تفسير سورة الكهف
4- بعث أصحاب الكهف من نومهم
تفسير الآيات [19- 26]
يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا* إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا* وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا* سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا* وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا* إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا* وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا* قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 19-26]
تفسير قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: 19]
“ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ “بعثهم هنا بمعنى: أيقظهم من سباتهم، وذلك أنهم دخلوا في الصباح فناموا، واستيقظوا عند غروب الشمس أو قبله بقليل، فظنوا أنهم ناموا من الصباح إلى المساء
“لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ” وهنا قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ” كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ “ لو كان هناك تغير في أجسادهم بأن طالت أشعارهم أو أظفارهم، أو انحنت ظهورهم أو دب على رؤوسهم المشيب، لما قال القائل منهم: “لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ “؛ لأنه محال أن يقع هذا في يوم أو في بعض يوم.
“قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ “ ، تساءلوا فلما علموا أن التساؤل في الأمر القديم لا ينفعهم لجئوا إلى المشكلة التي يعاصرونها، وهي: أنهم جوعى يحتاجون إلى ما يسد رمقهم.
“قالوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ “ الورِق بكسر الراء الفضة المضروبة كالدراهم .
“فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا “ أطيب .
” فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ” وليستعمل اللطف في المعاملة حتى لا تقع خصومة تكشف أَمرهم.
تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا٢٠﴾ [الكهف: 20]
أي: إما يرجموكم بالحجارة حتى يقتلوكم، وفعلاً فقد كانوا يقتلون بالحجارة، أو يعيدوكم في ملة الشرك والكفر والعياذ بالله.
” وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ” أي: إذا عدتم إلى الشرك والكفر فلن تفلحوا لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة.
تفسير قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ [الكهف: 21]
( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ) الله جل جلاله قدر الأسباب في العثور على هؤلاء الشباب المؤمنين حينما ذهب ذلك الفتى الذي بعثه أصحابه يقيناً أنه أخرج تلك الورق فعرفها من أخرجها له أنها قديمة، فصار بينهما نوع من المساءلة التي تدل عليهم، وظن البعضُ أن هذا الفتى الغريب قد وقع على كنز عجيب ، فرفعوا أمره للملك الصالح ، الذي وجد ضالته حين انكشف أمرُ الفتى ، وجاءته الحجةُ الساطعةُ التي طالما انتظرها ، ففرِح أيّما فرح أن ساق الله إليه الدليل المادي على بعثِ الأبدان ، وخرجت المدينة وراء الفتى وكأنها تشيعُه حيا إلى مثواه ، فيعودُ إلى رفاقه وينضمُّ إليهم في رحلةٍ إلى دار الخلود ، بينما القوم ينتظرون أمام باب الكهف ، فلما طال انتظارُهم أجمعوا أمرهم على دخول الكهف ، فراعهم أن وجدوا الفتية قد أخذوا مضاجعهم في مشهدٍ مهيبٍ بعد أن قدموا للبشريةِ قصةً من روائع القصصِ .
وكما أيقظناهم أعثرنا الآن عليهم، أي أطلعنا عليهم أهل البلاد ، فكانت هذه آية من أعظم الآيات توقنهم بأن البعث حق، وَأَنَّ القيامة لا شك في إتيانها .
“إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ “ يتخاصمون في نومهم ثانية بعد يقظتهم أَهو موت أم هو رقود كما كانوا.
“قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ “ولا شك أن الذي غلب على أمرهم هو الملك الحاكم، وكان مؤمناً.
” لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا “ أقسموا بالله، فهذه اللام موطئة للقسم، ومؤكدة بنون التوكيد الثقيلة؛ كأنهم قالوا: والله لنتخذن عليهم مسجداً، وكأنهم تنازعوا في البناء، ويظهر أنهم كان معهم وثنيون جاءوا للاستغراب والتعجب، فقال هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم وأصبح أمرهم بيدهم .
(لنتخذن عليهم مسجداً)، ولا يكون هذا عادة إلا للسلطان، وكان الملك حاضراً ومعه كبار من قومه ورجاله.
فقوله: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) أي: مكاناً للعبادة، نسجد فيه لله.
