هل يجوز التعويض في سداد الدين بعد انهيار الجنيه المصري ؟
شخص أقرض آخر مبلغ منذ عشر سنوات هل يجوز أن يطلب منه أكثر من أصل المبلغ بعد خفض قيمة الجنيه المصري وتبعاته ؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالأصل في ردِّ القرض أن يكونَ بمثلِ العملةِ التي اقترضها وإن تغيَّرت قيمةِ العملة .
لكن إن كان التغيُّر في قيمة العملة كثيرًا، فإنَّ هذا ضررٌ بَيِّنٌ يجب رفعه بالصلح العادل بين الطرفين، فإن لم يصطلحا فيُرفع ذلك الضرر بالتحكيم أو اللجوء إلى القضاء.
وتفصيل ذلك :
أولا / إذا كان الدَّين الثابت في الذمة من العملات الورقية، ثم بطل التعامل بها لأي سبب من الأسباب، فالواجب ردُّ قيمة هذه العملة من عملة أخرى أو من الذهب والفضة؛ وذلك لتعذر الأصل وهو المثل، فيُصار إلى القيمة، وفي هذه الحال ينظر إلى القيمة في يوم قبض الدَّين، أو ثبوته في ذمته، على الراجح من أقوال العلماء.
قال ابن قدامة في “المغني”: “وَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ فُلُوسًا.. فَحَرَّمَهَا السُّلْطَانُ، وَتُرِكَتْ الْمُعَامَلَةُ بِهَا، كَانَ لِلْمُقْرِضِ قِيمَتُهَا، وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهَا ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ فِي مِلْكِهِ “.
فيُقَوِّمُهَا كَمْ تُسَاوِي يَوْمَ أَخَذَهَا؟ ثُمَّ يُعْطِيه، وَسَوَاءٌ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ” انتهى بتصرف يسير.
ثانيا / إذا كان الدَّين الثابت في الذمة من العملات الورقية، ثم رخصت قيمتها أو غلت مع بقاء التعامل بها، فقد اختلف العلماء في الواجب سداده على المَدين (من عليه الدين).
وقد بحث المسألة عدد من الهيئات والمجامع الفقهية والفقهاء، واختلفت آراؤهم، وأقرب الأقوال في المسألة هو التفريق بين حالتين:
الأولى: إذا كان الغلاء والرخص في قيمة العملة يسيرًا بحيث لا يصل الانخفاض أو الغلاء إلى الثلث، ففي هذه الحال يكون الواجب: ردُّ المثل؛ فالغَبن اليسير، أو الغلاء والرخص اليسير مغتفر شرعًا، ولا تخلو منه المعاملات عمومًا، ولما فيه من تحقيقِ أصل تشريعي مهم وهو استقرار التعامل بين الناس.
الثانية: إذا كان التغير في قيمة العملة يبلغ الثلث فأكثر، وتنازع الطرفان في طريقة السداد ولم يتراضيا، ففي هذه الحال يجب المصير إلى التصالح بين طرفي العقد بحيث يتم تقدير الخسارة، ويتحمل كل طرف منهما جزءًا منها برضاهما.
لأن هذا التغير والضرر لا حيلة لواحدٍ منهما في وقوعه، بل هي جائحة مِن قضاء الله وقدره.
كما أن الضرر متحقق في هذه الصورة على الطرفين، فالإلزام بدفع المثل فيه ضرر بيِّن على الدائن، والإلزام بدفع القيمة فيه ضرر بيِّن على المَدين، والعدل يقتضي ألا يخص أحدهما بالضرر، بل يتوزع الضرر عليهما بالصلح.
أما تحديدُ القدر المؤثر في تغير قيمة العملة بالثلث؛ فلأنَّ الثلث هو الحد الفاصل بين الكثرة والقلة كما ثبت في العديد من النصوص الشرعية.
وَلِأَنَّ الثُّلُثَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَمَا دُونَهُ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَصِيَّةِ: (الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ آخِرُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، فَلِهَذَا قُدِّرَ بِهِ”.
وهذا ما نصَّت عليه توصيات “الندوة الفقهية الاقتصادية لدراسة قضايا التضخم” التي عقدها مجمع الفقه الإسلامي بجدة بالتعاون مع مصرف فيصل الإسلامي بالبحرين في عام (1420 هـ_ 1999م):
“أ- إذا كان التَّضخُّم عند التعاقد متوقعًا، فإنه لا يترتب عليه تأثير في تعديل الديون الآجلة، فيكون وفاؤها بالمثل وليس بالقيمة، وذلك لحصول التراضي ضمنًا بنتائج التضخم، ولما في ذلك من استقرار التعامل.
ب- إن كان التَّضخُّم عند التعاقد غير متوقع الحدوث ثم حدث التَّضخُّم:
فإن كان التَّضخُّم يسيرًا فإنه لا يعتبر مسوغًا لتعديل الديون الآجلة؛ لأن الأصل وفاء الديون بأمثالها، واليسير في نظائر ذلك من الجهالة أو الغرر أو الغبن مغتفر شرعًا.
وإذا كان التضخم كثيرًا (وضابط التضخم الكثير أن يبلغ ثلث مقدار الدين الآجل)، فإن وفاءَ الدين الآجل حينئذ بالمثل يُلحق ضررًا كثيرًا بالدائن يجب رفعه.
والحل لمعالجة ذلك: اللجوءُ إلى الصلح، وذلك باتفاق الطرفين على توزيع الفرق الناشئ عن التضخم بين المدين والدائن بأي نسبة يتراضيان عليها ” انتهى باختصار.
والصلحُ وإن كان في أصله مندوبًا لكن قد يَعرض له من العوارض ما يجعله واجبًا متحتمًا على كلا الطرفين، قال ابن عرفة: ” وَهُوَ -أَيْ: الصُّلْحُ- مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَقَدْ يَعْرِضُ وُجُوبُهُ عِنْدَ تَعْيِينِ مَصْلَحَةٍ ” نقله عنه في مواهب الجليل.
ثالثا: يستند القول بوجوب الصلح في حال تغير قيمة العملة إلى مجموعة من الأصول والقواعد الشرعية، وهي:
1- عمومات النصوص الشرعية الآمرة بالعدل والإنصاف، والنهي عن الظلم.
2- وقوع الضرر على طرفي العقد، والقاعدة الشرعية تنص على رفع الضرر والتخفيف منه قدر المستطاع، فلا ضرر ولا ضرار، وليست مراعاة حق أحد العاقدين بأولى من الآخر.
3- قاعدة (وضع الجوائح) الثابتة في السنة الصحيحة، كما جاء عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ)، رواه مسلم.
و(الْجَوَائِح): الآفات غير الآدمية التي تصيب الثمار فتهلكها.
ومعنى الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرَ بالحطِّ من قيمة التعاقد الذي أصابته جائحة فقضت عليه.
4- القول بوجوب رد المثل في حال التغيُّر الفاحش فيه مراعاة للصورة الظاهرة الشكلية للنقود، دون اعتبار للمعنى الحقيقي لهذه النقود وقوتها الشرائية، فثمنية النقود الحقيقية لا تتحقق إلا بالجوهر والصورة، وإذا نقصت قيمتها كثيرًا تعيَّبت وصارت قيمية لا يلزم فيها رد المثل.
5- لا يصح قياس العملات الورقية المعاصرة على ما ذكره العلماء من وجوب رد المثل في الذهب والفضة؛ لأن الدنانير الذهبية والدراهم الفضية لا تفقد قيمتها وإن رخصت، بخلاف العملات الورقية التي لا قيمة لها في ذاتها، وإنما أخذت صفة الثمنية بقوتها القانونية، وتعارف الناس واصطلاحهم عليها.
6- القوة الشرائية للنقود بمثابة الروح للبدن، منها تستمد النقود الورقية قدرتها على أداء جميع وظائفها، فنقصانها عيب مؤثر يحول دون إلزام الدائن بها؛ لكونها بعد نقص قيمتها الشرائية دون حقه الذي رضي به في العقد.
7- الزيادة التي يأخذها الطرف المتضرر -سواء كان دائنًا أو مدينًا- ليست من الربا المحرم، إذ هي في الحقيقة تعويض لنقص القيمة التبادلية للنقود، فلا ظلم فيها، وإنما الظلم في الزيادة إذا كانت دون مقابل.
رابعا: إذا تعذَّر الصلح بين الطرفين فيلجأ إلى التحكيم بينهما، أو القضاء ليفصل بينهم ويحدد حجم الضرر النازل بكل طرف.
ولا ينبغي لأحدهما التعنت برفض اللجوء إلى إحدى الوسائل السابقة”.
خامسا : ما سبق من أحكام إنما هو في حال وجود خصومة ومنازعة من الطرفين أو أحدهما، أما إذا تراضيا بالمعروف على الزيادة أو النقصان عند سداد الدين أو الوفاء بالثمن، أو المهر، أو نحو ذلك، فإن هذا جائز شرعًا، بل مُرغَّبٌ فيه، وهو داخل في باب الإحسان إلى المسلم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَقَاضَاهُ بَعِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَعْطُوهُ. فَقَالُوا: مَا نَجِدُ إِلَّا سِنًّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: أَوْفَيْتَنِي أَوْفَاكَ اللَّهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطُوهُ، فَإِنَّ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَحْسَنَهُمْ قَضَاءً) رواه البخاري.