تفسير سورة الكهف
3- قصة أصحاب الكهف
تفسير الآيات من [9:18]
قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا* إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا* فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا* ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى* وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا* هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا* وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا* وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا* وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ [الكهف: 9-18]
ذكر ما ورد من خبر أهل الكهف
يروى في الأخبار أن هؤلاء الفتية كانوا في بيئة تعبد الأصنام ، فقالوا: كيف يتخذ الناس من حجر صنماً ثم يقول لهم ملكهم: هذه آلهتكم فاسجدوا لها وتقربوا إليها، واذبحوا عليها قرابينكم، فلما علموا الحق كفروا بالأوثان، واتخذوا مكاناً للصلاة وللعبادة، وبلغ الملك الخبر، فأرسل إليهم: ألستم مؤمنين بآلهتي؟ فقالوا: لا.
فأمهلهم للغد وتوعدهم إن لم يرجعوا عما هم فيه بأليم العقاب.
وقبل أن يأتي الغد فكروا طويلاً، فقال بعضهم لبعضهم: نحن غداً إما مشركون، ونعوذ بالله من الشرك، وإما مقتولون شر قتلة، فماذا نصنع؟!
فتداولوا الأمر، وكانوا ستة، واتفق الكل على الفرار بدينهم ، وبينما هم ذاهبون إذا بكلب أحد الرعاة ينبح عليهم في ظلام الليل وهم يهربون متخفين، فلما عرف قصتهم قال أنا خارج معكم فاصطحبوه معهم وتبعه كلبه، فأصبحوا سبعة وثامنهم كلبهم، فلما أوشك الصبح أن يطلع خافوا من انكشاف أمرهم ، ويتتبعهم جنود الملك الظالم فقالوا نأوي إلى كهف خلال النهار، فنستريح ، ثم نكمل المسير في الليلة التالية ، فدلهم الراعي على كهف فساروا إليه.
فلما دخلوه ضرب الله على آذانهم، فمنع أن يصل إليها سماع أي شيء، لأن النائم إذا كثرت عليه الأصوات أزعجته وأيقظته، والله أراد أن ينيمهم ثلاثمائة من السنين وتسعاً، فأصم آذانهم عن أن يسمعوا شيئاً.
وكانت الشمس تدخل عليهم صباحاً ومساء ولا تمسهم، فيبقى شعاعها وضوؤها، وإلا لو مستهم الشمس لأضرت بهم ،وكانوا يتحركون يميناً وشمالاً، فالهواء يدخل، والشمس تنظف وتطهر، ولكن لا تمس الأجساد، بل تميل عنهم يميناً وشمالاً في الصباح وفي المساء، وجعل الله تعالى عليهم في الكهف هيبة، حتى لا يكشف أمرهم قبل أوانه. [1]
فلما أفاقوا قال بعضهم لبعض: “كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ “ [الكهف:19]، وأحسوا بالجوع الشديد ، فأرسلوا أحدهم ليأتيهم بالطعام، وأوصوه بأن يتلطف حتى لا يشعر به أحد ، فلما خرج إلى المدينة تفاجأ بأن المدينة تغيرت معالمها فالناس غير الناس ولباسه غير لباسهم، ، والبنيان والعمران والطرقات …. فكان يمشي في الطريق وعيناه زائغتان، يتساءل: هل هذه المدينة هي مدينتي؟! أم غيرها ؟ وهكذا إلى أن توقف أمام خباز ليشتري خبزا فقدم له درهماً فأخذ الخباز الدرهم، فوجده قد مضى على ضربه قرون، وكانوا غالبا ينقشون صور الملوك على الدراهم، فبدأ يحقق النظر في الشخص الواقف أمامه ، فالوجه غريب، وزيه غير الأزياء التي يلبسها الناس، ، فأمسكه، وقال له: لعلك وقعت على كنز، فإما أن تدلني عليه وأما أن أبلغ بك الإمبراطور الحاكم؟!