ولم يرد في القرآن هل بنوا المسجد فعلاً أم لم يبنوه؟ إنما أخبرنا عن مقولتهم، وكونهم قالوا ذلك لا يدل على أنهم فعلوه.
حكم اتخاذ المساجد فوق القبور
استدل البعض بالآية على جواز اتخاذ المساجد فوق قبور الصلحاء والصلاة فيها، وهو استدلال باطل، فإننا لو سلمنا أن هؤلاء بنوا عليهم مسجدًا للصلاة وفق شرعهم، فإن شرع من قبلنا إنما يكون شرعا لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يَردُّه، وقد جاء في شرعنا ما يحرمه ويرده، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى، كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا عليه مسجداً، أولئكِ شرار الخلق) يقول رواة الحديث: يحذر مما صنعوا.
فالمسجد لا يجوز أن يدفن فيه ميت، ولا أن يتخذ مقبرة، ولا يجوز أن يصلى إلى قبر أو عليه.
شبهة أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم اليوم في مسجده :
فإن قال قائل: إن قبر النبي صلى الله عليه وسلم اليوم في مسجده. نقول: إن الصحابة لم يتخذوا مسجداً على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسجد بني قبل وجود القبر، وإنما الحقيقة التاريخية أن حجرة عائشة رضي الله عنها التي قبر(دفن) فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي أصلاً خارجة عن المسجد ، والمسجد كان الصف الأول منه مواز للحجرة ما يسمى بالروضة الآن وهي المكان المفروش بفراش أخضر، ويوجد إلى اليوم مكان لمحراب النبي صلى الله عليه وسلم المجاور للمنبر داخل الروضة، هذا المحراب كان موضع صلاته صلى الله عليه وسلم، فلما كانت خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وسع المسجد من جهة القبلة؛ من جهة الجنوب، والمحراب الذي يصلي فيه الأئمة اليوم هو محراب عثمان لم يصل به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما صلى فيه عثمان ، وإنما تأسينا به ؛ لأن الصحابة وهم أفقه منا وأتقى تأسوا بـعثمان عندما جعل قبلة المسجد متقدمة قليلاً من جهة الجنوب.
ثم مضى الأمر على هذا الحال حتى كانت خلافة الوليد بن عبد الملك وهو أحد خلفاء بني أمية وكان له شغف بالبناء والعمارة فأمر عامله على المدينة آنذاك وهو عمر بن عبد العزيز ابن عمه رحمه الله، أمره أن يوسع المسجد، فلما امتدت التوسعة جهة الشرق؛ ولأن الحجرة تقع في جهة الشرق أدخل الحجرات، وقد أخطأ من صنع هذا الصنيع، أخطأ خطأً تاريخياً؛ لأنه ألبس على الناس أمرهم، فظن المتأخرون من الناس أن القبر بني داخل المسجد وإلا فإن الحجرة كانت خارج المسجد في عهد الرسول ومن بعده إلى زمن خلافة الوليد وهذا كله تقريباً عام 90 هجرية، أو أكثر بقليل، فلا علاقة للقبر بالمسجد أو المسجد بالقبر.
ثم إنه في العهد الحالي عندما جاءت التوسعة توخى القائمون عليها أن تكون التوسعة شاملة للمسجد كله وإنما تأخروا من جهة الشرق قليلاً حتى لا يصبح القبر وسط المسجد، ويلاحظ في بنيان الحرم أن فيه مثل المستطيل ثم تبدأ التوسعة؛ فمكان القبر من جهة الغرب أو الشرق لا يوجد توسعة في مقدمة الصفوف، لا توجد توسعة حتى لا يصبح القبر متوسطاً للمسجد، وفي هذا محاولة لإبعاد اللبس.
تفسير قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: 22]
جاءت هذه الآية، لتبين أن بعض معاصري النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب سيخوضون في قصتهم، وأنه تعالى نهاه عن أن يخوض معهم في أمرهم، وألا يزيد على ما أنزله الله إليه في شأنهم، وألا يستفتيهم في بيان أَمرهم أكثر بما نزل به الوحي، فليس بحاجة إلى ذلك، وليسوا هم على مستوى الفتوى في أَمر لا يعلمه إلا الله وقليل من عباده.
