستمع إليه بأذني فقط بل أظن أن جسدي كله قد تحول في تلك الساعة إلى أذن تسمع وتعي..

استمر الطبيب في كلامه..

-اصبر.. واحتسب.. لست الوحيد الذي تجرى له مثل هذه العملية.. أناس كثيرون أجريت لهم وشُفوا بإذن الله.. وأنت شاب مؤمن وعاقل,لا يحتاج مثلك إلى تصبير وتثبيت.. واصل الطبيب كلماته وهو ينظر إليّ.. أما أنا.. فقد كانت عيناي جاحظتين في عينيه.. نعم كنت أنظر إليه بتركيز شديد..

أما كلامه : فقد اختلطت عباراته الأخيرة بعباراته الأولى.. ولم يثبت في ذاكرتي من كلامه إلا : ورم.. سرطان.. عملية..

ماذا لو كتب الله عليّ الموت أثناء العملية؟.. ماذا ستفعل أمي؟.. أبي الذي جاوز السبعين؟.. إخواني ؟.. أخواتي الصغار؟..

بل كيف سأدخل القبر وحدي؟.. كيف سأمرّ على الصراط؟.. كيف؟ وكيف؟ أين تخطيطاتي.. وشهاداتي.. الزواج.. الوظيفة الجديدة.. كيف يحصل هذا فجأة.. أسئلة كثيرة تتردد في داخلي.. جعلتني أسبح في بحر من الأفكار لا ساحل له..

أخذت أصرخ في داخلي : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله.. يا ليتني قدمت لحياتي الآخرة..

كل المتع التي كنت أجمعها.. والمراكز التي كنت أسعى لها.. تذهب فجأة.. هكذا بدون مقدمات.. ما أقصر هذه الحياة.. والله ما كنت إلا في غرور..

كيف كنت أتتبّع الشهوات.. وأواقع اللذات.. وجهنم قد سعرت.. والأغلال قد نصبت.. والزبانية قد أعدت؟!

تباً لهذه الدنيا.. إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً.. وإن أفرحت أياماً أحزنت أعواماً.. وإن متعت قليلاً أشقت طويلاً..

وأخذت أعاتب نفسي الخاطئة أشدّ المعاتبة..

آه.. ما أطول حزني غداً.. رحماك يا ربّ.. رحماك يا ربّ..

وفجأة قال الطبيب:

-هذه أوراق العملية ! وقع عليها,حتى نحجز لك سريراً , وننهي إجراءات إدخالك إلى المستشفى!!

بقيتُ واجماً أنظر إليه.فقال:

– خذ! ما بالك؟.. خُذ..

– لا.. لن أوقع على شيء!

–   كيف؟ لن توقع !! مجنون أنت؟! المصلحة لك وليست لنا.. والمضرة عليك لا علينا.. لا تظن أننا فارغون نبحث عن رأس نتسلى بإجراء عملية فيه!!.. الأمر هام.. وخطير..

– لا.. لن أوقع على شيء..

– عموماً لا نستطيع إلزامك.. ولكن وقع على هذه الورقة حتى نخلي مسؤليتنا منك لو حدث لك نزيف مفاجئ.. أخذت الورقة فإذا فيها:

أقرّ أنا الموقع أدناه أني خرجتُ بطوع إرادتي واختياري من مستشفى.. الخ..

وقعت الورقة وانصرفت..

ولكن أين أذهب..؟! إلى البيت وأخبر أمي وأبي ؟.. أم أرجع إلى المستشفى؟.. أم أذهب إلى مستشفى آخر.. لا حول ولا قوة إلا بالله..

بعد تفكير سريع قررت أن أذهب إلى مستشفى آخر..

وفي قسم الطوارئ:

–   السلام عليكم.. يا دكتور أنا أشكو من صداع في الرأس يصاحبه ضعف في النظر.. وبعد الكشف السريع وعمل الأشعة اللازمة.. قال الطبيب:

–   نحتاج إلى أشعة مقطعية دقيقة لرأسك , وهذا غير متوفر حالياً في المستشفى.. اذهب إلى مستوصف خاص واعمل هذه الأشعة.. ثم ارجع إليّ بها.. وحاول أن يكون ذلك سريعاً!