فارتعد وخاف أن يأخذه إلى الملك الظالم، فيلزمه بالشرك أو يقتله، فينكشف إخوانه الذين تركهم جائعين في الكهف…. ثم أخذ الخباز يطلع جيرانه على هذا الدرهم، فتجمع عدد منهمً، وإذا بالكل يلتف حوله، قائلين: من أنت؟ ومن أين جئت؟ ومن أي بلد؟
ولما لم يجب أخذوه إلى الحاكم ، وهو يظن أنهم سيأخذونه إلى الملك الظالم ، فوقف أمام الحاكم ، فوجده حاكما آخر غير الحاكم الظالم الذي توعدهم بالأمس ، فشعر بشيء من الطمأنينة .
فسألوه: من أنت ؟ ومن أين جاءك هذا الدرهم؟!
فقال: لم أسرقه، ولم آخذه من أحد، ولكن سأذكر لكم قصتي ، ثم ذكر قصته لهم وما كان من خبرهم ….وتأكيدا لكلامه قال: اذهبوا معي إلى إخواني في الكهف ، فلما دنوا من الكهف ومعه الملك وحاشيته قال لهم: ائذنوا لي أن أدخل عليهم أولا أعرفهم ما كان بيني وبينكم لئلا يفزعوا ، وطال انتظار الملك وحاشيته فأرسلوا أحدهم يستطلع الأمر فإذا بهم قد ماتوا جميعا.
تفسير قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا٩﴾ [الكهف: 9]
الكهف : الفجوة التي في وسط الجبل إذا ضاقت فهي غار، وإذا اتسعت فهي كهف.
والرقيم : الرقيم من رقم يرقم إذا كتب، وهو اللوح الذي رقمت فيه أسماءُ أصحاب الكهف، أو قصتهم؛ لما ظهر قومهم عليهم دونوا أسماءهم في لوح.
والمعنى : أن القرشيين لما سألوا النبي عن أصحاب الكهف سألوه باستعظام، وهذا الاستعظام جعل النبي عليه الصلاة والسلام، يعتقد أن أصحاب الكهف أعظم آيات الله ؛ فالله يقول لنبيه: إن خبر أصحاب الكهف، وإن كان خارقاً للعادات إلا أنه ليس أعظم الآيات، فقد جعل الله جل وعلا آيات أعظم وأعجب من نبأ أصحاب الكهف، وإن كان نبؤهم عجيباً.
تفسير قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا٩ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ [الكهف: 9-10]
“أوى ” : دخل .
الفتية: جمع فَتِى بوزن صبىّ؛ وهو الشاب الحَدَث القوي.
“وَهَيِّئْ “ يسِّر وسهِّل.
“رَشَدًا”: أَي إصابة لطريق السداد والرشاد. [2]
والمعنى : اذكر حين التجأ هؤُلاء الفتية إلى الكهف، فرارا بإيمانهم من الشرك وأهله، فقالوا ضارعين إلى ربهم: يا ربنا هب لنا من خزائن رحمتك الواسعة، وسدد خطانا، وصوبنا فيما نريد أن نصل إليه من نجاتنا، وذلك لنعبدك وحدك.
تفسير قوله تعالى: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ [الكهف: 11]
“فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ “ المراد أنمناهم إِنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات؛ لأن هؤلاء الفتية دخلوا وأووا إلى الكهف، فهم عرضة للعواصف والرياح وأصوات الحيوانات وأشياء كثيرة يمكن أن تزعج النائم، فلو تركهم الخالق سبحانه في نومهم هذا على طبيعتهم لأزعجتهم هذه الأصوات وأقلقت راحتهم ؛ لذلك عطل حاسة السمع عندهم، وبذلك استطاعوا أن يناموا كل هذه المدة.
أَي : فاستجبنا دعاءَهم عقب ندائِهم، وأَنمناهم في الكهف آمنين مطمئنين، نومةً ثقيلة طويلة تشبه الموت، بلغت سنين كثيرة تُعَد عَدّا ،وسيأتي التصريح بعدد هذه السنين في قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ … )
وتخصيص الضرب على الآذان بالذكر، مع مشاركة سائر الحواس والمشاعر لها في الحجب عن الشعور والإِدراك عند النوم – لأن السمع هو الحاسة الوحيدة التي تعمل أثناء النوم، ولذلك فإن إغلاقها ضروري لدوام النوم العميق.
ولو قال مثلًا: “فأنمناهم” فقط، لما بيّن كيفية النوم العميق ولا استمراره الطويل.