والمعنى: سيقول الخائضون في شأنهم من أهل الكتاب:
- أهْلُ الكهف ثلاثةُ أَشخاص من الرجال رابعهم كلبهم.
- ويقول آخرون منهم: هم خمسة سادسهم كلبهم، سيقول هؤلاء وأولئك ما قالوه في عددهم ، رميا بالخبر الغائب من غير سند لما قالوه.
- ويقول جماعة ثالثة منهم: أهلُ الكهف سبعة وثامنهم كلبهم، يقولون ذلك عن ثقة وطمأنينة نفس.
ولذلك لم يتبع الله عبارتهم بما أتبع به عبارة من سبقهم، من أَنهم يرجمون بالغيب، بل أشار إِلى علمهم بقوله تعالى:(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) فهم من القليل الذين يعلمون عدتهم.
وقد صح عن ابن عباس أنه قال: “أَنا من أولئك القليل”.
(فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يريد أَن يتحدث في أمرهم من أَهل العلم مع سواه ممن يخوض في شأنهم.
والمعنى: إذا كنت قد عرفت أن من يخوض في عددهم، منهم المخطىءُ ومنهم المصيب، فلا تجادلهم في شأن هؤلاء الفِتْية إلا جدالًا ظاهرًا لا عمق فيه ، بأن تقتصر في أمرهم على ما نزل به الروح الأمين، من غير تجهيل للجاهل منهم ولا تفضيح لحاله، فإن ذلك يخل بمكارم الأخلاق التي جاء الإسلام ليتمها، ولا تستفت فيما لم يتعرض الوحي لبيانه من أحوال أهل الكهف -لا تستفت- أحدا من الخائضين في شأنهم من أهل الكتاب، فلست بحاجة بعد ما أُوحي إليك إلى المزيد من التعريف بأحوالهم، فإن فيه العبرة للمعتبر، وليس مَنْ يُسْتَفْتَى في شأنهم من أهل الكتاب أهلا للفتوى لجهالتهم أو ضحالة ما عندهم من أَمرهم.
تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا٢٣ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الكهف: 23-24]
لا يزال الكلام متصلًّا بشأن أَهل الكهف، فإن هذه الآية نزلت حين سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فقال صلى الله عليه وسلم غَدًا أُخْبركم، فأبطأ عليه الوحي ثم نزل الوحى بعد الموعد، وقد نبَّه الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ألا يقول في أي شأن من الشؤون سواءٌ كان في أمر الشريعة أو سواها -ألا يقول- إني فاعل ذلك غدًا إلا مرتبطًا بقوله: إن شاء الله فإن أَمكنه أن يفعله غدًا فعله، وإِلا فقد وقع التخلف وفقًا لمشيئة الله الذي لا يقع في ملكه إلا ما شاءه سبحانه، ونحن مكلفون بهذا التوجيه الإلهي لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه أُسوتنا وإمامنا.
ويقولون: إن الشخص إذا أراد أن يعاتب حبيبه على شيء، فإنه يعطيه الطلب ثم بعد ذلك يعقبه بالعتاب، ولا يقدم العتاب على الإجابة أو على الطلب سواءً أجاب أو لم يجب، إنما يؤخر العتاب، فالله جل وعلا أخر المدة الزمنية، ولم يعاتب نبيه، وأخبر نبيه بنبأ أصحاب الكهف ؛ ثم لما قص جل وعلا على نبيه نبأ أصحاب الكهف بالحق، قال له في نهاية الخطاب: “وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا “الكهف:23
والمعنى: ولا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله: إني فاعل ذلك غدًا أو فيما يستقبل من الزمان إلا مُقْتَرِنًا بمشيئة الله، وذلك بقولك إِن شاء الله، لتخرج من العهدة بالتخلف عن الفعل في الموعد المضروب، لعدم تحقق مشيئة الله به فيه، فإن حصل نسيان للمشيئة وقت الوعد بالفعل فليذكرها الإنسان عندما يتذكر، وفي ذلك يقول الله تعالى:
تفسير قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾ [الكهف: 24]
أي واذكر مشيئة ربك إِذا تذكرت أنك نسيتها، تداركًا لما فاتك من ذكرها .[1]
وقل أَرجو أَن يوفقني الله لشيء أقرب رشدا وَخَيْرًا من هذا الذي نسيت التعليق على مشيئة الله تعالى بشأنه.
تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ [الكهف: 25]
وهذا من الإعجاز العلمي في كتاب الله ، فثلاثمائة عام ميلادي تساوي بالضبط ثلاثمائة وتسع سنوات هجرية “، فبين الله عزَّ وجل المدة على التقويمين، الشمسي ، والقمري .
﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ ﴾ هذا بالسنة بالشمسية .
﴿ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ على التقويم القمري ، وليسَ الهجري ، إذّ لم يَكُن وقتها تقويم هجري .
لِمَ قال: (وازدادوا) ألم يكن كافياً أن يقال: ثلاثمائة وتسع سنوات؟
الجواب: هناك السنة القمرية، وهناك السنة الشمسية، فهي ثلاثمائة عام شمسية، وثلاثمائة وتسعة أعوام قمرية، لأن القرن الشمسي يزيد عن القرن القمري بثلاث سنوات في كل مائة عام، فكل مائة سنة شمسية تساوي مائة وثلاث سنين قمرية، فهي ثلاثمائة عام شمسية، وثلاثمائة عام وتسعة أعوام قمرية، ومعنى القمرية: أننا نعد أشهرها برؤية القمر، فقال تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) [الكهف:25]؛ لأن الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال هم أهل قريش، الذي أرشد قريشاً إلى أن تسأل هم أهل الكتاب، فأراد الله أن يقول: لبثوا ثلاثمائة سنين بحسب من أرشد وهم أهل الكتاب بالسنة الشمسية، وَازْدَادُوا تِسْعًا على الثلاثمائة بحساب من سأل وهم: قريش الذين يحسبون بالسنة القمرية، وهذا الجواب لا يقدر عليه إلا الله الذي أحاط بعلم أهل الكتاب، وبعلم قريش؛ لأن العلم بالفوارق بين السنين الشمسية والقمرية قلما يهدى إليه كل واحد ، لكن الله تبارك وتعالى علم نبيه ما لم يكن يعلم، وإلا فإن علم الله أعظم من ذلك وأجل.
تفسير قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا٢٦﴾ [الكهف: 26]
“قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ” أي قل يا محمد للناس: الله أَعلم بما لبثوا، فلذا حكى لكم أنهم لبثوا ثلاثمائة وازدادوا عليها تسع سنين، وفْقًا لما علمه الله من أَمرهم.
“لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ”: أي للهِ تعالى علم جميع ما غاب في السموات والأرض وخفى من أحوالها وأحوال من فيهما، فضلا عن علمه بما ظهر فيهما، ما أَعظم بصره بالأشياء وسمعه لها وعلمه بها، فهو إذ ينبئك بمدة لبثهم، فما ينبئك إِلا بالحق .
“أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ “ هذا أسلوب تعجب ، والمقصود: عظم سمع الله جل وعلا وبصره. أي : ما أشد بصره، وما أشد سمعه .
“مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا” الضمير في “لهم” يرجع إلى أهل الكهف، أو يعود على من في السماوات والأرض ؛ والأظهر: أنه يعود لكل أحد فليس لأحد ولي من دون الله.
والمعنى: قل للناس أيضًا ليس لأهل الكهف من غيره من ولى تولى أَمر إنامتهم تلك المدة، وحفظهم فيها حتى يجعلهم أمارة على البعث، ولا يشرك في قضائه بشأنهم أحدا.
وعلى القول بأن الضمير يعود لأهل السموات والأرض فيكون المعنى : أي ما لأهل السماوات والأَرض من غير الله ولى يتولى أمورهم، وفي جملتهم أهل الكهف، ولا يقبل الله شركة أحد في حكمه.
أهم ما يستفاد من الآيات:
- اليقين في قدرة الله على إحياء الموتى حين أنام أهل الكهف كل هذه المدة ثم رد عليهم أرواحهم وأعادهم للحياة مرة أخرى.
- من حسن التوكل الأخذ بأسباب الحيطة والحذر؛ فقد أوصوا من خرج بالطعام أن يتلطف ولا يُشعِر بهم أحدًا، وهذا فيه حكمة المؤمن وفطنته .
- حفظ العقيدة أهم من كل شيء، حتى من الحياة نفسها.
- أن خسارة الدين لا تعدلها خسارة قالوا: ﴿ولن تفلحوا إذا أبدا…﴾
- العبرة لا تكون بكثرة التفاصيل، بل بالمغزى فقد نهى الله نبيه عن الخوض في عدد أصحاب الكهف، مما يعلّمنا أن المقصد هو العبرة لا عددهم.
- وجوب اجتناب الصلاة في المساجد المبنية على القبور، وأن قولهم: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ على فرض أنهم فعلوا ذلك لا يدل على الجواز، لأنه من شرع من قبلنا، وقد ورد في شرعنا النهي الصريح عن ذلك.
- الحذر من الفتوى بغير علم ﴿وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ فيها تحذير من أخذ العلم من غير أهله، أو الدخول في الجدال الغيبي دون بينة.
- الموازنة بين التأدب في الجدال وعدم التوسع في الخلافات الغيبية قوله: ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا﴾ يعلمنا أن الحوار في الأمور الغيبية يجب أن يكون محدودًا دون تعمق مذموم.
- تعليمنا التعلق بمشيئة الله في كل شيء ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ ففيه أدب رفيع مع الله، وتوجيه لكل مسلم أن يعلّق أفعاله بمشيئة الله.
- الإعجاز في ذكر الفرق بين السنين الشمسية والسنين القمرية ﴿ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾، هذا التوافق بين عدد السنوات بالتقويمين (300 شمسية = 309 قمرية) لم يُعرف علميًا إلا حديثًا.
- الدقة القرآنية في التعبير الزمني الله لم يقل “ثلاثمائة وتسع سنين”، بل فصل بين العددين ليطابق الحسابين المختلفين، وهذا إعجاز بياني وعلمي فائق.
[1] وهل سواءٌ قصر الفصل أم طال؟ هذا ما جنح إليه ابن عباس، فقد أَخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه كان يرى الاستثناءَ ولو بعد سنة ويقرأُ الآية، والمراد من الاستثناء التعليق بالمشيئة ، وأَخرج ابن المنذر عن ابن جبير في رجل حلف ونسى الاستثناء -أي التعليق على المشيئة- فأفتى بأن له الاستثناء إلى شهر، ومذهب عطاء أن له الاستثناء بعد اليمين إلى مقدار حلب ناقة، أَما طاووس فإنه يرى ذلك ما دام في المجلس وجمهور الفقهاء يشترطون لصحة الاستثناء في اليمين بالتعليق على مشيئة الله أن يكون متصلًا بالمحلوف عليه، قالوا: ولو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام، لما تقرر طلاق، ولا عِتاقٌ ولا صح إقرار، ولم يعلم صدق ولا كذب، وكان أبو حنيفة لا يوافق على رأى ابن عباس، ويرى أَن التعليق بالمشيئة يجب اتصاله بما ارتبط به، فعلم بذلك أبو جعفر المنصور، فبعث إلى أَبي حنيفة ليلومه على مخالقته لرأى ابن عباس، فقال أبو حنيفة: هذا يرجع إِليك أَنت، إنك تأخذ البيعة على الناس بالأيمان، أَفَتَرْضَى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا قائلين: إن شاء الله، فيخرجوا عليك ؟ فاستحسن كلامه.
والحق في هذه المسألة أن الآية ظاهرة في أمر تفويض العبد في أُموره التي عزم عليها إلى مشيئة الله، فِإن نسيها ثم ذكرها فليقلها مهما كان الفاصل من الزمان، أما الأحكام في نحو الطلاق والعتاق والبيع والشراء ونحوها، فالآية لا صلة لها بها، ومن ثمَّ فما قاله ابن عباس راجع إلى التفويض لا إلى الأحكام، وعلى هذا فإن التعليق بالمشيئة في الأحكام إنما يَرْفَعُها إذا اتصل بها، فإِن انفصل عنها فلا يرفعها، فمثلا، له قال لزوجته: أَنت طالق، وعقبه بقوله: إن شاء الله لم تطلق، فإن تأخر التعليق بالمشيئة على الطلاق وانفصل عنه، وقع الطلاق – ولا نظن ابن عباس يخفي عليه شيءٌ من ذلك – والله أعلم.