قالها الطبيب ثم سكت..

نزلت إلى السيارة وأخذت أوراق الأشعة ثم صعدت بها إليه ..

– عجباً!! كيف جئت بهذه السرعة !!.. لماذا لم تعمل الأشعة ؟!..

–  قد عملتها قبل أن آتيك.. وها هي بين يديك..

أخذ الطبيب يفكك رموز هذه الأوراق..

أما أنا فقد جلست على الكرسي لا تكاد تحملني قدماي..

لكني كنت أكثر ثباتاً من المرة الأولى..

ذكرت الله تعالى.. سبحان الله.. والحمد لله.. ولاإله إلا الله.. والله أكبر.. أستغفر الله.. أستغفر الله.. تذكرت وصيته صلى الله عليه وسلم  لابن عمه عبد الله بن عباس: واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك, وما أخطأك لم يكن ليصيبك , واعلم أن النصر مع الصبر,وأن مع العسر يسراً.. هان الأمر عليّ.. واطمأنت نفسي..

ماذا سيحدث؟! ورم! لست الأول ولا أظنني الأخير..

أمي .. أبي.. أخوتي.. سيبكون يوماً أو يومين.. ثم ينسون..

فجأة رفع الطبيب سماعة الهاتف واستدعى مجموعة من كبار الأطباء إلى عيادته.. جاءوا.. نظروا في الأوراق.. تحدثوا طويلاً..

كنت أنتظر خبراً مفزعاً..لكني لم أضطرب كثيراً.. علقت أمري بالله.. بدأت الأوهام تعود إليّ.. لماذا أنا بالذات أصاب بالمرض الخبيث؟ الناس كثيرون.. ثم صرخت بنفسي: أعوذ بالله ولماذا أجزم بذلك! لعل ذاك الطبيب قد أخطأ..

صداع عارض وينتهي الأمر..

طالت فترة الانتظار فالتفتُّ إلى الطبيب وسألته:

– هاه.. بشرّ.. ما الخبر؟!

ردّ بنبرة حازمة : انتظر قليلاً.. اصبر..

ثم تركني في دوّامتي ومضى يتلمظ بلغة أعجمية مع زملائه..

لم تمض ساعة حتى انتهوا من نقاشاتهم ثم خرج الأول فالثاني فالثالث..

التفت إليّ الطبيب ثم قال:

اسمع يا عبد الله!..

أنت شاب مؤمن وكل شيء بقضاء الله وقدره.. التقارير والأشعة تدل! على على وجود ورم في رأسك,حجمه يزداد بسرعة مخيفة,وهو الآن يضغط على عروق العين من الداخل وفي أي لحظة قد يزداد هذا الضغط.. فتنفجر عروق العين من الداخل.. فتصاب بالعمى.. ثم تصاب بنزيف داخلي في الدماغ..

ثم تموت!!..

لذا لا بدّ أن تدخل الآن إلى المستشفى.. والليلة تدخل غرفة العمليات.. ونزيل جزءاً من عظم الجمجمة ثم نخرج الورم.. وبعد ذلك نعيد العظم مرة أخرى..

ثم سكت الطبيب..

أما أنا فقد كانت الصدمة عليّ أهون من الأولى.. تقبلت الخبر بهدوء تعجب منه الطبيب ثم رفعت سماعة الهاتف واتصلت بوالدي..

جاء والدي..

شيخ كبير تجاوز السبعين من العمر.. أحضره السائق.. فنظره الكليل لا يساعده على القيادة.. كم تعب واجتهد في التربية والعناية.. جزاه الله خيراً..

لما رآني أبي.. فزع من وجوم وجهي واصفرار عيني.. وقال وهو واقف :

ما الذي جاء بك إلى هنا.. ولماذا جئت.. و..

قلت له : يا أبي.. تعلم أني أشكو من صداع دائم وذهبت إلى مستشفى.. وعملوا لي الفحوصات.. ثم جئت إلى هذا المستشفى.. وبعد الفحوصات أخبروني أن عندي ورم في الرأس ولا بدّ من إجراء عملية عاجلة في الرأس..