لكن استخدام “ضربنا على آذانهم” يوحي بـ إيقاف السمع تمامًا، مما يعني نومًا تامًا وهادئًا لا يُوقظهم شيء فيه
إذًا: لإدخال الإنسان في نوم طويل (مثل أهل الكهف)، لا بد من تعطيل حاسة السمع أولًا، وهذا ما يشير إليه القرآن بدقة مذهلة: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ﴾، كأن الله “عطّل” حاسة السمع ليهيّئهم للنوم لقرونٍ طويلة.
تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف: 12]
لما كانت نومة أَهل الكهف في عمقها وطولها كأنها الموت، عبر عن إِيقاظهم منها بالبعث فقال سبحانه: ” ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ” والمقصود: أيقظناهم.
(لنعلم) لنظهر ما علمناه بشأن لبثهم أي لنعلم علماً يترتب عليه الجزاء وذلك كقوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) [محمد: 31] فالله جل وعلا قبل أن يبتلينا قد علم من هو المطيع ومن هو العاصي، ولكن هذا لا يترتب عليه لا الجزاء ولا الثواب، فصار المعنى لنعلم علم ظهور ومشاهدة .
“أَيُّ الْحِزْبَيْنِ “ والمراد بالحزبين بعض الفتية: وهم المترددون القائلون: (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) – والحزب الآخر أَهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، وكان عندهم تاريخ غيبتهم .
“أَحْصَىٰ“اسم تفضيل: أي أكثر ضبطًا وإحاطةً بالمدة.
“أَمَدًا“ المقصود العدد: أي عدد السنين التي مكثوها.
والمعنى : ثم أَيقظناهم من تلك النومة الشبيهة بالموت؛ لنظهر ما علمناه بشأن لبثهم، بإِيضاح الأحداث التي مرت بهم، حتى يتبين للناس أَىُّ الفريقين أدق إِحصاءً لمدة لبثهم: ألبثوا يومًا أو بعض يوم، أَم لبثوا أَحقابًا ودهورًا؟!
والمتأمل في الآيات السابقة يجد فيها ملخصاً للقصة وموجزاً لها، وكأنها برقية سريعة بما حدث، فأهل الكهف فتية مؤمنون فروا بدينهم إلى كهف من الكهوف، وضرب الله على آذانهم فناموا مدة طويلة، ثم بعثهم الله ليعلم من يحصي مدة نومهم، وهذه الخطوط العريضة للقصة ؛ لذلك تبدأ الآيات في التفصيل.
تفسير قوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: 13]
“نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ “ ( نحن )أي : الحق سبحانه وتعالى، فهو الذي يقص ما حدث بالحق، فلو أن القاص غير الله لتوقع منه الخطأ أو النسيان، أو ترك شيء من الأحداث لهوىً في نفسه، إنما إن جاءك القصص من الله فهو الحق، كما قال في آية أخرى :﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص..﴾[سورة يوسف:3] فالقصص القرآني يضمن لك منتهى الدقة في عرض الأحداث، ويصور لك كل اللقطات.
أي نحن نخبرك الخبر اليقين الصادق عن هؤُلاء الفتية وهو ما يلي:
(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى):أَي إِنهم جماعة من الشباب هُدوا بفطرتهم إلى ربهم فاطر السماوات والأرض، فأَيقنوا إن الذي أَبدعهما هو الحقيق بأن يعبد بحق، وأَن يكون وحده ربًّا لهذا الكون وإِلَهًا، هكذا اهتَدوا إلى الله بآياته، وهكذا آمنوا بربهم على هدى وبصيرة، فزادهم ربهم بالعمل الصالح والعقل الرشيد يقينا إلى يقينهم، وإِيمانا مع إيمانهم.
تفسير قوله تعالى: ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: 14]
“ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ “ والربط يعني أن تربط على الشيء وتشد عليه لتحفظ ما فيه، كما تربط القربة حتى لا يسيل الماء، وتربط الدابة حتى لا تنفلت، كما في قوله تعالى في قصة أم موسى :﴿ وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها.. ﴾[القصص:10 ] أي : ربط على ما في قلبها من الإيمان بالله الذي أوحى إليها أن تلقي بولدها في الماء، ولولا أن ربط الله على قلبها وثبتها لانطلقت خلف ولدها تصرخ وتنتحب وتلفت إليه الأنظار .
أي قوَّينا قلوبهم وثبتناهم على الحق حين قاموا في قومهم فقالوا كلمة الحق، لا يخافون إِلا الله، ولا يرجون أحدا سواه.
“إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض“أي: حين قاموا بين يدي الملك الكافر، وأعلنوا توحيدهم لله، ورفضوا عبادة الأصنام، فقالوا ربنا وخالقنا هو رب السماوات والأرض وخالقها وحده، فهو الحقيق بألا نعبد إلا إِياه، وألا نتخذ إلها ولا رب سواه، هذا اعتقادنا الذي نحيا ونموت عليه، لن نتحول عنه أَبدا، وقولهم:
(لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا): أي: ميلاً عظيماً عن الحق .
تأكيدا لقولهم الحق الذي قالوه؛ واعتقادهم الحق الذي اعتقدوه ؛ أي والله لو قلنا غير هذا القول، وعبدنا مع ربنا الذي خلقنا إلها غيره – لكان قولنا هذا حينئذ بعيدا عن الحق والصواب غاية البعد، وكنا بعبادة غير ربنا وخالقنا مفرطين غاية الإفراط في الضلال والظلم!
وفي هذا القول الذي قاله الفتية دلالة على أنهم دُعُوا إلى عبادة الأصنام وحُمِلوا عليها وأُنذروا على تركها، وكان ذلك بين يدي الملك الجبار العابد للأوثان.
تفسير قوله تعالى: ﴿هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الكهف: 15]
أَي أشرك أهل بلدنا هؤُلاء بعبادة غير الله، من الأصنام التي اتخذوها آلهة فعبدوها معه فهلا يأتون على عبادتهم لهذه الأصنام ببرهان ظاهر وحجة واضحة!!
وهذا تبكيت صارخ؛ فمحال أن يوجد أحد سلطان بيّن على أن مع الله آلهة؛ لأنه أصلاً ليس مع الله آلهة، فالشيء غير الموجود يستحيل إثباته، فليس مع الله شريك فلا يمكن أن يأتي أحد بسلطان على أن مع الله شريك؛ لأنه ليس مع الله شريك أصلاً.
ثم بينوا أَن قومهم أَظلم الظالمين فقالوا:
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا): أَي لا أحد أشد ظلما ممن اختلق على ربه كذبا بنسبة الشريك إِليه؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا.
تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: 16]
“ينشر لكم ربكم من رحمته” فالضيق يقابله البسط والسعة، لقد قالوا هذه الكلمة وهم واثقون في رحمة الله معتقدون أن الذي هاجروا إليه لن يسلمهم ولن يخذلهم، وسوف يوسع عليهم برحمته هذا الضيق.
كان قومهم يعبدون مع الله آلهة شتى، فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله تعالى، فقال بعضهم لبعض: وإِذ فارقتم القوم بقلوبكم وبدينكم، ففارقوهم أَيضا بأبدانكم، فالجئوا إِلى الكهف لعبادة ربكم مخلصين له الدين، يبسط عليكم رحمة من عنده يستركم بها في الدارين، ويسهل لكم من أَمركم ما تنتفعون به في حياتكم، قالوا ذلك ثقةً بفضل الله تعالى، وقوةً في رجائه، لتوكلهم عليه سبحانه.
“مِرفَقًا”: المرفق : ما يُرتَفَق وينتفع به، اي ما ترتفقون به من طعام وشراب وأمن.
وقد دلت الآية الكريمة على مشروعية الهجرة ؛ ولا شك أَنه إذا اشتدت الفتن في دار الكفر، ولم يستطع من بها من المسلمين أَن يأمنوا على أنفسهم ودينهم – فعليهم أن يهاجروا حيث يأمنون على دينهم وأنفسهم ؛ وقد هاجر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بأَمره فرارا بدينهم من الفتن! ثم هاجر صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه! واحتملوا في هجرتهم أَهوالًا ثقالا، كان عاقبتَها نصرُ الله والفتح.
تفسير قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا١٧﴾ [الكهف: 17]
(تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ): تتنحى وتميل عنه.
(تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ): القرض في اللغة يُستخدم بمعنى القطع أو التجاوز.
أي أن الشمس لا تصيبهم عند غروبها.
(فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ): في مُتَّسَع من الكهف.
الآيات بينها وبين السابق ما يسمى عند البلاغيين: إيجاز حذف، وإيجاز الحذف في هذه السورة: أن الله لم يذكر أنهم اتفقوا على الكهف، ولم يذكر مسيرهم إلى الكهف، وإنما أتى بالخطاب مباشرة .
فجاءَت هذه الآية لتُبيِّن حالهم بعد أن أوَوْا إِلى الكهف استجابة لمشورة أحدهم، وقد حدث بعد لجوئهم إِلى الكهف أَنهم ناموا، ولم يدر بخلدهم ماذا يكون من أَمرهم بعد نومهم من عجائب الأمور.
فضرب الله على آذانهم حِجابًا كثيفًا يمنع سماعهم لما يجري حولهم، بأَن جعل نومهم عميقًا يشبه رقود الموتى ولم يصرح بذلك هنا اكتفاء بإِجمال حالهم من قبل في قوله تعالى: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا).
والخطاب في قوله تعالى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ) إِمَّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما لكل مخاطب .
والمعنى: وترى أَيها الباحث عن حالهم في كهفهم – ترى – الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم جهة يمين الداخل إِليه، وتراها عند غروبها تعدل عنه ولا تدخله جهة الشمال، مع أَنهم في متسع من الكهف، بحيث يمكن معه أَن يصلهم شعاع الشمس، ولكن الله تعالى حماهم من حرِّها فأبعد شعاعها عنهم حتى لا تؤذيهم بحرارتها طول النهار وكرامةً لهم، في حين أَنه سبحانه جعل الهواء يدخل إِليهم، لتبقى حياتهم إِلى حين بعثهم من رقادهم.
(ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ): أي ذلك الذي حدث من تحول أَشعة الشمس عنهم، وعدم وصول ضوئها الحارِّ إليهم طَوَالَ النهار – كل يوم مدة رقودهم – مع اتساع مدخل الكهف وصلاحيته لتوصيل أشعة الشمس إليهم – ذلك كله – من آيات الله العظيمة الدالة على كمال قدرته وحكمته في تدبيره، حيث أبطل حكم العادة، ليعلم الناس أن الحكم لله لا للأسباب العادية، كما أَنها من آيات الله على كرامة أَهل الكهف ومنزلتهم لديه، وأنه تعالى يحمى أولياءه، ويكرم أصفياءه.
(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا): أَي أن مَنْ يرشده الله سبحانه إرشادا يوصلُه إلى الحق، فهو الواصل إليه لا محالة، لأن نفسه مستسلمة إِلى إرشاد الله، ومستجيبة لآياته ودلائله.
ومن كان كذلك فله الجزاءُ الكريم في الدنيا والآخرة، أما من يصرفه الله ويبعده عن الهدى لأنه اتَّجَه بسوء اختياره إِلى الضلال وأوغل فيه، فلن تجد له معينا يرشده ويهديه إلى الحق، ويأخذ بيده إلى سواء السبيل.
وقَد أَفادت هذه الجملة من الآية الثناء على أهل الكهف والشهادة لهم بإِصابة الهدى والرشاد، وأَن ذلك كان بتوفيق الله وهدايته لهم، لسلامة فطرتهم، وصفاء قلوبهم وعقولهم وانصرافهم عن تقليد آبائهم، إلى اتباع آيات الهدى والرشاد.
وأما غيرهم من عبدة الأوثان، فقد اتبعوا هَوَاهم، وأعرضوا عن هُداهم، فتخلى الله عنهم، لأن سنة الله أن من يقبل على الله يهده الله، ومن ينصرف عن هداه، فهو متورط في الضلال، وليس له سبيل إِلى الهدى، ولا معين له على الوصول إليه، بعد أن تخلى الله عن إنقاذه، لإصراره على الضلالة. [3]
تفسير قوله تعالى: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا١٨﴾ [الكهف: 18]
(أَيْقَاظًا): جمع يَقِظ بمعنى منتبه غير نائم.
(وَهُمْ رُقُودٌ): راقدون – أي نائمون.
(بِالْوَصِيدِ): بالفِناء أمام الكهف، ويطلق الوصيد أَيضًا على العَتبَة، فلعله كان يجلس بباب الكهف ومدخله عند موضع العتبة لحراستهم.
(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ): لو رأيتهم وشاهدتهم.
والمعنى : وتظنهم أيها الناظر إليهم أَيقاظا وهم نيام ؛ لأن الغالب على النيام استرخاءُ الأعضاءِ وهيْئَاتٌ معينة، فإِن لم توجد حَسِبَهُم الرائِي أيقاظًا وإن كانت عيونهم مقفلة.
(وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ): ونقلبهم – وهم رَقُودٌ – جهة أيمانهم وجهة شمائلهم حتى لا تأكل الأرض أجسادهم.
ومعلوم أن الله قادر على أن يحفظ أجسادهم دون تقليب، لكن المقصود إجراء سنن الله جل وعلا في الكون.[4]
(وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ): أَي أن كلب أَصحاب الكهف مادٌّ ذراعيه وهو جالس على مُؤخّرته .[5]
“بالوصيد” بفِناء الكهف أو بمدخله كأنما هو يحرسهم وهم نيام. [6]
(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا): أي لو عاينتهم وشاهدتهم لأعرضت بوجهك عنهم، ولملئت منهم خوفًا بسبب ما أَلقى الله عليهم من الهيبة والجلال.
وقيل: إن سبب الرعب فيمن يراهم ما كانوا عليه من طول الشعور والأظفار وصفرة الوجوه وتغير الثياب.
وهذا القول غير مقبول، فإنهم لو كانوا كذلك لأنكروا أحوالهم بعد أَن تيقظوا، ولم يقولوا لبثنا يوما أَو بعض يوم، وَلَمَّا بعثوا أَحدهم إلى المدينة ليشتري لهم منها طعاما، وأَوصوه بأن يتلطف ولا يشعر أحدا بهم؛ لأن منظرهم يوحى إِليهم بأنهم من أهل القرون الماضية.
فلا مجال لأن يقولوا لصاحبهم في شأن الطعام ما قالوا، ولأنه لما ذهب إلى المدينة لم ينكر حال نفسه وإنما أَنكر معالم المدينة وأَهلها، فالحق أَن الله تعالى لم يغير حالهم بعد مئات السنين، ليكون ذلك آية بينة لمن يراهم بعد يقظتهم كما سنشرحه إن شاءَ الله تعالى.
أهم ما يستفاد من الآيات:
- ليس كل ما يعجب البشر هو الأعجب عند الله؛ فقصة أصحاب الكهف عجيبة، لكنها ليست أعجب آيات الله؛ فهناك أعظم منها في الدلالة على قدرته.
- قوة الإيمان تدفع للهجرة فرارا بالدين؛ فهؤلاء الفتية فروا بدينهم معرضين عن الشرك ، ثابتين على التوحيد.
- الدعاء سبب لنيل الهداية والتيسير، فدعاؤهم الصادق: “ربنا آتنا من لدنك رحمة” قُوبل بإجابة عظيمة من الله: نوم آمن، ثم بعث، ثم نصر.
- السمع هو الحاسة الوحيدة الفعّالة أثناء النوم، ولهذا قال تعالى “فضربنا على آذانهم”، فعطل عنهم حاسة السمع لئلا يزعجهم شيء ويبقوا في رقادهم الطويل.
- قدرة الله تعالى وأنه قادر على أن يحيي الموتى ؛ فقد أحيا هؤلاء الفتية من رقادهم بعد سنوات طويلة.
- الشباب هم أساس التغيير إذا وُجد الإيمان “إنهم فتية آمنوا بربهم”.
- الثبات على العقيدة يحتاج العون والتوفيق من الله” وربطنا على قلوبهم” تعني أن التثبيت من الله لمواجهة الابتلاء بثبات.
- قول الحق عند سلطان جائر من أعظم القربات، فالفتية واجهوا ملكًا جبارًا معلنين التوحيد، ما يدل على قوة عقيدتهم.
- التوحيد لا يحتاج إلى دليل؛ والشرك باطل لا دليل له، فالمشركون لا يملكون برهانًا على صحة عبادة غير الله.
- الافتـراء على الله أعظم الظلم، كأن تدّعي أن لله شريكًا أو أن تُشرِّع من عندك ما لم يأذن به الله.
- الهجرة من مكان المعصية إلى مكان الطاعة مشروعة.
- من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه، فقد تركوا الراحة، فآواهم الله في كهف، وجعل لهم فيه رحمة ومرفقًا ، وجعلهم آية للناس.
- التدبير الإلهي لحماية أوليائه؛ بتحويل أشعة الشمس عنهم دون حرمانهم من التهوية، وتقليبهم يمينا وشمالا، وحمايتهم بإلقاء الهيبة عليهم.
- من يهده الله فهو المهتدي حقًا، فالهداية بيد الله، ولا مهتدٍ بدون توفيقه، ولا منقذ لمن أضله الله بسبب عناده.
- ما حدث لهؤلاء الفتية إثبات لكرامات الأولياء، وأنها حق.
- التوفيق الإلهي يتجلى في كل مراحل قصة أصحاب الكهف؛ من الهروب، إلى النوم، إلى البعث، إلى الحماية، كلها بترتيب إلهي دقيق.
[1] اختلف في زمان ومكان أهل الكهف فقيل إنهم في العراق أو بفلسطين أو بالأردن ، وهل كان هذا بعد إرسال عيسى أم كان قبله؟ قال ابن كثير : ” لو كان هذا بعد عيسى لما دل عليه علماء اليهود، فهم لا يؤمنون بعيسى، ولا يعتقدونه نبياً، ويقذفون أمه، وكيف يدلون أهل مكة على أن يسألوا محمداً عليه الصلاة والسلام عن قصة فتية يؤمنون بما كفروا به ؟! فذلك يدل على أن هؤلاء كانوا قبل عيسى”
والذي أرجحه والله أعلم أنهم كانوا بعد عيسى u وقبل بعثة نبينا محمد e ، ومعرفة اليهود بهم ليست دليلا قاطعا على كونهم قبل موسى أو بعده ، لأنه لا تلازم بين ما يعرفونه وما يؤمنون به فقد يعرفون شيئا لكنهم لا يؤمنون به ، ومن ذلك معرفتهم بالمصطفى e ومع ذلك لا يقرون برسالته ولا يؤمنون بنبوته ، وهذه التفاصيل لا عبرة فيها ولا ينبني عليها عمل، ولا يمكن القطع بشيء من ذلك؛ ولكن العبرة فيما جرى لهم، وفيما تم على أيديهم، وفي قدرة الله، وأن البعث قد حصل في الدنيا قبل الآخرة؛ ليعلم من ينكر البعث أن الله جل جلاله قادر على البعث يوم القيامة .
[2] وفي المسند من حديث بُسْر بن أَرطاةَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: اللهم أَحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزى الدنيا وعذاب الآخرة.
[3] لأن مصدر الهدى لا يكون إلا من الله، قال تعالى: (وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم)[الحج :54] فليس هناك هدى إلا هدى الله، (قل إن هدى الله هو الهدى)[البقرة، الآية 120]، والله سبحانه وتعالى تكفل بأن يجعل لعباده جميعاً هداية البيان، وهي أن يرسل رسولاً يبين للناس مراد الله من خلقه؛ فيكون الرسول حجة الله على جميع خلقه كما قال تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)[سورة النساء، الآية 165] و (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)[سورة الإسراء، الآية 15.]
فهذه هداية بينها الله تعالى، أنه لن يؤاخذ أحداً ولن يعاقب أحداً إلا إذا بلغته الحجة وتبين له السبيل، فمن استجاب لهداية البيان، فإن الله وعده بهداية التوفيق والإعانة، ومن أعرض عن الله ومنهجه، فإن الله توعده بالخذلان والإضلال، ومن قبل هداية البيان سدده الله تعالى بهداية التوفيق والإعانة، وهذا معنى قول الحق تبارك وتعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم)[سورة محمد، الآية 17] وبيّن الله عز وجل عن عباده المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله، قال: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم)[سورة محمد، الآية 2] وفي الحديث القدسي، بيّن الله عز وجل أن العبد إذا أقبل على الله تعالى أقبل الله عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة.) رواه البخاري ومسلم.
وليس المقصود هنا حقيقة الذراع والشبر، وإنما المقصود أنك كلما أقبلت على الله أقبل الله عليك بالعون والمدد والإعانة والتوفيق.
[4] هذه الآية فيها إعجاز علمي، يظهر عناية الخالق سبحانه وتعالى بأصحاب الكهف أثناء نومهم الطويل، ويتجلى فيه علم الله بطبيعة الجسم البشري، التي لم تُكتشف طبيًّا إلا في العصر الحديث؛ فعند النوم لفترات طويلة دون حركة أو تقليب للجسم، تحدث آثار سلبية خطيرة، منها:
- تقرحات الفراش :وهي التهابات وجروح تحدث بسبب الضغط المستمر على الجلد والأنسجة، خاصة في المناطق التي فوق العظام، مثل الوركين والكتفين والكعبين، نتيجة انقطاع الدم عن هذه المناطق بسبب الثبات الطويل.
- ضمور العضلات وتصلب المفاصل: الجسم الذي لا يتحرك يُصاب بالتيبّس والضمور في العضلات والمفاصل، ما قد يؤدي إلى شلل دائم أو ضعف دائم في الوظائف العضلية.
- تجلط الدم (DVT):البقاء في نفس الوضعية قد يؤدي إلى تجمّع الدم في الأطراف، مسبّبًا تجلطات خطيرة قد تنتقل إلى القلب أو الرئتين.
وقوله: “ونقلّبهم” يدل على أن الله تولّى بنفسه هذا التقليب، وليس صدفة أو طبيعة بشرية، لأن النوم دام قرونًا، فلا يُعقل أن يكون الجسم ظل يتحرك ذاتيًا، وقوله: “ذات اليمين وذات الشمال”، يدل على حركة موزونة ومتوازنة، يمينًا وشمالًا، لتحفيز الدورة الدموية في الجانبين، وحماية جميع أجزاء الجسم بالتساوي، وفي المستشفيات الآن، يتم تقليب المرضى كل ساعتين تقريبًا لتجنّب التقرحات والمشاكل العضلية، والأطباء يوصون بهذا الأمر تحديدًا للمرضى الغائبين عن الوعي أو غير القادرين على الحركة، وهو تمامًا ما حصل مع أصحاب الكهف: نوم طويل دون وعي، لكن بحماية إلهية تامة.
فهذه الآية تسبق العلم الحديث بأكثر من ألف سنة، وتُظهر عناية الله بأوليائه حتى في نومهم، وتؤكد أن القرآن الكريم كلام الله تنزيل من حكيم حميد.
[5] من الطرائف أن بعض الجهلة يقولون إن “اسم كلب أصحاب الكهف هو (باسط)”! ولمّا تسأله: “من أين أتيت بهذا؟”، يجيبك بملء الفم: “ألم تقرأ قوله تعالى: “وكلبهم باسطٌ” فيا للعقل الفذّ! ظنّ أن كلمة “باسط” اسم علم، وليست وصفًا لحالة الكلب! ومن طرائفهم أيضًا، أن أحدهم قرأ قوله تعالى عن إخوة يوسف: ﴿فأرسل معنا أخانا نكتل﴾، فقال بثقة: “اسم أخي يوسف هو نكتل”!فيا سبحان الله! “نكتل” فعل، من الكيل والوزن، لا اسم شخص! ومثلها تمامًا، من قرأ قوله تعالى: ﴿قال سآوي إلى جبل﴾، فزعم أن اسم ابن نوح هو “سَآوي”!لا إله إلا الله… أي تفكير هذا؟! وما أكثر هذه النوادر من الذين لا يميزون بين الفعل والاسم، ولا بين الوصف والعلم!
[6] ذكر الله الكلب هنا ليبين جل وعلا أن من صحب الأخيار يلحق بهم، ولو كان كلباً ، فقد خلد الكلب بذكره في القرآن ببركة صحبته لأهل الكهف ويؤيده ما في الصحيح من حديث أنس : (أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: ما أعددتَ لها؟ قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. فقال عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت) . قال أنس رضي الله عنه: والله! ما فرحنا بعد إسلامنا بشيء أعظم من فرحنا بهذا الحديث، فكان أنس يقول: وأنا والله! أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر .