ما حكم التعامل في العملة الإلكترونية (البتكوين) ؟
بحث فقهي لدارالإفتاء المصرية
“البتكوين” قائلة : إن”عملة البتكوين “Bitcoin” من العملات الافتراضية “Virtual Currency” التي طُرِحت للتداول في الأسواق الماليَّة في سنة 2009م، وهي عبارة عن وحداتٍ رقَمية مُشَفَّرة، ليس لها وجودٌ فيزيائيٌ في الواقع، ويمكن مقارنتها بالعملات التقليديَّة؛ كالدولار، أو اليورو مثلًا.
والصورة الغالبة في إصدار هذه العملة أنها تُستخرج من خلال عمليَّة يُطلق عليها “تعدين البتكوين” “Bitcoin Mining”؛ حيث تعتمد في مراحلها على الحواسب الإلكترونية ذات المعالجات السريعة عن طريق استخدام برامج معينة مرتبطة بالشبكة الدولية للمعلومات “الإنترنت”، وتُجرى من خلالها جملة من الخطوات الرياضية المتسلسلة، والعمليات الحسابية المعقدة والموثقة؛ لمعالجة سلسلة طويلة من الأرقام والحروف، وخَزْنها في مَحَافِظَ “تطبيقات” إلكترونية بعد رقْمَها بأكوادٍ خاص، وكلما قَوِيت المعالجةُ وعَظُمَت، زادت حصَّةُ المستخدم منها وفق سقفٍ مُحَدَّدٍ للعدد المطروح للتداول منها.
وتتم عملياتُ تداول هذه العملة من محفظةٍ إلى أخرى دون وسيطٍ أو مراقِبٍ، من خلال التوقيع الرقَمَيّ عن طريق إرسال رسالة تحويل مُعَرَّف فيها الكود الخاص بهذه العملة وعنوان المُستلم، ثم تُرْسل إلى شبكة البتكوين حتى تكتملَ العمليةُ وتُحْفَظَ فيما يُعرف بسلسلة البلوكات “Block Chain”، من غير اشتراطٍ للإدلاء عن أي بياناتٍ أو معلوماتٍ تُفصح عن هُويَّةِ المتعامل الشَّخصيَّة.
وهذه الوحدات الافتراضية غيرُ مغطَّاةٍ بأصولٍ ملموسةٍ، ولا تحتاج في إصدارها إلى أي شروطٍ أو ضوابطَ، وليس لها اعتمادٌ ماليٌّ لدى أيِّ نظامٍ اقتصادي مركزي، ولا تخضعُ لسلطات الجهات الرِّقابية والهيئات الماليَّة؛ لأنها تعتمدُ على التداول عبر الشبكة العنكبوتية الدولية “الإنترنت” بلا سيطرةٍ ولا رقابة.
ومن خلال هذا البيان لحقيقة عملة “البتكوين Bitcoin” يتَّضحُ أنها ليست العملةَ الوحيدةَ التي تجري في سوق صرف العملات، بل هذه السوق مجالٌ لاستخدام هذه العملة ونظائرها من عملات أخرى غيرها تندرج تحت مسمى “العملات الإلكترونية”.
وفي هذا السياق لم يَفُتْ أمانةَ الفتوى بدار الإفتاء المصرية الاستعانةُ بالخبراء وأهل الاختصاص من علماء الاقتصاد؛ حيث قابَلَتْهم الأمانةُ، وكانت أهم نتائج النقاش معهم:
1- أنَّ عُمْلَةَ “البتكوين” تحتاجُ إلى دراسةٍ عميقةٍ؛ لتشعُّبها وفنيَّاتِها الدقيقة؛ كشأن صور العملات الإلكترونية المتاحة في سوق الصرف، إضافةً إلى الحاجة الشديدة لضبط شروط هذه المعاملة والتكييف الصَّحيح لها.
2- أنَّ من أهم سمات سوقِ صرفِ هذه العملات الإلكترونية التي تمُيِّزُها عن غيرها من الأسواق الماليَّة أنها أكثرُ هذه الأسواق مخاطرةً على الإطلاق؛ حيث ترتفع نسبةُ المخاطرة في المعاملات التي تجري فيها ارتفاعًا يصعب معه -إن لم يكن مستحيلًا- التنبؤُ بأسعارها وقيمتها؛ حيث إنها متروكةٌ إلى عوامِلَ غيرِ منضبطةٍ ولا مستقِرَّة، كأذواق المستهلكين وأمزجتهم، مما يجعلها سريعةَ التَّقلُّب وشديدةَ الغموضِ ارتفاعًا وهبوطًا.
وهذه التَّقلُّبَاتِ والتَّذَبْذُبَاتِ غير المتوقَّعة في أسعار هذه العملات الإلكترونية تجعلُ هناك سمةً لها هي قرينةُ السِّمَة السَّابقة؛ فعلى الرَّغم من كون هذه السوق هي أكبرَ الأسواقِ الماليَّة مخاطَرَةً، فهي أيضًا أعلاها في معدَّلاتِ الرِّبْحِ، وهذه السِّمَةِ هي التي يستعمِلُها السَّماسرة ووكلاؤهم في جذْب المتعاملين والمستثمرين؛ لاستخدام هذه العملات، مما يؤدي إلى إضعافِ قدرَةِ الدُّول على الحفاظ على عُمْلتِها المحليَّة والسَّيطرة على حركة تداول النَّقد واستقرارها وصلاحيَّتِها في إِحْكَامِ الرِّقابَة، فضلًا عن التأثير سلبًا بشكلٍ كبيرٍ على السِّياسَة الماليَّة بالدول، وحجمِ الإيرادات الضريبية المتوقَّعةِ، مع فتح المجال أمام التهرُّب الضَّريبي.
3- أنَّ التَّعامل بهذه العملة بالبيع أو الشِّراء وحيازتِها يحتاجُ إلى تشفيرٍ عالي الحماية، مع ضرورة عمل نسخٍ احتياطيَّة منها من أجل صيانتها من عمليات القَرصنة والهجمات الإلكترونية لفَكِّ التَّشفير، وحرزِها من الضَّياعِ، والتعرُّض لممارسات السَّرقة، أو إتلافِها من خلال إصابَتِها بالفيروسات الخطيرة، مما يجعلُها غيرَ متاحةِ التداول بين عامَّة النَّاس بسهولةٍ ويُسْرٍ؛ كما هو الشأن في العملات المعتبرة التي يُشترط لها الرَّواج بين العامَّة والخاصَّة.
4- أنَّه لا يُوصَى بها كاستثمارٍ آمنٍ؛ لكونها من نوع الاستثمار عالي المَخاطِر؛ حيثُ يُتعامَلُ فيها على أساس المضاربة التي تهدُف لتحقيق أرباحٍ غير عاديَّة من خلال تداولها بيعًا أو شراءً، مما يجعل بيئتِها تشهدُ تذبذُبات قويَّة غير مبررَّةٍ ارتفاعًا وانخفاضًا، فضلًا عن كون المواقع التي تمثل سِجلات قيد أو دفاتر حسابات لحركة التعامل بهذه العملة بالبيع أو الشراء غير آمنة بَعْدُ؛ لتكرار سقوطِها من قِبَلِ عمليَّات الاختراق وهجمات القرصنة التي تستغل وجود نقاطِ ضعفٍ عديدة في عمليَّات تداولها أو في محافظها الرقمية، مما تسبب في خسائر ماليَّة كبيرة.
5- أنَّ مسؤوليَّة الخطأ يتحملها الشخص نفسه تجاه الآخرين، وربما تؤدِّي إلى خسارة رأس المال بالكامل، بل لا يمكن استرداد شيءٍ من المبالغ المفقودة جرَّاء ذلك غالبًا، بخلاف الأعراف والتقاليد البنكية المتَّبعة في حماية المتعامل بوسائلِ الدفع الإلكتروني التي تجعل البنوك -عند الخلاف مع المستثمر- حريصةً على حلِّ هذا النزاع بصورة تحافظ على سمعتها البنكيَّة.
6- أنَّ لها أثرًا سلبيًّا كبيرًا على الحماية القانونية للمتعاملين بها من تجاوزِ السَّماسِرة أو تعدِّيهم أو تقصيرِهم في ممارسات الإفصاح عن تفاصيلِ تلك العمليَّات ولا القائمين بها، وتسهيل بيع الممنوعات وغسل الأموال عبر هؤلاء الوسطاء؛ فأغلب الشركات التي تمارس نشاط تداول العملات الإلكترونية تعملُ تحت غطاء أنشطة أخرى؛ لأن هذه المعاملةَ غيرُ مسموحٍ بها في كثير من الدول؛ ولذا لا يمكنُ اعتبارُ هذه العملة الافتراضية وسيطًا يصحُّ الاعتمادُ عليه في معاملات الناس وأمور معايشهم؛ لفقدانها الشروطَ المعتبرةَ في النقود والعملات؛ حيث أصابها الخللُ الذي يمنع اعتبارها سلعةً أو عملةً؛ كعدم رواجها رواجَ النقود، وعدمِ صلاحيتها للاعتماد عليها؛ كجنسٍ من أجناس الأثمان الغالبة التي تُتخَذُ في عملية “التقييس” بالمعنى الاقتصادي المعتبر في ضبط المعاملات والبيوع المختلفة والمدفوعات الآجلة من الديون، وتحديد قِيَمِ السِّلع وحساب القوَّةِ الشِّرائية بِيُسرٍ وسهولةٍ، وعدم إمكانية كَنْزها للثروة واختزانها للطوارئ المحتملة مع عدم طَرَيَانِ التغيير والتَّلف عليها؛ فضلًا عن تحقُّق الصوريَّة فيها بافتراض قيمة اسميَّة لا وجود حقيقي لها، مع اختلالها وكونها من أكثرِ الأسواق مخاطرة على الإطلاق.
كما يفترق هذا النوع من العملات عن وسائل الدفع الإلكترونية -ككارت الائتمان، وبطاقات الخصم المباشر- بعدم ارتباطه بحسابات بنكيَّةِ دائنة أو مَدِينَة، وأنه يقوم على أساسٍ مُنْفَصلٍ عن النظام النقدي المعتمَد في أغلب دول العالم، وأنه تتحدَّد قيمتُه بناءً على حجمِ المضارَبَاتِ، وإقبال الناس على تداول هذه العملة والتعامل بها فيما بينهم كبديل للنقود العاديَّة؛ التماسًا للاستفادة من مزاياها؛ حيث إنه لا يَغْرَم المتعامل بها أي رسومٍ أو مصروفاتٍ على عمليَّاتِ التَّحويلِ، ولا يخضع لأي قيود أو رقابة، فضلًا عن صعوبة تجميدِها أو مُصادَرَتهِا.
وعلى هذا: لم تتوفر في عملة “البتكوين” الشروطُ والضوابطُ اللازمةُ في اعتبار العملة وتداولها، وإن كانت مقصودةً للربح أو الاستعمال والتداول في بعض الأحيان، إلا أنها مجهولةٌ غير مرئيةٍ أو معلومةٍ، مع اشتمالها على معاني الغش الخفيِّ والجهالة في معيارها ومَصْرِفها، مما يُفْضي إلى وقوع التلبيس والتغرير في حقيقتها بين المتعاملين؛ فأشبهت بذلك النقودَ المغشوشة ونفاية بيت المال، وبيع تراب الصَّاغة وتراب المعدن، وغير ذلك من المسائلِ التي قرَّر الفقهاءُ حرمةَ إصدارِها وتداولها والإبقاء عليها وكنزها؛ لعدم شيوع معرفتها قدرًا ومعيارًا ومَصْرفًا؛ ولما تشتمل عليه من الجهالة والغش، وذلك يدخلُ في عموم ما أخرجه الإمام مسلم في “صحيحه” عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».
هذا، بالإضافة إلى أن التعامُلَ بهذه العملة يترتَّبُ عليه أضرارٌ شديدةٌ ومخاطرُ عاليةٌ؛ لاشتماله على الغرر والضَّرر في أشدِّ صورهما.
والغرر – كما عرَّفه العلامة البجيرمي الشافعي في “حاشيته على الإقناع” (3/ 4، ط: دار الفكر)- هو: [مَا انْطَوَتْ عَنَّا عَاقِبَتُهُ أَوْ تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَغْلَبُهُمَا أَخْوَفُهُمَا] اهـ.
وقد اتفق الاقتصاديون وخبراء المال على أن هذه العملة وعقودها حَوَتْ أكبر قدرٍ من الغرر في العملات والعقود المالية الحديثة على الإطلاق، مع أنَّ شيوعَ مثلِ هذا النَّمطِ من العملات والممارسات النَّاتجة عنها يُخِلُّ بمنظومةِ العمل التقليديَّة التي تعتمدُ على الوسائطِ المتعددة في نقل الأموال والتَّعامل فيها؛ كالبنوك، وهو في ذاتِ الوقت لا يُنشِئُ عملة أو منظومة أخرى بديلة منضبطة ومستقرَّة، ويُضيِّق فرصَ العملِ.
كما أنَّها تُشْبِهُ المقامَرَة؛ فهي تؤدِّي -وبشكلٍ مباشرٍ- إلى الخراب المالي على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسَّسات؛ من إفسادِ العُملات المتداولة المقبولة، وهبوط أسعارها في السُّوق المحليَّة والدَّوليَّة، وانخفاض القيمة الشِّرائية لهذه العملات، بما يؤثر سلبًا على حركة الإنتاج والتشغيل والتَّصدير والاستيراد.
ولِمَا تحويه من المخاطرة الكبيرة التي تشتمل عليها هذه العملة في أصلها؛ حيث إنها تعدُّ أشدَّ العملات في الأسواق المالية خطورةً، فإن المقبلين على شراء هذه العملة يستهدفون المضاربةَ فيها عن طريق الاحتفاظ بها مدةً؛ أملًا في ارتفاع سعرها بشكل غير عادي، مما يؤدي إلى تضاعف الأرباح، وهو ما يكذبه تتبع أخبار ومعلومات سوق هذه العملة؛ حيث تكررت سرقة الملايين من هذه العملة، ومن ثَمَّ أدَّى مباشرة لانخفاض سعرها بشكل كبير، ولا يمكن تحمل مثل هذه الخسارة من قِبل أي بنك أو مؤسسة مالية فضلًا عن الأفراد العاديين، وهو ما يؤدي لاستنزاف ثروات الناس وأموالهم وضياعها في شيء غير معلوم.
وأما اشتمال هذه العملة والممارسات الناتجة عنها على الضرر، فيتمثل في جهالة أعيان المتعاملين بها وهوياتهم، وإذعان العميل بتحمله الكامل لنتائج هذه المعاملة شديدة المخاطرة مع جهالة أغلب العملاء المستخدمين لهذه العملة للقواعدِ المهنية التي يجبُ اتباعُها لتخفيف احتمالات الخسائر، بل عدم وجود قواعد مهنية أو حماية قانونية كافية يمكن التحاكُم إليها، بما يعني عدمَ قدرةِ العميلِ على مقاضاةِ السمسار إذا خالف أوامر العميل أو ارتكب خطأً مهنيًّا جسيمًا ترتب عليه خسارةُ العميل.
بالإضافة إلى تعدي تأثير التعامل بها اقتصاديًّا حيز التأثير على مدخرات الأفراد المتعاملين بهذه العملة إلى اقتصاديات الدول؛ حيث تقف الدولُ عاجزةً أمام الأضرارِ التي تقعُ على عملاتها من جرَّاء هذه الخسائرِ، بل يؤدي النظام الذي يُنَظِّم ممارسات استخدام هذه العملة حاليًّا إلى اتخاذها وسيلةً سهلةً لضمان موارد مالية مستقرة وآمنة للجماعات الإرهابية والإجرامية، وتيسير تمويل الممارسات المحظورة وإتمام التجارات والصفقات الممنوعة: كبيع السلاح والمخدرات، واستغلال المنحرفين للإضرار بالمجتمعات؛ نظرًا لكونه نظامًا مغلقًا يصعبُ خضوعُه للإشراف وعمليات المراقبة التي تخضع لها سائر التحويلات الأخرى من خلال البنوك العادية في العملات المعتمدة لدى الدول، والقاعدة الشرعية تقول: إنه “لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ”.
كما أن التعامُلَ بهذه العملة التي لا تعترف بها أغلب الدول، ولا تخضع لرقابة المؤسسات المصرفية بها والتي على رأسها البنوك المركزية المنوط بها تنظيم السياسة النقدية للدول وبيان ما يقبل التداول من النقود من عدمه -يجعل القائم به مفتئتًا على ولي الأمر الذي جَعلَ له الشرعُ الشريفُ جملةً من الاختصاصات والصلاحيات والتدابير ليستطيع أن يقومَ بما أُنيط به من المهام الخطيرة والمسؤوليات الجسيمة. وجَعَل َكذلك تطاولَ غيرِه إلى سَلْبِه شيئًا من هذه الاختصاصات والصلاحيات أو مزاحمته فيها من جملة المحظورات الشرعية التي يجبُ أن يُضرَب على يَد صاحبِها؛ حتى لا تشيعَ الفوضى، وكي يستقِرَّ النظامُ العامُّ، ويتحقَّقَ الأمنُ المجتمعيُّ المطلوب.
وقد وصف علماء المسلمين من يُنازع ولي الأمر فيما هو له من ذلك بأنه مُفتاتٌ على الإمام؛ والافتيات هو التعدي، أو هو: فعل الشيء بغير ائتمار مَنْ حَقُّه أن يُؤتمر فيه. انظر: “الشرح الكبير” للشيخ الدردير (2/ 228، ط. دار إحياء الكتب العربية، مع “حاشية الدسوقي”)، و”التوقيف على مهمات التعاريف” للإمام المناوي (ص: 57، ط. عالم الكتب).
وضرْبُ العملةِ وإصدارُها حقٌّ خالصٌ لولي الأمر أو من يقوم مقامه من المؤسسات النقدية، بل إنها من أخَصِّ وظائفِ الدولة حتى تكون معلومةً المصْرفِ والمعيارِ؛ ومن ثَمَّ يحصُل اطمئنانُ الناس إلى صلاحيتها وسلامتها من التزييف والتلاعب والتزوير سواء بأوزانها أو بمعيارها.
قال الوزير نظام الملك أبو علي الحسن الطوسي الشافعي في “سير الملوك” (ص: 233، ط. دار الثقافة، بتصرف يسير): [ضَرْب السِّكَّة لم يكن لغير الملوك في كل الأعصار] اهـ.
وقال ابن خلدون في “المقدمة” (1/ 261، ط. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت): [وهي وظيفةٌ ضروريةٌ للملك؛ إذ بها يتميَّز الخالص من المغشوش بين النَّاس في النقود عند المعاملات] اهـ.
وهذا الذي استوعبه الفقهاءُ من الشَّرع الشريف وطبَّقوه في فتاويهم وأحكامهم هو عينُ ما انتهى إليه التنظيمُ القانوني والاقتصادي للدول الحديثة؛ حيث عمدت القوانين إلى إعطاء سلطة إصدار النقد وبيان ما يقبل منه في التداول والتعامل بين مواطنيها ورعاياها تحت اختصاصات البنوك المركزية وتصرفاتها، وفق ضوابطَ مُحْكَمةٍ ومُشدَّدة من: طبْعها في مطابعَ حكوميةٍ، واستخدامِ ورق وحبر ورسومات مخصوصة، وفحصها لمعرفة التالف منها، ورقْمِها بأرقام مُسَلْسَلة.
وهذا التنظيم الحكيم في ضرب العملة وسَكِّها يجعلها تأخذُ القبولَ العام، ويحصلُ التعارف عليها كوسيط للنقد والتبادل بين الناس حسب العرف الغالب، وهو ضابط قرَّره فقهاء الإسلام في اعتبار العملة المقبولة؛ قال الإمام السرخسي في “المبسوط” (14/ 18، ط. دار المعرفة، بيروت): [الْمُتَعَارَفَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ هِيَ الْمُعَامَلَةُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ، وَإِلَيْهِ يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ التَّسْمِيَةِ، وَالتَّعْيِينُ بِالْعُرْفِ كَالتَّعْيِينِ بِالنَّصِّ.. لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الْبُلْدَانِ تَخْتَلِفُ وَتَتَفَاوَتُ فِي الْعِيَارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ الْإِنْسَانُ بِمَا هُوَ النَّقْدُ الْمَعْرُوفُ فِيهَا] اهـ مختصرًا.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في “الأحكام السلطانية” (ص: 198، ط. دار ابن قتيبة، الكويت): [وَإِذَا خَلَصَ الْعَيْنُ وَالْوَرِقُ مِنْ غِشٍّ كَانَ هُوَ الْمُعْتَبَر فِي النُّقُودِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَالْمَطْبُوعِ مِنْهَا بِالسِّكَّةِ السُّلْطَانِيَّةِ الْمَوْثُوقِ بِسَلَامَةِ طَبْعِهِ، الْمَأْمُونِ مِنْ تَبْدِيلِهِ وَتَلْبِيسِهِ، هُوَ الْمُسْتَحَقُّ دُونَ نِقَارِ الْفِضَّةِ وَسَبَائِكِ الذَّهَبِ -غير المسكوكة-؛ لِأَنَّهُ لَا يُوثَقُ بِهِمَا إلَّا بِالسَّكِّ وَالتَّصْفِيَةِ وَالْمَطْبُوعُ مَوْثُوقٌ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الثَّابِتَ فِي الذِّمَمِ فِيمَا يُطْلَقُ مِنْ أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَطْبُوعَاتُ مُخْتَلِفَةَ الْقِيمَةِ مَعَ اتِّفَاقِهَا فِي الْجَوْدَةِ، فَطَالَبَ عَامِلُ الْخَرَاجِ بِأَعْلَاهَا قِيمَةً نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرْبِ سُلْطَانِ الْوَقْتِ أُجِيبَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي الْعُدُولِ عَنْ ضَرْبِهِ مُبَايَنَةً لَهُ فِي الطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرْبِ غَيْرِهِ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَأْخُوذَ فِي خَرَاجِ مَنْ تَقَدَّمَهُ أُجِيبَ إلَيْهِ اسْتِصْحَابًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْخُوذًا فِيمَا تَقَدَّمَ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ غَبْنًا وَحَيْفًا] اهـ.
واستعمال هذه العملة في التداول يمسُّ من سلطة الدولة في الحفاظ على حركة تداول النقد بين الناس وضبط كمية المعروض منه، وينقص من إجراءاتها الرقابية اللازمة على الأنشطة الاقتصادية الداخلية والخارجية، مع فتح أبواب خلفية تسمح بالممارسات المالية الممنوعة، وذلك كلُّه من الافتيات على ولي الأمر الممنوع والمحرم؛ لأنه تَعَدٍّ على حقه بمزاحمته فيما هو له، وتَعَدٍّ على إرادة الأمة التي أنابت حاكمَها عنها في تدبير شؤونها؛ قال الإمام شمس الدين الغرناطي في “بدائع السلك في طبائع الملك” (2/ 45، ط. وزارة الإعلام العراقية) في معرِض ذكر المخالفات التي يجب اتقاؤها في حقِّ وُلاةِ الأمور: [الْمُخَالفَة الثَّالِثَة: الافتيات عَلَيْهِ -أي: ولي الأمر- فِي التَّعْرِيض لكل مَا هُوَ مَنُوط بِهِ.
وَمن أعظمه فَسَادًا تَغْيِير الْمُنكر بِالْقدرِ الَّذِي لَا يَلِيق إِلَّا بالسلطان؛ لما فِي السَّمْح بِهِ والتجاوز بِهِ إِلَى التَّغْيِير عَلَيْهِ، وَقد سبق أَنَّ من السياسة: تَعْجِيل الْأَخْذ على يَد من يتشوق لذَلِك، وَتظهر مِنْهُ مبادئ الِاسْتِظْهَار بِهِ] اهـ.
وبناءً على ذلك: فلا يجوز شرعًا تداول عملة “البتكوين” والتعامل من خلالها بالبيعِ والشراءِ والإجارةِ وغيرها، بل يُمنع من الاشتراكِ فيها؛ لعدمِ اعتبارِها كوسيطٍ مقبولٍ للتبادلِ من الجهاتِ المخُتصَّةِ، ولِمَا تشتمل عليه من الضررِ الناشئ عن الغررِ والجهالةِ والغشِّ في مَصْرِفها ومِعْيارها وقِيمتها، فضلًا عما تؤدي إليه ممارستُها من مخاطرَ عاليةٍ على الأفراد والدول .
والله تعالى أعلى وأعلم