سمع أبي هذه الكلمات فكان أقل تحملاً مني.. صاح بي:

ورم.. ورم.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. ثم جلس على الأرض.. وهو يردد:

إنا لله وإنا إليه راجعون.. إذاً نرسلك لتعالج مع أخيك في أمريكا.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. قال هذه الكلمات وهو يتذكر معاناته منذ سنة كاملة مع أخي الأكبر عبد الرحمن الذي يعالج في أمريكا من مرض السرطان..

كم رأيت أبي يبكي في الهاتف وهو يكلمه..

كم كان يدعو له آخر الليل.. وفي الصلوات.. كان حزن أبي عليه ظاهراً.. خاصة إذا رأى أولاد عبد الرحمن الصغار يسألون عن أبيهم : جدي أين بابا.. لماذا ما عندنا أب مثل بيقة بقية الأولاد..

أخذت أنظر إلى أبي ودموعه تسيل على خديه.. وهو يرى أولاده يموتون بين يديه.. فأخي خالد توفي في حادث سيارة قبل سنتين.. وأخي عبد الرحمن يصارع الموت في أمريكا.. وأنا في أول طريق لا تعرف نهايته..

التفت أبي إلى الطبيب.. وحاول أن يتجلد وهو يسأله عن خطورة المرض.. لكن عاطفة الأبوة كانت أقوى.. فبدأت الدموع تسيل من عينيه..

قال الطبيب:لا تحزن يا أبا عبد الله.. الأمر سهل إن شاء الله.. اطمئن..

قال أبي : يا دكتور.. نريد أن تعطينا الأوراق والفحوصات الخاصة بعبد الله وسوف يسافر إلى أمريكا.. يعالج هناك مع أخيه..

وافق الطبيب على ذلك.. أخذ أبي الأوراق.. وتمت الحجوزات بسرعة.. وسافرت إلى أمريكا مع أخي عبد العزيز..

وصلنا إلى المستشفى مساء.. عملوا لي التحليلات والفحوصات اللازمة..

كل شيء تم بسرعة..

وفي الصباح أدخلوني غرفة العمليات.. كم هي غرفة مفزعة.. أجهزة هنا
وهناك.. سكاكين ومقصات ومشارط.. كأني في مشرحة.

وجوه واجمة.. وأعين تنظر إليك بتلهف كأنما تريد أن تفترسك..

أيدي الأطباء تألف الدماء.. لا أتصرف في نفسي بل هم يتصرفون في كيفما شاءوا.. حملوني ( نعم حملوني حملاً ) من على السرير المتحرك إلى سرير العمليات..

بسم الله.. لا إله إلا الله.. ذكرت الله ذكراً كثيراً..

بقيت أنتظر بداية العملية.. وأتأمل في وجوه من حولي..

رفعت يدي إلى رأسي أتحسسه.. مسكين يا رأسي!!كيف سيكون حالك بعد قليل.. وقف الممرضون ينتظرون.. يظهر أن الطبيب الذي سيباشر العملية لم يصل بعد.. فجأة فتح باب غرفة العمليات ودخل رجل لا ترى منه إلا عينيه.. صافحني بلطف.. ثم أشار إلى أحدهم فجأء بإبرة كبيرة ( إي والله كبيرة ) ثم طعن بها فخذي فكان آخر عهدي بالدنيا.. دخلت في غيبوبة تامة.

حلق الطبيب شعر رأسي.. ثم قطع فروة رأسي على هيئة دائرية.. ثم بدأ ينشر عظم الجمجمة.. حتى نزع أعلاها .. ووضع العظم بجانبه.. ولم يكن حجم هذا العظم صغيراً.. كان بحجم الصحن الصغير..

ثم اخرج الورم.. وكان أكبر من البيضة بقليل..

الأمور تسير على ما يرام..

وفجأة اضطرب الدم في عروق الدماغ.. ثم توقف الدم في الشرايين وأصابتني جلطة في الدماغ..

فاضرب الطبيب وحرّك – خطئاً – الأعصاب المتصلة بالمخيخ فأصابني شلل نصفي في الجزء الأيسر من جسمي..

فلما رأى الطبيب ذلك أنهى ما تبقى من العملية بسرعة.. وسارع إلى إرجاع عظم الجمجمة إلى مكانه.. وغطى بالجلد فوقه.. وخيّط المكان..

ثم حملوني من على سرير العملية وألقوني فوق السرير المتحرك.. وساقوني إلى غرفة العناية المركزة التي يسمونها غرفة ال(إن عاش)

مكثت بعد العملية في غيبوية تامة لمدة خمس ساعات..

وفجأة أصابتني جلطة في الرجل اليسرى.. فحملوني سريعاً إلى غرفة العمليات وفتحوا صدري ووضعوا لي فلتراً صغيراً على أحد شرايين القلب.. ثم أعادوني إلى غرفة ال( إن عاش ) استقرّت حالتي أربع ساعات.. ثم أصبت بنزيف شديد في الرئة..!!..

حملوني للمرة الثالثة – أو لعلها الرابعة – إلى غرفة العمليات وفتحوا صدري مرة أخرى ونظفوا الرئة من الدم.. وعالجوا النزيف.. ثم أعادوني إلى غرفة ال(إن عاش).. ضاق الطبيب بأمري ذرعاً.. أمراض متتابعة.. حالة متقلبة.. مفاجآت لا آخر لها.. استقرّت حالتي أربع وعشرين ساعة.. أحس الطبيب بشيء من الانتعاش والسرور .

وفجأة بدأت حرارة جسدي ترتفع بشكل مخيف..

أجرى الطبيب فحصاً سريعاً عليّ..فاكتشف بعد الفحص الدقيق أن العظم الذي استخرج الورم من تحته قد أصابه التهاب شديد.. ولا بدّ من إخراجه وتعقيمه.. قبل أن يؤدي إلى تسمم في الدماغ!!

استدعى الطبيب فريق العمليات.. ثم حملوني كالجنازة.. وألقوني على سرير في غرفة العمليات..

بدأت أنظر إليهم.. لا أملك من أمري شيئاً.. وكلت أمري إلى الله.. غلبني البكاء فبكيت تمنيت أن أرى أمي وأبي لأقبل أيديهما.. بل والله وألثم أرجلهما.. قبل أن أودع الدنيا.. دعوت الله واستغثت به : ربِّ إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين.. ثم رفعت بصري إلى السماء وقلت : يا أرحم الراحمين.. إن كانت هذه عقوبة فأسأل الله المغفرة والرحمة.. وإن كانت بلاء فارزقني الصبر على البلاء.. وعظم لي الأجر والجزاء.. ثم غلبني البكاء.. فأخذ الممرضون يصيحون بي بلغة أعجمية.. لم أفهم ما يقولون.. لكني كنت أعلم أنهم يصمتونني.. غالبت نفسي.. وتصبرت..

ذكرت هادم اللذات.. وتفكرت في انحلال الملذات ..

طالما سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي..

كلما نصحني الناصحون.. قلت:عن قريب أتوب.. وما تبت..

قد غرّني فيما مضى شبابي.. وجمال سيارتي وثيابي.. ونسيت الاستعداد للحياة الأخرى.. والله لقد عظمت كربتي.. وذهبت قوتي.. وغداً يصبح التراب فراشي.. ليتني كنت من قوّام الليل.. الذين أطار ذكر النار عنهم النوم.. وأطال اشتياقهم إلى الجنان الصوم..

فنحلت أجسادهم.. وتغيرت ألوانهم..

تفكرت في الحشر والمعاد.. وتذكرت حين يقوم الأشهاد..

ويلي.. إن في القيامة لحسرات.. وإن في الحشر لزفرات.. وعلى الصراط عثرات.. وعند الميزان عبرات.. والظلم يومئذ ظلمات.. والكتب تحوي أخفى النظرات.. والحسرة العظمى عند عرض السيئات.. فريق في الجنة يرتقون الدرجات.. وفريق في السعير يهبطون الدركات.. وما بيني وبين هذا إلا أن يقال : فلان مات..

وأخشى أن أصيح: ربّ ارجعوني.. فيقال : العمر.. فات..

عجباً للموتى.. جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا.. وبنوا مساكنهم فما سكنوا.. تباً لهذه الدنيا.. أولها عناء.. وآخرها فناء.. حلالها حساب.. وحرامها عقاب.. تفكرت في حالي..

فإذا عمري محدود.. ونفسي معدود.. وجسمي بعد الممات مع الدود..

آه.. إذا زلت يوم القيامة القدم.. وارتفع البكاء وطال الندم..

ويلي إذا قدمت على من يحاسبني على الصغير والكبير ..

يوم تزل بالعصاة الأقدام.. وتكثر الآهات والآلام.. وتنقضي اللذات كأنها أحلام.. ثم بكيت.. نعم.. بكيت وتمنيت البقاء في الدنيا.. لا لأجل التمتع بها.. وإنما لأصلح علاقتي بربي جل جلاله..

وفجأة..

أقبل الطبيب نحوي.. فأردت أن أسأله عن المرض.. ولماذا هذه المضاعفات.. فلم يلتفت إليّ.. وإنما أمر بتخديري تخديراً عاماً..

فلما غبت عن الدنيا.. سل سكاكينه ومشارطه..

ثم انتزع فروة الرأس التي تغطي العظم.. وأخرج العظم ووضعه جانباً.. ثم أعاد الجلد فوق الدماغ من غير عظم!!..

استغرقت العملية ساعات.. وبعدها حملوني.. وألقوني على سرير في غرفة ال ( إن عاش) أفقت من إغمائي.. فإذا الأجهزة تحيط بي من كل جانب.. هذا لقياس التنفس.. وهذا لقياس الضغط.. والثالث لضربات القلب.. والرابع.. والممرضون يحيطون بي من كل جانب..

تعجبت من هذه المناظر.. أين أنا.. بقيت واجماً..

ثم تذكرت أني في أمريكا.. وأني قد كنت في غرفة العمليات..

رفعت يدي وتحسست رأسي فإذا هو ليّن.. أين العظم؟!.. بالأمس كان رأسي مكتملاً.. بكيت.. سألت الطبيب : أين بقية رأسي ؟!!

فقال لي بكل برود : عظمك يبقى عندنا لتعقيمه.. وبعد ستة أشهر ترجع إلينا لنعيده مكانه.. مكثت أياماً تحت العناية المركزة.. ثم أخرجت منها..

مكثت في أمريكا شهراً كاملاً.. ثم رجعت إلى الرياض ..

وها أنذا أنتظر الأشهر الستة لأستعيد بقية رأسي !!..

ثم سكت عبد الله.. وهو يدافع عبراته.. وحق له أن يبكي..

أما أنا..

فاستمعت منه هذه الكلمات.. وأنا في أشد العجب من تقلب الزمان على أهله.. فبعد ما كان شاباً مفتول العضلات.. بهيّ الوجه.. يتقلب بين المال الوفير.. والوظيفة.. والصحة.. والعائلة المرموقة.. و.. ثم هو الآن على هذا الحال..

فسبحان من يقضي ولا يُقضى عليه..

ما أحقر هذه الدنيا.. حقاً إن الآخرة هي دار القرار..

ومضت الأيام.. وأنا أزوره من حين لآخر..

ومع العلاج منَّ الله عليه فشُفي من الشلل واستطاع المشي..

فانقطعت عنه مدة.. ثم اتصل بي وأخبرني أنه سيسافر إلى أمريكا لاستعادة بقية
رأسه.. وبعد رجوعه جئته زائراً فإذا وجهه متهلل فرح مسرور.. وقد أكمل الله عليه نعمته واستعاد بقية رأسه.. وناولني بطاقة يدعوني فيها إلى زواجه..

أما حال الشاب الآن فهو من الصالحين.. بل من الدعاة إلى الله تعالى.. الذين يخدمون الدين بكل ما يملكون..

إن نظرت إلى المساكين وجدت أنه يكفل عدداً منهم.. يتولى جمع الزكوات وإنفاقها عليهم بل إن له باعاً في تنسيق المحاضرات لبعض الدعاة..

والمساعدة في طباعة الكتب وتوزيعها.. إلى غير ذلك من وجوه الخير.. ﴿ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً.. ﴾

أسأل الله تعالى لي.. وله.. ولك.. ولجميع المسلمين الثبات على دينه.. آمين.

إخواني شاهدوا هذا المقطع

واسمعوا هذه الأمنيات الثلاث لشاب مشلول


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 1 فبراير, 2024 عدد الزوار : 278 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم